مناقشة الشيخ البشير عصام في رأيه في المشاركة في الانتخابات ..
حماد القباج
هوية بريس – الخميس 20 غشت 2015
فضيلة الشيخ الدكتور البشير عصام المراكشي؛ من أفاضل العلماء الذين نفتخر بهم في بلدنا..
ولا زلت مقصرا في أداء واجب التواصل معه؛ مما أفقدني شرف مجالسته والنهل من علمه المبارك وفكره المستنير ..
وإلى حين تشرفي بذلك؛ أستأذنه في مناقشته فيما شارك به في النقاش المجتمعي الذي يشهده بلدنا بمناسبة اقتراب موعد الانتخابات الجهوية والجماعية؛ والذي اطلعت عليه الآن في موقع هوية بريس:
وأبدأ بالقول أنني أتفق معه على مسائل مهمة تفضل بها؛ أهمها: ضرورة الحذر من تحول الرؤية الشرعية للديمقراطية؛ من: “فقه الازدحام” إلى “فقه السعة”..
وأن هذا حصل لبعض الإسلاميين مع الأسف ..
وهنا ألفت انتباهه الكريم إلى أن معاجلة هذا الانزلاق لن يتأتى بترك العمل السياسي، ومقاطعة محطاته المتنوعة؛ ومنها: التصويت في الانتخابات ..
ولو أن العلماء والفقهاء تخلوا عن الإسلاميين السياسيين؛ فمن يرشدهم ويوجههم ويعينهم على تصحيح أخطاءهم وتدارك تقصيرهم؟
لقد أفاد فضيلة الدكتور وأجاد في تحرير مسائل مهمة تكتنف الموضوع؛ لكنه لم يجب على السؤال الشرعي الجوهري فيه؛ وهو:
حكم المشاركة في حال وجود من ينافس سياسيا لإشاعة الإلحاد ومحاربة الدين من موقعه السياسي؟
مثال:
وصول إطار حزبي إلى رئاسة بلدية واستغلال منصبه لاستضافة مفكر يشيع بين الشباب المغربي الكفر والاستهزاء بالله ودينه ورسله وملائكته ..
وهذا الإطار عضو في حزب يحمل مشروعا معاديا للإسلام ..
وهو يجهر بذلك ويوظف مناصبه ومكاسبه السياسية لدعم وتعزيز مشروعه في المجتمع ..
ألا يدل الفقه الإسلامي بنصوصه وقواعده على وجوب مدافعته؛ إزاحة أو مزاحمة؟
أليس من الأولى أن يترأس تلك البلدية -مثلا- من لا يحمل مشروعا سياسيا معاديا للإسلام، ولو كان في حد ذاته مخطئا في التعامل مع الديمقراطية؟
إنني أحترم رأي من يشجع على المقاطعة من منطلق قناعة شرعية غير مسيسة ..
لكن الواقع المشار إليه؛ يجعلني أختلف معه في الرأي بقوة لأسباب؛ من أهمها:
-1 أن الدعوة إلى المقاطعة تعني تحييد كتلة انتخابية لصالح الخصم المعادي للتدين في المجتمع.
وتمكن هذا الخصم وعبثه بثوابت الشرع والوطن: مفسدة أكبر من مفسدة انحراف بعض الإسلاميين في التعامل مع الديمقراطية ..
-2 هذه الدعوة تفضي إلى مآل خطير جداً لم يراعه فضيلة الشيخ في تحليله:
وهو ما أثبتته التجربة من أن إغلاق باب المدافعة السياسية المنضبطة بالدستور والقانون -على عجره وبجره- يؤدي بكثير من الشباب إلى تطلب التغيير بالتقوقع والانكفاء على الذات ..
مما يؤدي بكثير منهم إلى حمل نظرة متطرفة عن مجتمعهم ودولتهم، وخصومهم أيضا ..
فيفضي ذلك إلى مآل فاسد؛ ألا وهو: تبني العنف المعنوي ضد المجتمع والدولة ..
وربما تطور بعد ذلك إلى عنف حسي ..
وهو حال كثير من الشباب في دول كثيرة؛ والذي يوظفه أعداء الدين لزعزعة استقرار الدول الإسلامية بالدفع بأولئك الشباب نحو العنف، بدل أن يكونوا عوامل بناء وإصلاح وتنمية، ثم حصدهم وسحقهم باعتبارهم متطرفين إرهابيين!
وهذا المآل أولى بالاعتبار -في نظري- أيضا من مآل انحراف بعض الإسلاميين في التعامل مع الديمقراطية؛ فأيا كانت انزلاقات الشباب المشارك؛ فإنها تبقى دون الانزلاق نحو العنف بكل أشكاله؛ ما لم تصل تلك الانزلاقات إلى درجة إنكار الشريعة ..
وهذه المفسدة معدومة أو نادرة؛ ومن زل بهم الفهم من المطبعين مع الفكر الديمقراطي؛ في عمومهم مقرون بالشريعة مثبتون لمرجعيتها؛ وإن زلوا في تأويلات قادتهم إليها تصورات أسهمت في تبلورها عوامل من أهمها: غياب كثير من الفقهاء عن المجال السياسي؛ تأصيلا وتنظيرا ومتابعة وتقويما ..
-3 وأيضا فإن تحييد الشباب المتدين عن المدافعة السياسية؛ يجعل قدرة العلمانيين على تغيير الدستور والقانون لصالح فكرهم؛ أكبر وأخطر ..
وَمِمَّا يضعف رأي فضيلة الدكتور الداعي إلى مقاطعة الانتخابات؛ أنه مخالف لرأي جماهير الفقهاء المجتهدين في النازلة الديمقراطية وموقف المشاركة في الانتخابات المتفرعة عنها بكل أشكالها ..
ومهما وثقنا في علم فضيلة الشيخ البشير وسداد رأيه؛ فإن رأي الجمهور ممن يفوقونه عددا وعلما؛ يبقى أقرب لإصابة الحق الذي اختلف فيه الناس؛ وناهيك بفقهاء الأمصار وعلماء الأقطار من أمثال:
محمد بلعربي العلوي، ومحمد سالم ولد عدود، وعبد الحميد بن باديس، محمد الخضر حسين، وأحمد شاكر، وابن عثيمين، والألباني ..، وغيرهم.
إنني شخصيا؛ لم أتجشم مسؤولية دعوة الشباب للمشاركة في المدافعة السياسية ولو بأصواتهم؛ لم أتجشم ذلك إلا بعد تتبع فاحص واستقراء مستبصر لآراء أولئك الفقهاء الثاقبة التي تؤكد الشواهد ومجريات الأحداث صوابها وسدادها ..
لقد أشار فضيلة الشيخ أن رأيه هذا هو رأيه منذ عقدين ..
وهذا يؤكد ضرورة قيامه بمراجعة لهذا الرأي الاجتهادي؛ نظرا لتغير الواقع السياسي بشكل كبير في بلدنا؛ حيث تتجه الأمور نحو مزيد من الحرية السياسية والتوعية بضرورة التمسك بالحقوق السياسية؛ مما فتح شهية الشيعة المغاربة للاستعداد للمشاركة ودخول البرلمان، والتحالف مع العلمانيين المتطرفين ضد ثوابت الدين كما هو دأب إخوانهم في دول ابتليت بمكرهم الكبار ..
وسنرتكب -معشر الإسلاميين- خطأ فادحا إذا حيدنا شبابنا عن هذا المجال، في الوقت الذي تعمل أحزاب وهيئات تحارب الإسلام على تشجيع شبابها لاقتحامه والهيمنة عليه ..
وهو خطأ تاريخي فادح لن تظهر عواقبه -لا سمح الله- إلا بعد عقود ..
وحينئذ يعض أهل السنة أسنان الندم؛ كما هو حالهم اليوم في دول شقيقة؛ اعتزلوا فيها المدافعة السياسية قديما؛ فصاروا اليوم مضطرين للمدافعة بالسلاح؛ ولله عاقبة الأمور ..
وهنا قد يقول قائل:
ألا ترى إلى ما آلت إليه المشاركة السياسية للإسلاميين في مصر؟
والجواب المنصف يلزمنا بمقابلة ذلك بما آلت إليه في تجارب أخرى؛ مثل: تركيا ..
والتي أعلم أن لفضيلة الشيخ فيها رأي منصف، أخالفه أيضا في بعض حيثياته ..
لكن السياق يجعلني أركز في الجواب على مأخذ آخر غير مأخذ المقارنة والموازنة:
وهو مباينة الواقع السياسي المغربي للواقع السياسي في دول الثورات ..
فنحن بفضل الله نبني إصلاحنا السياسي على ساحة مستقرة يغلب عليها توافق وطني؛ يؤثث مشهده تدافع سياسي معتدل ومتوازن ..
وهذا التوازن مكسب يجب الحفاظ عليه وتعزيزه، وعدم السماح باستئثار التوجه العلماني المتطرف بمقاليد السلطة التي يخولها الدستور للأحزاب وهيئات المجتمع المدني ..
فعزوف جزء من الإسلاميين يؤدي إلى إضعاف الإسلاميين القائمين بواجب المدافعة السياسية؛ مما يمكن خصومهم أكثر وأكثر ..
وهو ما يؤدي إلى اختلال التوازن، ويهدد بواقع شبيه بواقع دول الثورات لا سمح الله ..
وهو ما كاد يقع فعلا في المغرب؛ قبيل ما سمي بالربيع العربي؛ حيث تغول التوجه العلماني المتطرف الذي ابتلع كثيرا من مراكز القرار؛ مما جعله يعاني من تخمة جعلته يتقيأ كلمات (عذرا على اللفظ) تطفح بروح الإقصاء والاستبداد؛ من مثل ما كان يردده السيد إلياس العماري هداه الله: “مشروعنا يهدف إلى محاربة أسلمة المجتمع”!
وما ردده كثيرون منهم: “عام 2012 هو عام تطهير المغرب من الإسلاميين واستكمال مشروعنا لتونسة المغرب”!!
لكن الله أرسل عليهم فيل الربيع العربي، وأمطر عليهم حجارة من سجيل شظاياه التي شلت حركة أبرهة ملك الحبشة المتجبر المستبد ..
إن الواجب الشرعي والوطني يستلزم انخراط النخب الحية؛ ومنها: الفقهاء في تعزيز مسار الإصلاح السياسي الذي يهدف إلى القطع مع واقع عفن تنمو فيه بكتريا الاستبداد الضارة ..
وبهذا نطبق قاعدة الدين في تخفيف الشرور، ونصون وطننا من بغي فئة على أخرى، ليبقى جو التعايش الآمن المطمئن ..
إنني أعتقد جازما بأن الأولى للمشهد السياسي أن يُحَيّد عن الصراع العقدي والإيديولوجي..
لا سيما في مثل هذه الانتخابات التي نحن عليها مقبلون؛ والتي يفترض أن يترشح لها المنتخبون لخدمة المواطنين في معاشاتهم، وليس لتصفية الحسابات السياسية والإيديولوجية..
لكن هذا التصور غائب عند كثير من العلمانيين الذين يمارسون السياسة بنفس صراعي، ويعملون على توظيفها في معركتهم ضد التدين والاستقامة على منهاج الله تعالى؛ كتابا وسنة ..
وما كان الفقه الإسلامي ليسمح للمؤمنين؛ أن يقعوا في هذا الخطأ الاستراتيجي؛ المتمثل في إخلاء الساحة لمن يريد توظيف السياسة لحلق لحاهم ومصادرة حق نساءهم في ارتداء الحجاب ..
لقد كتبت هذه الورقة على عجل وأنا أحاول اقتطاع إجازة قصيرة من خضم انشغالات متلاحقة تزداد يوما بعد يوم ..
وهو عذري الذي أستشفع به لدى الشيخ البشير؛ إن وجد مني تقصيرا في حفظ مقام الاحترام الواجب له، أو في تحرير المناطات الشرعية في هذا الموضوع الكبير ..
مع تجديد التحية والتقدير وعبارات المحبة لفضيلته ..