مشاريع الإصلاح والحاجة إلى الوعي السنني
د. عبد العزيز الإدريسي*
هوية بريس – الخميس 10 شتنبر 2015
حاولت وتحاول حركات الإصلاح المعاصرة أن تجيب على الإشكالات التي تعيشها مجتمعاتها، من خلال إبداع مقولات تغييرية ومشاريع إصلاحية، غير أن أغلب هذه المشاريع لم تحقق أهدافها، ولم تنجز برامجها لأسباب كثيرة ذاتية وموضوعية، داخلية وخارجية، ولا شك أن من بين أهم عوامل الإخفاق هو فقدان الوعي السنني1، إن على مستوى التنظير أو الممارسة، قيادة وأعضاء، أو على مستوى التطوير والمراجعة، وهذا لا يعني أننا نعمم هذا الحكم، بل يمكن أن نتلمس مظاهر الريادة في تنزيل مقتضيات الوعي السنني عند بعض المشاريع الإصلاحية مشرقا ومغربا2، وكيف أن استثمارها لمبدأ السننية والعمل بمقتضياته أسهم في الرفع من فاعليتها الإنجازية وتحقيق أهدافها المرحلية والاستراتيجية.
1- ما المقصود بالوعي السنني؟
نقصد بالوعي السنني هو الإدراك الحقيقي للأنظمة والنواميس والقوانين الثابتة، التي أودعها الله تعالى في كل مفردة كونية لكي تؤدي وظيفتها الذاتية والكونية بانتظام، والانتقال بهذه السنن من دائرة الإهمال إلى دائرة الإعمال3، والسننية أحد أهم مفردات التصور الإسلامية وخصائصه كما أصلها القرآن الكريم وجسدتها السنة والسيرة النبوية، ويكفي أن الله تعالى أمر المسلمين باستنباط السنن المؤطرة للنهوض الحضاري من خلال السير في الأرض والنظر في تجارب السابقين مؤمنين ومكذبين، قال تعالى: “قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين“4، ويبين سبحانه وتعالى بأن هذه السنن مترابطة يخدم بعضها بعضا بشكل مطرد ثابت مستمر لا يتبدل ولا يتغير لا يتحول، قال تعالى: “فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا“5، ويقول عز وجل: “سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولن تجد لسنتنا تحويلا“6، وغيرها من الآيات والشواهد كثير، فقد وردت لفظ سنة ثمانية عشرة مرة في القرآن الكريم، وفي تعريف للسنن يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “النواميس التي تحكم حياة البشر وفق مشيئـة الله الطليقة، وأن ما وقع منها في الماضي يقع في الحاضر إذا أصبحت حال الحاضرين مثل حال السابقين”7.
ومن ثم كان العدول عن التعامل مع السنن الجارية واكتشاف قوانين التسخير، إلى السنن الخارقة وانتظار المنقذ القادم من الغيب ليعالج التخلف والتأخر والتمزق، ويملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا وظلما، وفي هذا ما فيه من مجافاة للعقل المسلم والإنجاز الحضاري في عصر النبوة8، عصر السعادة والأسوة.
2- من معالم الوعي السنني:
أ- امتلاك رؤية استراتيجية للإصلاح، تنطلق من قيمنا الذاتية وتجربتنا الحضارية عبر قراءة منهاجية لنصوص الوحي، وتفسير موضوعي لأحداث التاريخ، واستيعاب مستبصر لمعارف العصر ومستجداته.
ب- العمل بمبدأ المشاركة والتلطف والتعاون على الخير الآخر في البناء والإصلاح، وفي هذا الصدد نستحضر الحديث النبوي الصحيح الذي يؤسس لهذا المعلم السنني: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إن أرادوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا“9، ففي الحديث الشريف تصوير بلاغي دقيق لسنن الله تعالى في التشارك والتلطف، والتعاون على الخير.
ج- التدرج في الإصلاح والتروي في تغيير الواقع وعدم الاستعجال، فهذا عبد الرحمن الكواكبي يؤصل لهذا المعلم من خلال قوله: أن الاستبداد لا يقاوم بالشدة، إنما يقاوم بالحكمة والتدريج10.
د- الجمع بين الفكر والفعل في السلوك الإصلاحي، حتى لا تكون الأفعال قبورا للأفكار، يقول محمد فتح الله كولن في كلام نفيس: “دستورنا في هذا الصدد أن الأفكار التي تسري في مفاصل الحياة المعيشة هي التي تستحق الحياة”11، ويؤكد هذا المعنى بقوله: “يعيش قسم من البشر من غير ممارسة للفكر، وقسم آخر منهم يفكر، ولكن لا يعكس فكره على واقع الحياة فقط، أما ما ينبغي فهو أن يعيش الإنسان وهو يفكر، وأن يبتكر أنماطا فكرية جديدة إذ يعيش، فيتفتح على آفاق مركبات فكرية مختلفة12.
خلاصة القول أن الوعي السنني ضرورة منهاجية لترشيد مشاريع الإصلاح وتقصيد فاعليتها الحضارية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث في الفكر الإسلامي.
1- المقرئ أبو زيد الإدريسي، القرآن والعقل، الجزء الأول ص52 وما بعدها.
2- يمكن أن نتحدث عن نموذجين من المغرب ونموذجين من المشرق حركة النهضة (تونس)، وحركة التوحيد والإصلاح (المملكة المغربية)، وجماعة النور وحركة الخدمة في تركيا.
3- الطيب برغوث، مقدمة في المنظور السنني لدراسة السيرة النبوية، ص:9.
4- سورة آل عمران، الآية:137.
5- سورة فاطر الآية:43،44.
6- سورة الإسراء الآية:77.
7- سيد قطب، في ظلال القرآن،ج1، ص:480.
8- عمر عبيد حسنة، حتى يتحقق الشهود الحضاري، ص:10.
9- صحيح البخاري، كتاب الشركة، باب :هل يقرع في القسمة والاستهام فيه
10- عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص:182.
11- محمد فتح الله كولن، طرق الإرشاد في الفكر والحياة ص:87.
12- محمد فتح الله كولن، ونحن نقيم صرح الروح، ص:120.