وقفة تأملية في حقيقة قولهم «العلمانية هي الحل»
محمد بوقنطار
هوية بريس – الأحد 04 أكتوبر 2015
لا شك أن محاذير التدليس ومنحدرات التلبيس قد تسللت إلى نفوس العلمانيين لتنتقل من الوسم إلى الرسم، حتى كان من أمر تلبيس شعاراتهم الجديدة المتجددة والتي يراد لها أن تمرر في وقت التيه وزمن الغفلة حول أعناق أجيال القنطرة من سبايا وغرم الحداثة الوافدة علينا من بلاد الصقيع في ثوب الاستعمار غير السافر عبر أفمام نوابه وأبنائه من الرضاعة الذين سادوا وتمكنوا وأحكموا فلسفة سياستهم حينا من الدهر ولا يزالون، وكانوا في غمرة فشلهم وفضيحة ارتدادهم السلوكي والفكري والأخلاقي والمادي يحسبون على الإسلام الغائب المغيب كل صيحة تردي، ثم يرددون ويرفعون في غير حياء ولا أدب ولا مروءة إنصاف شعارهم شعار “العلمانية هي الحل”.
ولا شك أن لهذا الترديد والرفع والدفع لوازم وآثار لا تنفك، على رأسها اعتبار الإسلام محض شعيرة روحية تعبدية تؤطر علاقة العبد بربه ومن ثم فلا علاقة له ولا تعلق له بالشؤون المادية من الحياة فلا سياسة في الإسلام ولا إسلام في السياسة، ومعنى هذا أن يحصر الدين في الوجدان وبين الجدران فلا يسمع له ركز خارجها وإنما الأمر هنا موكول لمذاهب الناس وفلسفاتهم الوضعية الوضيعة، ومعنى هذا أيضا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان صاحب مشروع ديني لا علاقة له بأمور الدولة فهو القائل “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، ولذلك كان التسليم بقيام خلافة من بعده لا ينفك عن كونه قياما ثار على المفاهيم وانقلب على التعاليم وتمرد وشذ عن القواعد لينالها الأقوى على حساب الأحق بها تحت يافطة مفهومها المدني -لا الشرعي- الذي يقوم على أركان الأرض والشعب والقيادة والحكومة.
ولسنا هنا في مقام نسف نظرية الإقصاء هذه أو دفع التهمة فإن من تحصلت له حسنة استقراء المرجعية الإسلامية وقف على حقيقة أن شؤون السياسة لم تكن بدعا ولا فكرا دخيلا غريبا عن أدبيات هذا الدين العظيم، بل هي كانت ولا تزال وستبقى جزء لا يتجزأ عن إطاره العام وأصوله الكلية في إطار نظامه النبوي الراشد العادل نظرا وتطبيقا.
وليس ثمة شيء نستشهد ونعضد به هذا الصوب الصائب ونلزم به الحائد المنكر سوى ما نراه في باب الإقناع يفتح له شهية الاستكانة والإذعان في غير اعتراض لمجرد الاعتراض، ونعني به شهادات بعض المستشرقين الذين أدركوا حقيقة هذه الطبيعة الشمولية في الإسلام وحقيقة تجاوزه للجانب الروحي التعبدي إلى سياسة الناس وإدارة أمور الدولة.
فهذا الدكتور “فتزجرالد” يقول: “ليس الإسلام دينا فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضا وعلى الرغم من أنه ظهر في العهد الأخير بعض الأفراد من المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بني على أساس أن الجانبين متلازمان لا يمكن أن يفصل أحدهما عن الآخر”.
وفي نفس السياق ذكر المستشرق “نللينو” وقرر: “لقد أسس محمد في وقت واحد دينا ودولة وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته”، وقال المستشرق “ستروثمان”: “الإسلام ظاهرة دينية سياسية، إذ إن مؤسسه كان نبيا وحاكما مثاليا خبيرا بأساليب الحكم”.
ويقول “جب”: “الإسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل له أسلوبه المعين في الحكم وله قوانينه وأنظمته”، ويؤكد الدكتور “شاخت” هذا الاتجاه مقررا أن الإسلام: “نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معا” وغيرهم كثير ممن تصلح شهادتهم للدفع ويسوغ معها وبها الإقناع بما نعتقده وينكره المتخرّص بنخالة فكر حائف زائف قرر بل اجتر ويجتر دعوى قديمة متجددة في ثوب جاهلية عائدة ترى أن هذا الدين لا علاقة له بالدنيا ولا شأن له بسياسة أمور المسلمين.
وصدق ربنا جل جلاله إذ أخبر عن هذا النوع وجنس من جاء بعده وترسم أثر حوافره حذو القذة بالقذة: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا“.
هذا وإن المنصف المتجرد للحق لا يملك إلا أن يقف مستغربا متعجبا متوجعا من صفاقة وصلادة وجوه ونواصي هؤلاء الذين يرفعون شعار “العلمانية هي الحل” وهو يرى كيف أن تسلطهم وبغيهم وانفرادهم بدوائر القرار وتملكهم لزمام سلط التشريع والقضاء والتنفيذ جعلنا نحيا في مناخ استبدادي يجثم على الأنفاس ويرفع في الوقت ذاته شعار الحرية والعدل والمساواة؛ بينما الواقع يشرح ويشهد كيف تصير فيه على سبيل المثال لا الحصر الدعوة والمناداة باعتماد بنوك إسلامية دعوة متطرفة إرهابية تريد أن تميل بالمجتمع ميلا هالكا..
وهو يرى كيف أن تسلطهم وإنفاذ سياستهم وتطبيق ديمقراطيتهم قد خلق من المشاكل والصعاب والأزمات أكثر وأكبر مما حل وعالج وأنقذ..
وهو يرى كيف أن هذه العلمانية كانت ولا تزال معول هدم ومشتل فساد لا أداة بناء ولا فأل خير، وأنها لم تكن عند الإسفار عن وجهها البشع في دائرة تبادل الأدوار والتناوب على المواقع سوى استبدال استعمار البندقية والدبابة باستعمار القلم والثقافة؛ وحيل الإغاثة؛ وغول الشركات الضخمة المتداعية بأكلتها على قصعة خيرات الأمة ظاهرها وباطنها..
وهو يرى كيف أن هذه العلمانية لما سادت أفسدت الزرع والضرع وأنه لم يعد لها مبرر وجود بعدما مجّتها جماهير الأمة، ورفضتها لمّا وقفت بالصوت والصورة والرائحة على حقيقة كونها تتعارض مع دينها وتراثها، وأنها ربما بل أكيد جاءت وفُرضت في بعض بؤر التوتر من جغرافيا الإسلام خادمة ومنحازة لبعض الأقليات المسيحية على حساب الأغلبية المستضعفة من المسلمين، فجعلتها أي هذه الأقليات تعيش حالة اطمئنان ورغد عيش ورفاهية وجود؛ ليتبين أن ما ترفعه من حيادية بين الأديان هو موقف تتبناه جهارا وتعاديه إسرارا عند ملتقى الاتفاق والارتفاق بفلسفته القائلة في غير حياء “اعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر”، مستعيرة ومستصرخة بصيغة الصراع الذي عرفته أوربا بين تسلط الكنيسة وتغول رجالاتها وضعف نفوذ الدولة وتهافت سلطها، فارضة بعد هذا الاستصراخ هذا الصراع على مجتمعاتنا في قياس مع فوارق، مستشرفة عين النتائج المادية المبهرة التي وصل إلها الغالب وافتتن بها المغلوب، فكان التقليد الأعمى وتم لها مبتغى تحييد الدين وإقصاءه وركنه بعيدا محاصرا في الوجدان حبيس الجدران، اللهم إذا استثنينا مدونة أحوال شخصية يتيمة قاصر يضيق حول جيدها حبل القص والنسخ والمراجعة والمسخ الذي تمارسه نسوة المدنية الحديثة في دائرة ما بات يعرف في دوائر صناعة القرار الإقليمي بـ”حرب النساء”.
بينما بالمقابل يُسجل عليها الفشل الذريع في محاكاة الغرب والوصول إلى سراب جنته الموعودة حيث لا صوت يعلو على صوت المكننة ودوي الآلة التي تتفنن في صنع أصناف من أمهات وأخوات وخالات أنواع القنابل الحارقة تحت صمت رهيب وتجاوز قذر، المحرقة لمعشر المستضعفين من جنس المسلمين هناك وهنالك، بينما بنو جلدتهم في خوضهم يلعبون ويتسلون بشعارات من قبيل “العلمانية هي الحل”.
وقد كان الأحرى والأجدر على الحق والصدق أن تتواطأ النيات وتتشاكل الألسن وترفع السبابات في إشارة موحدة صادعة بحقيقة مفادها أن “العلمانية هي الضيق والقدرة وهي الجهل والتخلف وهي التردي والانحطاط الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من وباء وغلاء وضراء وشقاء تبعية جعلتنا نتسول الغذاء والسقاء والدواء وترف عيش ومذلة بقاء.
ولنا في الأخير أن نفتح باب السؤال في غير استرسال مع سيل معطوفاته:
لماذا يرفع هؤلاء عندنا شعار العلمانية هي الحل؟
هل لأن الغرب خاصم الكنيسة وأقصى الدين واعتبره أفيون الشعوب فساد وتغلب بتبنيه العلمانية؟
أم لأنهم اكتشفوا بعد حين أن الإسلام يعوق التنمية ويحول دون تحقيق التقدم المادي ويدعوا إلى الخمول والجهالة فكان من اللازم الانقلاب عليه والتمرد على أحكامه؟
كما لنا أن نتساءل نيابة في غير تفويض من الذين يستشرفون الخوف والهلع والرعب عن التمكين لشريعة، تمكين سوف يسوق بين يديه السارقين واللصوص وقطاع الطرق إلى مقصلة القضاء الشرعي لقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وذلك في عالم يعج باللصوص وقطاع الطرق وسراق المال العام قبل الخاص المتملَك المحوز، كما سيسوق ركام الزناة والمسافحين المحصنين إلى ساحات الرجم في ظل عالم تجاوز الكلام عن زنا المحارم، وتسفل في درك التشريع والمأذونية للمثلية الجنسية، كما سيسوق ولاغ الخمر وصناع الفرجة الهابطة من مخرجي أفلام العهر والخلاعة إلى محامل جلد الظهور والكف عن كبيرة شرب الخمور، وما أكثر هذه الأنواع وهذه الأصناف في صفوف صناع القرار ومعشر التجار وأهل الفن والثقافة والعرفان.
وهو خوف وهلع يجب ربطه وإسباغ طابع المحلية عليه؛ إذ لعلمانية المصدر علمانية الغرب مخاوف لم تكن لتسمح للمسلمين بتفعيل أحكام شريعة توحد الصف وتضبط الكف وترفع لواء الجهاد دفعا وطلبا وتأخذ الجزية من أقباط مصر ومسيحي المشرق وتتشاكل نظرتها في “إسرائيل” باعتبارها مستعمر غاز ظالم غاشم، وإلى فلسطين باعتبارها وقفا محبوسة العين يعود ريع تركتها لجنس المسلمين لا نوعهم الفلسطيني.
ولا شك أنها أسئلة لها وزنها واستدراكات لها ثقلها ومع ذلك فقد لا نرى أهمية في التعرض للإجابة عنها بقدر ما نريد من خلالها التنبيه على وجودها في غير بسط ولا تفصيل، وأنها أسئلة واستدراكات يجعلها العلماني بين يديه ويواجهنا بها كورقة أخيرة ومفتاح ننوء بحمله ونقف عاجزين عن فتح الموصد المغلق أمامنا والمعلق إلى حين غير محقق، ذلك هو أمل تحكيم شريعة الله في رقابنا وعقولنا وتصرفاتنا وبطش أيدينا وزحف أرجلنا؛ وضخ دماء العدل وعودة مناخه إلى مناحي الجسد الإسلامي المتراص والذي يكون به المسلم في حِل من تبني شعارات كاذبة خاطئة من قبيل “الدين لله والوطن هنا للجميع”، وهناك حيث المقصود أصالة “الدين لله والأرض للجميع” بما في هذا الجميع الغازي والظالم الغاشم مجوسيا كان أم صهيونيا أم صليبيا من ذوي سوابق القتل؛ وسوالف السحل؛ والتعذيب والهلاك المحيط بالجسد السني المتهالك على الحصر والقصر.