إحسان الفقيه تكتب: خصومة الفرسان
إحسان الفقيه
هوية بريس – الأحد 04 أكتوبر 2015
ذكر الذهبي في تاريخ الإسلام، أن أبا جعفر المنصور، كان إذا ذكر عبد الرحمن الداخل قال: “ذاك صقر قريش،دخل المغرب وقد قُتل قومه،فلم يزل يضرب العدنانية بالقحطانية حتى تملك”.
استوقفتني هذه العبارة التي صدرت من الخليفة العباسي المعروف ببطشه وتساهُله في الدماء، يمتدح بها عبد الرحمن بن مُعاوية (أو الداخل)، ويُلقّبه بصقر قريش، رغم أن ذلك الأمير الأموي قد فرّ من سيفه، وأقام دولته الفتية في الأندلس.
* أطلتُ النظر إلى واقعنا الذي تزاحمت فيه العداوات والخصومات، فكدتُّ ألا أرى من يخاصم بشرف ونُبل ومروءة، إن هي إلا جذوة الخلاف تبدأ في الاشتعال، حتى يكون الفُجر في الخصومة، والاستطالة في الأعراض، واستباحة الكذب والبهتان، لإظهار قبح الآخرين.
ذلك هو الداء الدويّ الذي حذّر منه الإسلام، باعتباره أحد الأمراض الاجتماعية التي تسود في غياب الوعي الديني والأخلاقي، وإحدى خصال النفاق التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم: (وإذا خاصم فجر).
فأين خصومة الفارس الذي كان يترفّع عن الإجهاز على أعزل ويرمي إليه بسيف؟
ذلك الذي كان يقاتل الخصم ثم يصون شرف المقتول ويكرم أهله ونساءه..
كان ذلك في زمن سادت فيه القيم والأخلاق الرفيعة.
* نعم نُقرّ بأن الاختلاف بين الأنام أمرٌ كوني واقع لا محالة، والعداوة بين الناس واردة، ولكن حتى البُغض والكره له أدب وقيم.
ليس معنى أن أختلف معك أو أبغضك أن أقوم بنسف كل فضائلك، أو أن أجمع كل المساوئ بحق وبغير حق في شخصك.
* يا قوم لا نطالبكم إلا بشيء من العدل والشرف، ولله در الفاروق عمر عندما أطلقها لمن بعده: “لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا“.
البعض إذا خاصم من كان له مُقرّبا، ينقلب فيعامله كالزوجة التي تكفر العشير الذي أحسن إليها دهرا، وتقول له “ما رأيتُ منك خيرا قط”، فليس ذاك للأحرار بخُلق، وقديما قالها الشافعي: “الحرّ من راعى وداد لحظة، أو انتمى لمن أفاده لحظه”، فيا لضيعة وداد اللحظات، ويا لجُحد فوائد اللفظات.
* وأما إذا كان العداء أصيلا، فحدّث ولا حرج عن البهتان والزور ورشق الآخرين بما ليس فيهم، والسقوط كالذباب على عثراتهم وعيوبهم.
مُعارض سعودي بارز يعيش خارج بلاده قارن بين كتاباتي عن الحكومة السعودية في عهد سلمان وسلفه، ونظرا لأنه قد اتخذ عداوة آل سعود نهجا دون النظر إلى أي متغيرات، فلم يجد تفسيرا لاتجاهي في الكتابة سوى أنني من عُشّاق (الرُز) الخليجي، الذين يبيعون أقلامهم وشرف مهنتهم ورسالتهم بأموال الحُكام، وحرص على نشر صورة يظهر فيها التضاد بين أسلوبي قبل وبعد تولي القيادة السعودية الجديدة زمام الأمور.
حتما أنا لا أقوم بـ(شخصنة) المقال، ولم يكن هذا هو الدافع أصلا لكتابته، غير أنني سُقته كمثال على تعامل شخصية (مُثقفة، متنوّرة، مُتحضّرة) تتحدث باسم الدين مع خصومها الذين يخالفونها في الرأي.
فإذا كان هذا حاله معي ولا يعرف عني سوى ما يقرأ لي لمجرد أنني امتدحتُ من يُبغض، فكيف سيتعامل مع حكام بلاده؟
أنا لست ضد انتقاد الحكام والحكومات، بل لي من ذلك سهم وحظ وافر أينما وُجدت المُسوّغات وليس رغبة في النقد، لكن هل يستلزم انتقادهم اتهامُهم بما ليس فيهم؟ اللهم لا يقول ذلك مُنصف، فضلا عن متدين.
* أيها المعارض في كل مكان، كن شريفا في خصومتك، انتقد كيفما شئت، لكن إياك والكذب والزور والبهتان، القرآن عندما تحدث عن اليهود أنصفهم: {وَمِنْ أَهْل ِالكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}.
إننا مطالبون بالشرف والنزاهة في الخصومة حتى مع الظالمين، نُبيّن ظلمهم، ونكشف مساوئهم، لكن لا نتجاوزه إلى اختلاق التّهم ورشقهم بها زورا، ليس لأن الظالمين أهلا لذلك، ولكن هذا ما يليق بنا كأمة الوسط والعدل والإنصاف، فلو كان الخصم جائرا وظالما، فما ذنب أُمّه أو ابنته كي تُسبّ ويُنهش عرضها؟
* إذا كان الكاتب الذي يطرح وجهة نظره قد اتخذتَه عدوّا فهذا شأنك، انتقد منهاجه أو مسلكه، لكن لماذا تستبيح عرضه وتكيل له عبارات السخرية والتحقير والتنقيص؟
الفُجر في الخصومة دليل على فقدان احترام الذات، فمن يُقدر ذاته ويحترمها، يترفّع عن إتيان هذه الحماقات والسفاهات.
ذات يوم خرج أحد الأمراء هاربا ومعه وزيره، وكان ذلك الأمير معطاءً لا يردّ سائلا، فجاءه سائل في بلد الغربة، فأجزل له العطاء كالعادة، فتعجب الوزير قائلا: أيها الأمير، السائل لا يعرف من أنت، فرد عليه قائلا: لكنني أعرف نفسي.
البعض قد احترف بتر السياق واجتزاء الكلام وليِّ أعناق النصوص، فيعمد إلى ما كتبه عالم أو داعية أو مصلح أو سياسي من خصومه، فيقتطع جملة من هنا وأخرى من هنالك، ثم يبني عليها ويُغلّفها بالأوهام والأكاذيب، ويرسم منهجا وهميا لخصمه، ويرميه بأبشع التهم بناء على ذلك.
* لله در السابقين، كانوا يلتمسون المعاذير لخصومهم، ويبحثون عن وجه حسن يخرّجون الكلام عليه، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يخالف الرازي بشدة، ومع ذلك يقول عنه في مجموع الفتاوى: “ومن الناس من يُسيء به الظنون وأنه يتعمد الكلام الباطل؛ وليس كذلك بل تكلم بحسب مبلغه من العلم والنظر والبحث في كل مقام بما يظهر له“.
* حتما أنا لا أوجه حديثي هذا إلى إعلام مسيلمة وسَحرة فرعون في كل نظام جائر، ولا إلى من يُعادون الأمة وينبذون الدين، إنما أوجه حديثي إلى الشرفاء، ومريدي الحق وإن لم يصيبوه بعد.
لا يليق بمن يسعى لنصرة قيم العدل والحق والخير والجمال أن يحيد عن التزاماتها، وما أقبح مسلك الذين يستطيلون في أعراض الناس بدعوى أن الفاسق لا غيبة له، وهو فهم مغلوط حتما، فأن تكشف باطله وفسقه للتحذير منه فهذا مباح لك، أما أن تتنفّل وتزيد على ذلك بالسخرية والتهكم واتهامه بما ليس فيه، وقذفه في عرضه، فهذا عمل مَن ضلّ فهمه.
إنها دعوة للارتقاء بأنفسنا والترفع عن صغائر الأمور، لأن نقول الحق في الرضا والغضب، ونُنصف من أحببنا ومن أبغضنا معا.
فيا بني دمي وديني، حتى الساموراي يقتسم الضربة الأخيرة مع خصمه المهزوم بمُنتهى النُبل والشهامة.
فشيء من خصومة الفرسان..