أزمة فساد الهوية
يونس بن المبارك
هوية بريس – الإثنين 07 أكتوبر 2013م
من ظروف صعبة للعيش، ورقعة متسعة للفقر والجهل والأمية، ومن تنازعات إقليمية ونعرات قبلية طافت على السطح، ومن عتبة اقتصادية تآكلت بفعل التعرية الريعية، أزمات وأزمات.. أزمات تعصف بالمجتمع المغربي من كل جانب، ويتجاذبه تلاطم أمواجها ليجد نفسه وسط رمضاء الفقر والجهل والتيه الخلقي والأخلاقي.
أي أزمات لأي شعب؟! هذه الأزمات وإن تعددت واختلفت وتراكمت فإنها تؤول إلى أزمة واحدة، تعتبر منبعا وموردا لها، ألا وهي أزمة فساد الهوية، بل إنها منبع للانحطاط الحداثي الذي تشهده الساحة المغربية خاصة والإسلامية عامة، إذ أن الهوية تُعرَّف بمجموعة من السمات المحدِّدَة لتكتل مجتمعي ما، تتمحور على الثوابت الحقة والثقافة المتجذرة التي تشكل أساسا لكل مشروعي حداثي يهدف لرفع القيمة المادية والروحية لمجتمع ما.
فالهوية المغربية عرفت منذ سنين خلت، وخاصة الأعوام الأخيرة السابقة للاستعمار الفرنسي للمغرب، احتلالا روحيا، تجلى في أن الحداثة الفرنسية أضحت هي الحداثة الحقة، التي تشرئِبُّ لها أعناق المغاربة، خاصة أنصاف مثقفيهم ممن حسب الثقافة رداءَ الغرب ولغتَه، بل وأيدولوجياته الخاصة، فأضحت الهيمنة الفرنكوفونية أو الاحتلال الفرنسي غالب على الأفئدة المغربية، بل ورغم الحرب الضروس التي خاضتها الحركات التحررية المغربية سواء منها المسلحة أو السياسية ضد العدو الفرنسي، إلا أنها لم تتمكن من نزع هذا الاحتلال الروحي من قلوب الكثيرين، خاصة من كانت لهم يدٌ ضمن منابر الاحتلال بل وبعده! فأضحى الاستقلال المغربي استقلالا ماديا بحتا ولم يفصل التبعية الروحية للغرب. ومن تم بدأت فطريات الحداثة الغربية بواقعها العفن تتكاثر وسط شعبٍ تَنَكَّر لهويته وتبع جِرافا هارية يقف عليها وينعق بمعانيها مكبِّرا ومهلِّلا بحمدها.
والأنْكَر أن بعض المثقفين المقاومين لهذا الزحف الإيديولوجي الغربي لم يرجعوا لهويتهم الضائعة، ولم ينفضوا عنها غبار الركون، بل صمدت أفئدتهم لتطبيقات حداثية أخرى بعيدة كل البعد عن واقهم، إذ تمخضت رُآهم لتُفرز بدائل مشوهة مأخوذة من واقع المعسكر الشرقي الشيوعي، فكان أول ما تنكروا له هو دينهم فتقاليدهم ثم محيطهم الاجتماعي، فأصبحوا منعزلين منسلخين عن مجتمعهم و وطنهم.
أما المقاومة الإسلامية لهذا الزحف فكانت منحصرة في إسقاط التجربة الإخوانية المصرية على الواقع المغربي، الذي امتاز منذ قرون باستقلاليته التاريخية عن المشرق، فأفرز هو الآخر مولودا مشوها للإصلاح، إذ انسلخ من الخصوصية الثقافية المغربية وأغفلها عن استراتيجية عمله، بل وإن الإسقاطات الإسلامية الأخرى في طابعها السلفي أو الصوفي وقع في نفس الغلط فما درَأ ولا اختزل أزمة فساد الهوية، التي لم يجتهد أحد ممن أراد الإصلاح، في تعريف حدها ورسم حدودها واستخراج السمات الاجتماعية المنتجة لثمرتها، فلم يقدروا إلا على هبة عقولهم للآخر مفكرا مكانهم، واكتفوا بإسقاطٍ مجرَّدٍ من كل نقد وأخذ ورد، فكان ما كان من انحدار أخلاقي انعكس كنتيجة حتمية على كل مناحي الحياة، من اقتصاد وسياسة وفن وتعليم وصحة وأمن.. فتجرَّدت هذه الميادين من روح الأخلاق ومن سمات هويتنا، فأضحت استنساخا مشوها لواقع اجتماعيٍّ آخر.
فما أحوجنا الآن لمثقفين ومفكرين يحملون على عاتقهم عبء إحياء الهوية المدفونة، إذ لا نهضة إلا بهوية سديدة وانتماء راسخٍ، فيا تُرى أين المثقفون؟!