سلسلة أنواع القلوب (7) القلب القاسي (ج5)
د. محمد ويلالي
هوية بريس – الثلاثاء 29 شتنبر 2015
الخطبة الأولى:
عرفنا -ضمن سلسلة أنواع القلوب- نوعين من القلوب الإيجابية، التي يحبها الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: القلب السليم، والقلب الراضي الذي قسمناه إلى أربعة أجزاء، تضمنت توضيحا لبعض الاتجاهات القلبية، الرافضة للرضى بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- تشريعا ومنهاجا، كالقرآنيين، أو الرافضة للرضى بالإسلام دينا كبعض التحرريين، وختمنا بضرورة الرضا بما قسم الله، والانقياد لما اختار الله.
ونريد -اليوم- أن نعرج على أحد أنواع القلوب السلبية، التي جاء التحذير البالغ منها في عدد من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، قلبٍ تلبست به صفة خطيرة، جعلت بعض العلماء يصنفونها كبيرة من الكبائر، لأنها تحجز عن الود والرحمة والعطف، وتجعل صاحبها انتهازيا، أنانيا، ظالما، معتديا.
إنها “قسوة القلب”، التي قال فيها مالك بن دينار -رحمه الله-: “ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم”. وقال فيها حُذيفة الَمرْعَشِيُّ -رحمه الله-: “ما أُصيب أحدٌ بمصيبة أعظم من قساوة قلبه”. وقال ابن القيم -رحمه الله-:”واللهُ -سبحانه- إذا أراد أن يعذب عبداً، نزع من قلبه الرحمة والرأفة، وأبدله بهما الغلظة والقسوة”.
ووصف الله -تعالى- بني إسرائيل بقسوة القلوب حين كذبوا وتعنتوا فقال: “ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً“.
قال الراغب: “القسوة: غِلَظ القلب. وأصل ذلك من الحَجَر القاسي”.
وقال ابن منظور: “القسوة: الصلابة في كل شيء. والقسوة في القلب: ذهاب اللينِ والرحمةِ والخشوعِ منه”. ويقال: يوم قَسِيٌّ، أي شديدٌ بسب حر، أو برد، أو حرب، أو شر. ودرهم قَسِيٌّ: مخلوط مغشوش.
ولقسوة القلوب أسباب كثيرة منها:
1ـ المعاصي: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ، سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ، زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِى ذَكَرَ اللَّهُ: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)” صحيح سنن الترمذي. والران -كما قال الحسن البصري-: “هو الذنب على الذنب، حتى يَعمَى القلب، فيموت”.
رأيتُ الذنوب تُميت القلوب***وقـد يُــورِث الــذُلَّ إدمانـهـا
وترك الذنوب حيـاة القلوب***وخيرٌ لـنفـسـك عـصيانهـا
قال بعض السلف: “البدن إذا عَرِيَ رقَّ، وكذلك القلب إذا قلّت خطاياه، أسرعت دمعته”.
2ـ كثرة الاختلافات والجدالات والمماحكات: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ” ص. أبي داود. والهيشات هي: الخصومات، والمنازعات، واللغط، وارتفاع الأصوات.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: “مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ”، ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) صحيح سنن ابن ماجة.
3ـ الاستسلام للفتن، التي جعلها الله -تعالى- تمحيصا للقلوب، وتمييزا للثابت منها من الزائغ. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا (منكوسا)، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ” مسلم.
4ـ الغِيبة، وهي من أعظم دواعي قسوة القلوب، لأنها وقوع في الأعراض، وفضح للمستورات، وأكل للحوم الناس. قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لِمَ لا تجلسُ معنا؟ قال:”أنا أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس”.
5ـ البخل والشح: قال الهيثمي في الزواجر: “قَسْوَةُ الْقَلْبِ تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى مَنْعِ إطْعَامِ الْمُضْطَرِّ”. فالسخاء والكرم من شيم الرحماء المنشرحة صدورهم، وكذلك يبعثهم الله – تعالى – يوم القيامة. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن أهل المعروف في الدنيا، هم أهل المعروف في الآخرة، و إن أهل المنكر في الدنيا، أهل المنكر في الآخرة” صحيح الجامع.
6ـ أكل الحرام: فما استباح أحد أكل أموال الناس بالباطل، رشوة، أو قمارا، أو تزويرا، أو سرقة، إلا قسا قلبه، وتهافتت على الدنيا نفسه، بل إن علماء القلوب يرون أن من شبع من الحلال قسا قلبه، فذموا كثرة الأكل. قال بشر بن الحارث: “صلتان تُقسِّيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل”. وقال ابن القيم: “قَسْوَةُ القَلْبِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ إِذا جَاوَزَت قَدْرَ الحَاجَةِ: الأَكلُ، وَالنَّومُ، وَالكَلامُ، وَالمخَالَطَةُ”.
فكيف بمن شبع من الحرام، كيف له أن تلين نفسه، وتخشع أعضاؤه، ويلين للموعظة جلده، ويتفكر في الآخرة قلبه؟.
7ـ مخالفة الوعود، ونقض العهود. قال تعالى: “فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً”، وقرئ: قَسِيَّةً“، أي: غير خالصة.
قال ابن عقيل: “يا من يجد من قلبه قسوة، احذر أنْ تكون نقضت عهداً، فإن الله يقول: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ)”.
8ـ ضعف الخوف من الله: قال ابن القيم: “مَتَى أُقْحِطَتِ العَينُ مِنَ البُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَحْطَهَا مِنْ قَسْوَةِ القَلْبِ، وَأَبْعَدُ القُلُوبِ مِنَ اللّهِ، القَلْبُ القَاسِي”.
9ـ كثرة الضحك: لأنها سبب في إماتة القلب، مدعاة للغفلة عن الله، والبعد عن الآخرة. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ تُكْثِرُوا الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ” صحيح سنن ابن ماجة.
10ـ مخالطة الأشرار ورفقاء السوء، لأن مجالسهم لهو، وأوقاتهم فراغ، وكلامهم خوض فيما لا خير فيه. قال تعالى: “الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ“.
الخطبة الثانية:
ولعلاج قسوة القلب أسباب منها:
1ـالإكثار من ذكر الله -تعالى-، وعلى رأسه القرآن الكريم: قال تعالى في وصف المؤمنين: “وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ“. وقال في وصف أصحاب القلوب القاسية: “فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ“.
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: “لو طهرت قلوبكم، ما شبعتم من كلام الله -عز وجلَّ-“.
جاء رجلٌ إلى الحسنِ البصري -رحمه الله- فقال: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوةَ قلبي. قال: “أَذِبْهُ بالذِّكر”.
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة، “رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ” متفق عليه.
2ـ الإكثار من زيارة القبور: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها تُرِقُّ القلب، وتُدمع العين، و تُذَكر الآخرة” صحيح الجامع.
3ـ كثرة الاستغفار: فإنه إذابة للقسوة، وإذهاب للوحشة. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي (ليغطى على قلبه من عظيم هم الدعوة إلى الله)، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ” مسلم.
4ـ مخالفة هوى النفس والشيطان: فإنها تورث العبد قوة في بدنه وقلبه ولسانه. قال بعض السلف: “الغالب لهواه، أشد من الذي يفتح المدينة وحده، وكلما تمرن على مخالفته هواه، اكتسب قوة إلى قوته”.
5ـ مخالطة الضعاف من الناس، كالأيتام، والمرضى، والمنكوبين: سأل رجل عائشة -رضي الله عنها-: ما دواء قسوة القلب؟ فأمرته بعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وتوقع الموت.
وقد جاء النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رجل يشكو إليه قسوة القلب فقال له: “أَدْنِ اليتيمَ منك، وأَلْطِفْه، وامسحْ برأسه، وأَطْعِمْه من طعامك، فإن ذلك يُلَيِّنُ قلبَك، وتُدْرِكُ حاجتَك” صحيح الجامع.
وجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- متعجبا من تقبيل المسلمين صغارهم فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟” متفق عليه.
6ـ الإكثار منالعبادة: فقد شكا رجل إلى مالك بن دينار قسوة قلبه، فقال له: “أدمن الصيام، فإن وجدت قسوة فأطل القيام، فإن وجدت قسوة فأقِلَّ الطعام“.
7ـ الإكثار من ذكر الموت: فقد قِيلَ: “لَا يَدْخُلُ ذِكْرُ الْمَوْتِ بَيْتًا إلَّا رَضِيَ أَهْلُهُ بِمَا قُسِمَ لَهُمْ”.
وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ: “مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ، حُبِّبَ إلَيْهِ كُلُّ بَاقٍ، وَبُغِّضَ إلَيْهِ كُلُّ فَانٍ”.
وقَالَ اللَّفَّافُ: “مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ، أُكْرِمَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: تَعْجِيلِ التَّوْبَةِ، وَقَنَاعَةِ الْقَلْبِ، وَنَشَاطِ الْعِبَادَةِ. وَمَنْ نَسِيَهُ، عُوقِبَ بِثَلَاثٍ: تَسْوِيفِ التَّوْبَةِ، وَتَرْكِ الرِّضَا بِالْكَفَافِ، وَالتَّكَاسُلِ فِي الْعِبَادَةِ”.
يَا قَسْوةَ القَلْبِ مَالِي حِيْلةٌ فِيـــكِ***مَلَكْتِ قَلْبِي فأَضْحَى شَرَّ مَمْلُوكِ
حَجَبْتِ عَنِي إِفادَاتِ الخُشُوعِ فَلا***يَشْفِيكِ ذِكْرٌ وَلا وَعْظٌ يُدَاوِيـكِ