المسلمون وثقافة الإنفاق
هوية بريس – احسان الفقيه
الثلاثاء 15 شتنبر 2015
120 كيلو غراما من العجينة السكرية المخصصة للحلوى..
50 كيلو غراما من الشوكولاتة..
80 لونا مختلفا..
4000 قطعة من الألماس الوردي والأصفر والأبيض..
الوزن الإجمالي 450 كيلو غراما..
إنها مكونات أغلى كعكة في التاريخ، بلغت تكلفة صناعتها 75 مليون دولار.
صدّق ما قرأته عيناك، هذه الكعكة لأسرة عربية ثرية، أنفقت هذا المبلغ الهائل من أجل الحصول على كعكة لا مثيل لها بمناسبة الاحتفال بميلاد وخطبة الابنة، صُنعت خصيصا في بريطانيا بساعات عمل تقدر بحوالي 1100 ساعة.
* ذكرت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية، أن الكعكة تتخذ شكل عرض أزياء بممشى العارضات وصفوف المشاهدين. وتحتوي ملابس بعض العارضات على قطع من الألماس الحقيقي. وفي الصف الأول من المشاهدين تجلس النساء المرتديات لتصميمات شهيرة في الملابس والحقائب والأحذية.
ليست هي الصورة الوحيدة التي وقفتُ عليها في مظاهر البذخ والإنفاق المفرط في عالمنا العربي والإسلامي، تختلط الرغبة في البكاء بأخرى في الضحك، عندما أرى ثريا عربيا يقتني سيارة مرصعة بالماس، أو أرى بعض أثرياء العرب يتفاخرون بالجلوس حول أكبر (مائدة طعام ـ من نوعٍ ما) في العالم.
يحدث هذا بينما لا يعرف كثير من أطفال المسلمين شكل الكعكة فقط يسمعون عنها..
ويحدث بينما يسير عائل مسافات طويلة على قدميه متجها إلى عمله، لأنه لا يملك نقودا يستقل بها (الباص).
ويحدث بينما بعض النساء يذهبن إلى أكوام القمامة، يتقاسمن مع الكلاب والقطط البحث عن فضلات طعام تُسد بها أفواه الصغار الجائعين..
إن هذه الصور وغيرها تعكس ما عليه المسلمون حُكاما ومحكومين من خلل في التعامل مع الإنفاق يصل إلى حدّ السّفَه، لتُجسّد الطبقية المقيتة التي تعمق من الفجوة بين شرائح المجتمع الواحد.
* وإن المرء لينظر إلى ثروات الأمة ومواردها التي تتجه إليها أطماع الغرب، فتصيبه الحسرة عندما ينقل بصره إلى الواقع الاقتصادي السيء، ما دعا الدكتور محمد العبْدَة في رسالة “العرب والسياسة” لأن يتساءل: “لماذا لم تقم معجزة اقتصادية في أي بلد عربي بعد قفزة أسعار النفط عام 1973؟ أين ذهبت الثروات العربية؟”.
الإسراف والتبذير وتبديد الأموال يرجع إلى خلل في التصوّر والإدراك وقصور النظرة العربية تجاه المال.
ومن ذلك الخلط بين الكرم والإسراف من ناحية، وبين البخل والاقتصاد وترشيد الاستهلاك من ناحية أخرى، وهو أمر موجود في الذهنية العربية لا يفتقر إلى دلالات من الواقع.
فهذا ابن العماد في كتابه “شذرات الذهب” يقارن بين المنصور الخليفة العباسي وولده المهدي الذي وَلي الخلافة من بعده في أمر الإنفاق، فيقول: “يقال إن المنصور خلف في الخزائن مائة ألف ألف وستين ألف ألف درهم (160 مليونا) ففرقها المهدي، ولم يلِ الخلافة أحداً أكرم منه ولا أبخل من أبيه”.
يُعلق الدكتور العبْدة في رسالة “الدين والدنيا” على كلام ابن العماد بقوله: “فلننظر إلى هذا التقويم العجيب، الخليفة الحازم المُدبّر للدولة يسمى بخيلا عند هؤلاء، فكيف تتراكم الثروة وتكون الدولة قوية وتؤسس المشاريع إذا كان المال يهدر على طريقة المهدي؟”.
* عندما ينظر المسلم إلى المال باعتباره ملكا مطلقا له على طريقة قارون {إنما أوتيته على علم عندي}، حينئذ يتصرف فيه بلا قيد أو ضابط، طالما أنه ملكه وحده، فيسارع إلى تلبية نداءات خياله الجامح، وتجاوز تحقيق الاكتفاء والكماليات، إلى الوقوع تحت سطوة حب المفاخرة والخيلاء والتباهي بالأموال، والإتيان في هذا الباب بكل ما هو خارج عن المنطق.
* إنما نظرة المسلم الحق إلى المال، أن الله استخلفه عليه لفترة محدودة هي حياته، ثم يخلفه عليه غيره، وأن هذا المال سوف يُسأل عنه العبد من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وأن في هذا المال حقا للعباد يتحقق به تكافل المجتمع.
فمتى انفصلت النظرة إلى المال عن إطار الشريعة كان الخلل في الإنفاق، فالإسلام منظومة متكاملة بين التصورات والسلوك، إذا تخلف من هذه التصورات عنصر، تحقق الخلل حتما في السلوك والواقع العملي.
* لِترهُّل منظومة القيم دور بارز في مظاهر الإسراف والتبذير وعدم ترشيد النفقات، فعندما ضعُفت جوانب المروءة والنخوة والرحمة، جعل البعض يركز فقط على إرضاء (الأنا) التي لا حدود لرغباتها، لأنه فقد القيم التي تجعله ينظر بعين العطف على المحتاجين، أو التي تجعله يتجه إلى توظيف أمواله في بناء مجتمعه، وهي أمور مُشبِعة وجدانيا تُشعر الفرد بقيمة نفسه.
الاقتصاد في النفقات ثقافة يحتاج إليها الفرد والأسرة والمجتمع، فالحفاظ على الأموال والموارد ضرورة من ضرورات النهضة ومقوماتها.
* وكما جرت العادة، أودّ أن أُنبه إلى أنني أبُثّ ما سبقني إليه الكرام من المفاهيم الغائبة والمغيبة، لا أتوجه بها إلى الساسة والحكام، إنما أعني بها القاعدة العريضة، والتي أؤمن يقينا بأن التغيير سوف يأتي من خلالها، لا من رأس الهرم.