مطلوب وزارة حقوق البادية وسكانها
ذ. إدريس كرم
هوية بريس – الثلاثاء 30 يوليوز 2013م
للتأريخ: هذا الموضوع سبق لي طرحه للقراءة على صفحات جريدة “رسالة الأمة” عدد:4346 بتاريخ 21 فبراير1997م؛ وبعد أزيد من خمسة عشرة سنة تغيرت الأرض والسماوات، وتبدلت الحكومات، بل وتغير المناخ الطبيعي والسياسي والاستهلاكي والعمراني، والتسكاني، والأمني، وبقيت مقاربة البادية التي تتلخص في الأرض والحيوان والبشر الرافق لذلك، بحيث ما نزال نسمع وزارة الفلاحة، والمخطط الأخضر، وفك العزلة عن العالم القروي..
مقابل سياسة للمدينة ومجالاتها، ومخططات التعمير ومحاربة السكن العشوائي والتطهير السائل والصلب وغير ذلك من التدابير المهيكلة للمدن، أما البادية فعليها انتظار التفاتة من بدت له مصلحة في دوار أو جماعة أو جهة لتصلها خدمة من الخدمات بشكل لا يخلو من ابتسار حتى يكون النقص إنذارا لمن حاول الخروج عن الحد المرسوم للمصلحة وصاحبها، لذلك ارتأينا التذكير بما سبق الحديث عنه وهو: إحداث “وزارة البادية وسكانها” تجمع فيها المصالح، وتوضع بها المخططات في شكل متكامل، إنصافا لمن لم يرد إنصافهم.
عن الأصل دْوَّرْ (ابحث):
قال عليه الصلاة والسلام: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”، وقد شرح ذلك العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة تحت عنوان: “في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر، فقال: وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها، وينطبع فيها من خير أو شر.. وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر، ويصعب عليها اكتسابه.. وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف، تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه، حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم، فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال بالفحشاء في مجالسهم، وبين كبرائهم وأهل محارمهم” (ص:133).
وهذا ما يجعل بيئة المدينة أكثر تلوثا من مثيلاتها في البادية، وأشد أوبئة وفتكا، وأدعى إلى التدخل من طرف الهيئات والحكومات والمؤسسات، باعتبار ظاهرة الأخطار المحدقة بساكنة البادية، وما ينتج عن ذلك من تكاثف التذمر، وسرعة التهيؤ لما قد يضر بالأمن؛ بخلاف البادية وساكنتها حيث يجدون من الصبر والحشمة على العرض، ما يؤبد معاناتهم، ويصرف الأنظار عن العناية بمطالبهم، والالتفاتة إلى حاجاتهم، وإلقاء نظرة على ما عرفته البلاد من مخططات التجهيز والتطوير، الذي كان يهدف إلى تلبية حاجات المدينة، وحتى ما وجه من إصلاحات كان لذات الغرض، فوزارة السكنى للمدينة، والطرق والموصلات للمدينة، ناهيك عن التعليم والصحة والإعلام والثقافة والرياضة والترفيه والتأهيل، الكل في المدينة، لأن المدينة هي المعبر لتفيء ظلال التطور، بل التأورب، والتماهي مع الغرب، وعلى الأخص الفرنسيس، فالبادية هي مطارح للنفايات، وخزان الانتخابات، ومزود المدينة بالغذاء واليد العاملة، وفي أحسن الأحوال متحفا غرائبيا للسياحة الحية، الجالبة للعملة الصعبة.
وزارة السكنى مؤخرا حملت اسما إضافيا معبرا عما نقول هو “سياسة المدينة”، والفلاحة ما زالت مصرة على اهتمامها بالأرض والبحر والغابة، والتجهيز ما يزال يصر على المسالك القروية، وابتدع النقل المزدوج، الذي تركب فيه البهائم مع الناس معتبرين ذلك نعمة، لا يعكر صفوها إلا تدخل الدرك، في باب الأسواق والمراكز من أجل ما هو معروف بحق المرور.
منذ أن تم غزو المغرب في مطلع القرن الماضي، ونقل السيادة من الجماعة إلى ممثل القوات الغزية، وتطور ذلك النقل إلى إقصاء الناس عن تدبير أمورهم بنفسهم، وفق أعراف وضوابط مجتمعية، والنيابة عنهم في تقرير ما يجب أن يقوموا به من مناشط ومسلكيات، أدت إلى تصدر الفردانية، التى ارتبطت بالخضوع والخنوع للمستعمر، والعاملين معه في إدارته للاستغلال المجالي، لصالح الدولة المستعمرة، التي حل محلها المدينة وبعض ساكنتها، الذين هم أساس تدوير الشأن العام الذي لم يعد مع الاستقلال إلى الذين سلب منهم بحد السلاح، والحركة الاقتصادية التي خلق تخارجها ونخبويتها، أعطابا من قبيل الرشوة والمحسوبية والزبونية، التي تهدف إلى التمييز بين الناس، والمناطق والجهات.
إن مناداتنا بخلق وزارة للبادية ليس من باب تقسيم القسم وتكرار التجارب، ولكن لخلق التوازن بين من يستفيد مما لا ينتج، ومن لا يستفيد مما ينتج، خاصة وأن البلاد مقبلة على تحول خطير في السنين المقبلة، بعدما تم إيصال الكهرباء إلى الدواوير، وأحيانا الماء، وأصبحت المكننة الفلاحية تزيد من ارتفاع البطالة، وصارت القنوات الفضائية تبين للناس مقدار الغبن الممارس عليهم، وأضحت المقارنة بين حال المدن وحال البادية لا مناص منها، وصار تنامي الطلب الاستهلاكي يراكم الانفلات القيمي والاجتماعي، بعدما كان عامل استقرار، حيث يتوارى بفعل النموذج الذي يسوق له من خلال الأفلام والرغبات الفردية والفئوية، مما يجعل أخذ ذلك بعين الاعتبار قبل فوات الأوان.
فإذا كانت الأحياء الهامشية في المدن هي الخزان الدائم للحركات الاجتماعية، فإن البادية مستقبلا وعما قريب نظرا للثورة المعلوماتية، ستكون من يقوم بذلك، وربما بشكل قد لا يتصور مداه من طرف من لا يرى في البادية إلا ما سلف، ومن الأفضل أن يعاد النظر في الاهتمام بالبادية على غير الطريقة الموروثة عن المستعمر، وما تبعها من نظرة تبخيسية وإقصائية لسكان البوادي، الذي لا يمكن أن يتواصل إهمالهم أو ضمهم مع المزروعات والحيوانات في عربة واحدة، كما هو الشأن بالنسبة للنقل المزدوج.
إن الذين يبنون المدارس القروية بدون مراحيض، أو يضعون مراحيض بدون ماء، أو كهرباء، أو مستوصفات بدون أطباء أو ممرضين، ودور للثقافة بدون مؤطرين ولا كتب، يسخرون من الساكنة، ويضرون بالمؤسسات والعاملين بها قبل السكان المستهدفين، لذلك نقول بأنه على الحكومة المرتقبة، أن تحدث وزارة للبادية على الأقل، كي يحس الناس أن هناك محاولة لإنصاف جزء أساسي من المغاربة ظلوا مقصيين مغضوب عليهم، لأنهم قاوموا المستعمر، وقاوموا طمس الهوية المغربية بعد الاستقلال، وكانوا حصنا للمقدسات التي أراد من يقدم اليوم نفسه مدافعا عنها على هواه، إلغاءها لعدم الملاءمة مع العصر، والذي صار اليوم يحمد الله على بقائها، لأن فيها صلاحه، ولكنه يريد الهيمنة عليها وفق المنظور الاستعماري، مما يجعل هناك ممارسات لا يقوى الراغب في فهمها إذا لم يعد إلى التاريخ ، وهو ما يجب على الوزارة المطلوبة القيام به، لرد الاعتبار للذين قدموا التضحيات، ثم تم إقصاؤهم إن لم يتم قتلهم، وكما لم تعترف بإسهاماتهم الدولة المستعمرة التي قاموا بتحريرها من النازية، لم تعترف لهم النخبة المتصدرة بعد الاستقلال، ولا التنظيمات السياسية التي لا ترى فيهم إلا حطبا كريما، كما قال من أراد الثناء عليهم، ممن قاد الإنصاف، دون أن يتم إنصافهم على أرض الواقع.