المسؤولية الفردية.. القوة الغائبة عن الوعي
إحسان الفقيه
هوية بريس – الإثنين 31 غشت 2015
تنطلق فلسفة الغرب المسيحي في التعامل مع الخطيئة، من كون الإنسان خاطئاً منذ ولادته، لأن أباه آدم قد ارتكب الخطيئة وأكل من الشجرة، وأن المسيح عليه السلام قد صلب -بزعمهم- ليُكفّر عن خطايا البشر.
وانسحبت هذه الفكرة بصورة مختلفة وضيقة أيضا إلى الفكر الدخيل المنسوب للإسلام، في النزوع إلى تحميل الأخطاء والقصور على الآخرين، أو المؤثرات الخارجية، حتى أن البعض يردد عبارة: لولا خطيئة أبينا آدم لولدنا في الجنة.
أنت جزء من المشكلة:
وهكذا انساب هذا النمط من التفكير، وضاع معه الشعور بالمسؤولية الفردية، فلا ترى الفرد إلا ناقما على المجموع والبيئة والدولة والعالم، محملا إياهم كل المسؤولية عن كل الكوارث الأرضية، دون أن يعتبر نفسه جزءًا من هذا المجموع أو البيئة أو الدولة أو العالم.
وتراه يتمنى أن لو سار هذا العالم الحائر على نظامه العقلي، فهو كما قال الدكتور سلمان العودة: “يعتقد ببراءة جانبه، ولا يخطر في باله أن يتهم نفسه، فآراؤه صحيحة، ومواقفه سليمة، يعرف كلّ شيء، ولو أن الناس أطاعوه لحل مشكلات العالم.. بينما عجز عن حل مشكلة عائلية.. ويخفق أمام معادلة رياضية، ولا يملك خبرة ولا دراسة، ولا هو قادر على اتخاذ قرار خاص بتغيير خلق ذميم”.
هذا القصور في إدراك المسؤولية الشخصية يخالف ما جُبل عليه الإنسان من إقامة علاقات اجتماعية بمن حوله، باعتباره أحد مكونات المجتمع، وعلى أساس أن الإنسان يؤثر ويتأثر.
يقول عباس الجراري في كتابه “الإنسان في الإسلام”: “الهوية الفردية لا تكتمل إلا بالاندماج في وعي جماعي، حينئذ يشعر الإنسان بقيمته كفرد مجرد، وقيمته كفرد في جماعة أو مجتمع، لأن فلسفة الحياة تكمن في أن ينظر الإنسان لغيره كما ينظر لنفسه”.
المسؤولية الفردية من المنظور الإسلامي:
إن تجاهل الفرد مسؤوليته عن الأحداث ومسؤوليته في التغيير، هي نظرة العجزة والغارقين في أوحال المنطق التبريري، لذلك يظل دائما يلعن الظلام، دون أن يفكر في أن يوقد شمعة.
الشعور بالمسؤولية الفردية في الفكر الإسلامي، ينطلق من كون مناط التكليف فرديا، وأن المرء سوف يسأل وحده يوم يبعث ويحاسب وحده “وكلهم آتيه يوم القيامة فردا”.
لذلك تذخر النصوص الشرعية بما يؤكد على المسؤولية الفردية، منها توجيه الخطاب بصيغة فردية: (من رأى منكم منكرا فليغيره)، (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)، (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع).
وليت الفرد يدرك أنه يسهم بصورة أو بأخرى في تشكيل الواقع من حوله، وأنه نموذج مصغر يحمل آفات هذا المجتمع، ومسؤول عن تغييره.
فرد مبدع:
استشعار المسؤولية الفردية حاضر وبقوة في التاريخ الإسلامي، ومن ذلك ما ذكره القرطبي في تفسيره: “وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك، فقال: لاضير أن أقتل ويفتح للمسلمين”.
فلم ينتظر الفارس حلولا جماعية، تمليها القيادة، إنما استشعر أهمية الجهد الفردي، ومسؤوليته تجاه أمته.
ضرير ذو بصيرة:
هو الشاعر الضرير يحيى بن يوسف الأنصاري الصرصري، علم من أعلام الإسلام، ولد سنة 588هـ، قرأ القرآن بالروايات ودرس الفقه على مذهب أحمد بن حنبل.
لما دخل هولاكو وجنوده إلى بغداد سنة 656هـ، كان الشيخ يحيى بها، فدعاه كرمونبن هولاكو للحضور، فأبى أن يجيب له، وأعد في داره حجارة، فحين دخل عليه التتار رماهم بتلك الأحجار فهشم منهم جماعة، فلما خلصوا إليه قتل أحدهم بعكازه ثم قتلوه.
أوساهير ينقل قوة أوروبا إلى اليابان:
ذلك الطالب الياباني الذي بعثته حكومته إلى ألمانيا لدراسة أصول الميكانيكا العلمية، كان يحلم بصناعة محرك صغير، وركز جهوده في صناعة نموذج يمكّنه من وضع يده على سر الصناعة.
وجد نفسه أمام لغز المحرك لا يستطيع إليه سبيلا، فقرأ يوما عن محركات إيطالية الصنع، فاشترى براتبه محركا ووضعه في حجرته وهو يقول: هذا سر قوة أوروبا.
بذل جهداً كبيراً في تفكيك المحرك ورسم قطعه لإعادة تجميعه حتى نجح في تشغيله مرة أخرى بعد ثلاثة أيام من السهر المتواصل وتناول وجبة واحدة يوميا، ثم انتقل إلى مرحلة صناعة القطع بنفسه، فالتحق بمصنع لصهر الحديد، وارتدى ملابس العمال بدلا من الطلاب، وهو يقول: في سبيل اليابان يهون كل شيء.
ولما علم الحاكم الياباني بأمره، أرسل له من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهبي، واشترى بها أدوات كاملة لمصنع محركات، وبعدما شحنها إلى نجازاكي، أراد الحاكم أن يقابله، فقال: لا أقابله حتى أنشئ مصنعا كاملا للمحركات.
فمضت تسعة أعوام، حمل بعدها عشرة محركات مكتوب عليها “صنع في اليابان” إلى قصر الحاكم، فلما أدار المحركات، قال الحاكم الياباني: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة، هكذا نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان.
تعلمها من هدهد:
ذلك الهدهد السليماني كان جندياً في جيش نبي الله سليمان، يغيب عن مجلسه لأنه قد رأى أعظم جريمة ترتكب على وجه الأرض، وهي جريمة الشرك “إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُون“.
تحرك بدافع ذاتي، واستشعار المسؤولية الفردية، فدل نبي الله سليمان على تلك الأرض، لينشر فيها نور الإسلام.
كلمة أخيرة:
في ظل ضرب الكيانات الإصلاحية والتآمر عليها، وتقويض الجهد الجماعي، خاصة بعد فشل ثورات الربيع العربي، وفي ظل هذه الشبكة المعقدة من العلاقات الدولية وتأثيرها على الشعوب، واشتعال الأزمات في الداخل والخارج، نحتاج إلى تفعيل الجهد الفردي، وعدم الاكتفاء بإلقاء التبعة على الأنظمة والحكام، فلن يؤخر ذلك ولن يقدم.
هي ثقافة لابد من نشرها والتأكيد عليها في أي محضن تربوي، وعبر منابر التوعية، بها تكتمل الجهود ونقترب من المأمول، وظني أن هذه الروح إذا سرت في بلادنا، وصار لها واقع ملموس، لن تجد الأنظمة بدا من الانسجام مع واقع تلك الشعوب.
هو حلم قد يبدو بعيد المنال، لكن الطريق الطويل نبدأه بنقل أقدامنا خطوة للأمام، فهل سنرى الأقدام تخطو نحو هذا الحلم؟