أَضْعَفُ الإِيمَانِ: حَديثٌ مَنْهُوك.. (ح2)
د. عادل رفوش
هوية بريس – الثلاثاء 15 أكتوبر 2013م
الدلالة الرابعة: تأكيد معنى “الحِطَّةِ” -رغم شرعيتها- في قوله: “وذلك أضعف الإيمان“.
ولذا قال النووي فيه: “أي أقله ثمرةً”[1].
وقال ابن حزم: “أي ليس وراء ذلك من الإيمان شيء”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “هذا آخر حُدُودِ الإيمان، ما بقِيَ بعد هذا من الإيمان شيء”. وقيل فيه أيضاً -كما نقل شيخ شيوخنا في تحفة الأحوذي-: “وذلك أضعفُ زمانِ الإيمان“.
ثم قال رحمه الله: “إذ لو كانَ إيمانُ أهلِ الزمانِ قويًّا لَقَدَرَ على الإنكارِ القوليِّ والعمليِّ ولما احتاجَ إلى الاقتصارِ على الإنكارِ القلبيِّ؛ إذ ذلك الشخصُ المُنْكِرُ بالقلب فقط؛ أضعفُ أهل الإيمان؛ فإنه لو كان قَوِياًّ صَلْباً في الدينِ لما اكتفى به” انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وقال الحافظ ابن رجب: “وَيَدُلُّ على أَنَّ مَنْ قَدَرَ على خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الإيمان وفَعَلَها؛ كان أَفْضَلَ مِمَّنْ تَرَكَها عَجْزاً عنها”اهـ.
قلت: ولم يقل تَعَاجُزاً.
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: “وذلك بكراهةِ المنكر وعزيمته على أنه متى قَدَرَ على إنكاره بلسانه ويده فَعَلَ”.
وقد أثر عن علي رضي الله عنه قوله: “إِنَّ أولَ ما تغلبون عليه من الجهاد: جهادٌ بأيديكم ثم جهادٌ بألسنتكم ثم جهادٌ بقلوبكم؛ فمتى لم يعرف قلبه المعروفَ وينكر قلبه المنكرَ انتكس”.
وأصله حديث ابن مسعود عند مسلم: “ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل“.
وللقاضي عياض رحمه الله كلام جامع يقول فيه: “هذا الحديث أصل في صفة التغييرِ: فَحَقُّ المُغَيِّرِ أن يغيرَهُ بكلِّ وَجْهٍ أمكنه زواله به قولا كان أو فعلا؛ فيكسرُ آلاتِ الباطل، ويريقُ المسكرَ بنفسه أو يأمرُ من يفعله، وينزع الغُصُوبَ ويردها إلى أصحابها بنفسه، أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهْدَهُ بالجاهلِ، وبذي العزة الظالم المخوف شره؛ إذ ذلك أدعى إلى قبولِ قَوْلِه.
كما يستحبُّ أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى.
ويغلظ على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته؛ إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكرا أشد مما غَيَّرَهُ لكونِ جانبه محميا عن سطوة الظالم، فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرا أشد منه من قتله أو قَتْلَ غَيْرِهِ بِسَبَبِهِ؛ كَفَّ يَدَهُ واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف؛ فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك؛ غيّر بقلبه وكان في سعة؛ وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى.
وإن وَجَدَ من يستعين به على ذلك استعان؛ ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غَيْرِهِ أو يقتصر على تغييره بقلبه؛ هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين خلافا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال وإن قُتِلَ و نِيلَ منه كل أذى”. انتهى كلامه رحمه الله.
..فكما أن الإيمان يزيد وينقص، وارتبط مدح الله لأهله بزيادته وأن زيادته رُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ بالطاعات؛ فإن نقصانه قُيِّضَ لَهُ قُرَناءُ المعاصي فاستحقوا الذم من الله في منازل متفاوتةٍ؛ كقوله في المنانين: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحجرات:14]؛ أي أن دخوله القوي يعمل في الجوارح عملا لا تخفى آثاره على المهتز ببشاشته خشوعاً وإخباتا وخروراً للأذقان سُجَّداً وبِكِيًّا واستسلاما لخيرةِ الله ولو تَلاًّ للجبين: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات: 102]، وكقوله في المعرضين: {قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ}[الحاقة: 41].
قال شيخنا التقي ولد عبد الله الشنقيطي القاضي المفسر المحدث رحمه الله تعالى فيما سمعته منه سنة 1993م في مسجد باديته بموريتانيا: “إيمانكم القليل لا ينفعكم عند الله؛ فليس كل إيمان بنافع إلا ما جاوز حد الربوبية إلى مقتضيات الألوهية ولم يكن في غرغرة أو قيام ساعةٍ، إذ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]. انتهى كلامه رحمه الله..
فلا ينفع إيمانُ اللحظاتِ عند ركوب الفُلْكِ، ولا ينفع إيمان فيه ريبٌ أو أَرْكَسَتْهُ النواقضُ..
وهو ما سماه القرآن الكريم قليل الإيمان، ويفسره قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف: 106]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]؛ فذاك شرك -صغيرا أو كبيرا- وإن سموه إيمانا؛ وتلك صفير وتصفيق وإن سموها صلاة وطوافا..
ومن صوره في عصرنا: الشغب على الإيمان الأقوى؛ بدعوى المصالح والمفاسد، وتسمية “التذبذب المذموم”؛ تثبتا ممدوحا، وتسمية “الإيضاع في الخلال”؛ بصيرة الحكمة في الدعوة، وتسمية “الرهبة من الإقدام وَجلاً”؛ اعتبار المآلات احتياطاً..
وهكذا في أنواع من كتمان الحق لَبْساً من النفس أحياناً والتباساً عند أقوام أخطأوا إذ ألبسوه لَبُوسَ العلم أحيانا أخرى، وقد كان يسَعُهم السكوت حَيْرَةً وانبهاماً ما لم يتوارعوا على الناس به؛ وهم يعلمون أن الورع لا يفتى به كما شاع عند الفقهاء، وأن عامة الأصوليين لا يعدون “التوقف” قولاً؛ على ما ذكر الآمدي وغيره، وننسى -“وما أنسانيهُ إلا الشيطان أن أذكره“-؛ بأن أم المقاصد وكبرى الكليات الخمس: “حفظ الدين” و”تحقيق التعبد لله رب العالمين” فغايةُ مقاصدِ الخليقةِ: “إلا ليعبدون“، وكل مصلحةٍ هي لحفظ الدين تَبَعٌ؛ قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19].
وحفظ الدين؛ بابان: فكري وعملي:
أما الباب الأول: فيحمى من ثلاث جهات:
– جهة تأويل الجاهل بمعانيه.
– وجهة تحريف الغلاة المتشددين فيه.
– وجهة انتحال المبطلين المتظاهرين به.
وهذا الباب بِجهاته الثلاثةِ؛ لا حجة للعلماء في التغاضي عن حمايته والصدع بالحق في ما مس حماه، أو حام حوله من كل متطاول مسرفٍ كذاب، أو حلاَّفٍ مهينٍ عُتُلٍّ زَنِيمٍ، أو مطبوع القلبِ متكبرٍ -تَبَّتْ يداه- لا يؤمن بيوم الحساب؛ وعليه تحمل غالبُ عزماتِ السلف في الثبات على الحق ومواجهة الظلمة؛ كما تواتر عن إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله في محنة القول بخلق القرآن مع الخلفاء الثلاثة المأمون والمعتصم والواثق؛ صابرا محتبسا صادعا مجاهرا حتى أتى الفرج زمن المتوكل فانزاحت صخرة البدعة وخرج الإمام يمشي مناصرا لسنة أميتت في سنينَ عجافٍ، سفكت فيها الدماء، وظلم العباد، واستسلم المستسلمون، وحِيمَ حول حمى الشريعة لتحريف المعتقد؛ فثبت الله به القلوب وكلأ به العقيدة، وما كان يخشى أن يبطل حفظ الله لدينه، ولا كان يجهل باب الرخصة في أن يجيب كما أجاب غيره أو أن يُوَرِّيَ، ولكن إمام السنة يعلمنا كيف يحفظ الله دينه بمواقف رجاله وثبات علمائه؛ وهو القائلُ رحمه مُقَعِّداً لجِهادِ الأفكار قاعدته الذهبية: “اسكتوا نسكت”.
ومنه تُعُلِّمَتْ:”عُرِضْتُ على السيفِ مَرَّاتٍ لا يقال لي ارجع عن مذهبك ولكن يقال لي اسكت عمن خالفك؛ فأرفض”[2].
وأن باب العزائم أحب عند الله من رُخَصِ اللَّيِّ والعِيِّ واللَّوِّ والسَّوِّ والتخويفِ والتسويفِ، وأن المصلحة الكبرى حمايةُ الفكرِ وكفاية الدين من شبهات الأفاكين، وليقدر الله في كونه بعد ذلك ما يشاء..
يتبع بحول الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ