مظاهر أزمة التعليم بالمغرب
إلياس الهاني
هوية بريس – الخميس 10 شتنبر 2015
يواجه العالم الإسلامي اليوم تحديات كبرى على جميع المستويات، كان لها من التجليات والإفرازات ما نشاهده اليوم من تخلف وتقهقر وعدم مسايرة الركب الحضاري، وذلك لغياب العنصر المهم في نهضة الأمم وتقدمها، وعدم الاهتمام والاحتفاء به كما يجب؛ وهو “العلم” إذ به تصلح المجتمعات وتنهض، وتقوم لها ركائزها ومعالمها ليتدفق زبدها، والفكر والنهضة مشعة في السماء، وقد كان للمسلمين اليد الطولى في الاهتمام بالعلم؛ ويشهد لذلك الكم الهائل من الكتب والمصنفات المدونة في فضل العلم، وأهله، وأثره على الفرد والمجتمع، وبذلك اهتم المصلحون على مر التاريخ الإسلامي بهذا القطاع الحيوي وأولوه الاهتمام البالغ في مشاريعهم الإصلاحية.
في كتابه “أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب” يبرز محمد عابد الجابري حجم جوانب الاختلال في منظومة التربية والتكوين بالمغرب منذ حصول المغرب على الاستقلال، ويقدم في ذلك مقاربة لمعضلة التعليم، محاولا الإجابة عن مجموعة من الإشكالات المطروحة؛ ففي البداية يعرض أنواع التعليم الممتدة في المغرب الذي هو نوعان: تعليم تقليدي حافظ على وجوده مضمونا وشكلا، وتعليم استعماري أقامته الحماية الفرنسية، محاولا تعرية جذور مشكل التعليم، من خلال استعراض الوقائع ليعرض حصيلة أنواع التعليم التي تواجدت أثناء الحماية، والتي منها ما كان قبلها فاحتفظ به ومنها ما أقامته بنفسها وهو التعليم الرسمي.
وهو بذلك يرمي إلى إبراز الحقائق والملاحظات الأساسية التي تثبت أن الحماية الفرنسية قد طبقت فعلا مخططها التعليمي، وبالتالي إبراز حقيقة الإطار العام الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي الذي تحرك ضمن تعليمنا منذ الاستقلال، ومنه أفرز لنا انفصاما في الشخصية المغربية، وعمق الهوة بين النخبة العصرية والنخبة التقليدية، فأصبحنا أمام نمطين فكريين متنافرين إلى حد بعيد، لذلك دعا إلى تجاوز هذه الازدواجية بإيجاد حلول توفيقية تتلاءم مع الواقع؛ وهي: التعميم والتعريب والتوحيد ومغربة الأطر.
وهذه المبادئ لم تسلم من تخبط عشوائي؛ إذ عملت على تكريس التعدد والازدواجية، وفسحت المجال واسعا للتراجع عن التعريب بدعوى المغربة أولا، وعن التعميم بدعوى انخفاض المستوى بسبب التعريب، وعن التوحيد بدعوى فتح المجال للمدارس الحرة والتعليم الأصيل ليسهم كل منهما في تعميم التعليم، مما يهيئ تعليمنا لأن يبقى يدور في حلقة مفرغة؛ رافقت نظامنا التعليمي منذ الاستقلال إلى اليوم فجعلته يعيش في أزمة دائمة، أزمة أسس، أزمة بنيات، أزمة أهداف.
فقد عرف المغرب منذ الاستقلال إلى غاية صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 2000 عدة خطوات عملية لإصلاح التعليم، تحددت في خمس مراحل توزعت على أربعين سنة، تميزت هذه المراحل بالحماس الكبير، والاندفاع نحو العمل من أجل تجاوز الإشكالات القائمة في تلك الفترة، وعلى رأسها محو الأمية، وتعميم التعليم، وإعادة هيكلة وزارة التعليم وتكوين الأطر.
وكآلية للاشتغال تم إحداث مجموعة من اللجان في كل مرحلة من المراحل كلجنة الحركة التعليمية واللجنة الملكية لإصلاح التعليم سنة 1956، وأهم ما ميز تلكم المراحل هو كثرة المناظرات والانتفاضات والتحولات السياسية، ومن بين ما سعت إليه اللجان التي تحملت مسؤولية الإصلاح هو سعيها لتنزيل المبادئ الأربعة للإصلاح، وهي تعميم التعليم، توحيد التعليم، ومغربة التعليم (الأطر)، وتعريب التعليم، ولم تسلم هذه المبادئ من إكراهات حالت دون تنزيلها على أرض الواقع، كالعامل الديموغرافي، والاقتصادي، والسياسي، وذلك استنادا إلى ما رافق ذلك من أسباب الفشل التي ارتبطت بالإعداد لهذه المشاريع، حيث غلب على جل مشاريع إصلاح التعليم الطابع التجزيئي، وعدم إشراك الفاعلين في قطاع التعليم، والبداء في إنجاز هذه المشاريع، حيث يعهد الإصلاح إلى جهات متعددة يصعب التنسيق بينها بالإضافة إلى نقص الموارد المادية والبيداغوجية.
وقد شكل الميثاق الوطني للتربية والتكوين، فرصة أساسية لإصلاح شامل لمنظومتنا التعليمية من أجل ولوج عالم المعرفة والانخراط بوعي في مستجدات الألفية الثالثة المتسمة بالتنافسية والجودة، ولإخراج منظومة التعليم من المأزق الذي وصلت إليه، ولتحديث هذه المنظومة وجعلها تساير التحولات التي يعرفها المغرب، ويعرفها العالم بفعل توسع وازدياد تحديات العولمة؛ فوثيقة الميثاق الوطني للتربية والتكوين تشكل وثيقة مرجعية ومدخلا رئيسا لإصلاحات جوهرية لنظامنا التعليمي.
وقد أدت عدة أسباب إلى ظهور وثيقة الميثاق منها؛ سياسة التوافقات والترضيات والمحاصصة، والضعف في اتخاذ القرارات الجريئة والمناسبة في الوقت المناسب، وتراكم المشاكل وتأجيل الإصلاحات، وغياب الرؤية الواضحة والمتكاملة للمشروع المجتمعي المتوخى تحقيقه، وغياب الاستمرارية في تنفيذ الاستراتيجيات، والغضب والسخط الشعبي إزاء الوضعية المزرية للتعليم، وغياب الجهوية وسيادة المركزية، وصدور تقرير البنك الدولي عن وضعية التعليم سنة 1995، ولم يسلم هو الآخر من صعوبات وإكراهات في تنزيله، وهو ما سجله تقرير المجلس الأعلى للتربية والتعليم في تقييمه لعشرية الميثاق في خمس نقاط؛ الاستثمار (تعبئة الموارد)، أولويات التطبيق، النتائج، الإنجازات، التحديات.
وقد رصد التقرير الارتفاع الكبير في الميزانية المخصصة للتعليم، مع ضعف الجودة والمردودية، فدعا إلى التكوين المستمر للمدرسين، والبحث عن مصادر أخرى للتمويل، كما وجه التقرير انتقادات واضحة في إطار الحكامة لمختلف الفاعلين الذين لم ينخرطوا في ركب الإصلاح خاصة القطاعات الوزارية المتعاقبة، فدعا إلى العمل الجماعي المتكاثف مع مراجعة بعض النصوص التنظيمية والقانونية، كما أشار التقرير إلى بعض الاختلالات التي تعتريها المناهج وطبيعة المعارف الأساسية التي ينبغي تلقينها للمتعلم، وأشار إلى عدم تحقيق مبدأ التعميم خاصة في المجال القروي، ورصد مشكل الانفصامية بين التعليم العمومي والخصوصي.
فمما غاب عن الكثير ممن تزعم قافلة الإصلاح غياب الرؤية الواضحة للإصلاح الحقيقي مما قد ينعكس إيجابا على المنظومة، ويحدث تغييرا، لا الاكتفاء على الحالة الموجودة، والانحدار من السيئ إلى الأسوأ كما هي حالتنا؛ فلا فلسفة واضحة المعالم بحيث تصبح الإجابة عن: لماذا نعلم؟ واضحة.
وبناء على هذا يتم وضع المناهج التعليمية في إطار ما يتناسب مع خصائص المجتمع وثقافته، ويعكس هويته الحضارية لتمتد جذورها في الآفاق متجاوزة الصعاب.
كما غفل أو تغافل القائمون على الإصلاح عن «مركزية القيم» ودورها المحوري والمركزي في إصلاح منشود، فما زال المغرب يتعثر ولا يجد سبيلا تستقيم الأمور عليه، لأجل تجاوز هذا الأمر والتفكير في القضايا الأخرى، فجل الإصلاحات للأسف لم تبرح مكانها.. فيا للعجب.
فلا يخفى على أحد ما نقاسيه في مجتمعاتنا جراء غياب منظومة القيم وسياسات بعيدة عن الواقع المجتمعي المغربي، وضعف القدرة على تجاوز التحديات بشكل خطير على أفراد المجتمع وطبقاته وفئاته المتعددة، وهو ما أفرز تلك الظواهر التي أصبحت المدرسة بسببها لا تحقق الهدف الذي من أجله وجدت وأنشئت؛ فظاهرة الغش، وإدمان المخدرات، وتخريج العاطلين، والعنف المتبادل بين المعلمين والمتعلمين،… كل ذلك نتيجة حتمية لغياب القيم عن ساحة التدافع والتداول بين مكونات المصلحين.