التصوف السني بالمغرب.. حقيقة أم خديعة (ح4)
ذوالفقار بلعويدي
هوية بريس – السبت 10 أكتوبر 2015
مدلول التوحيد في استعمال الصوفية.
لقد كنت لفت نظر القارئ في المقال السابق من هذه السلسلة إلى أن المطلوب عند الصوفية من استعمالهم لفظ التوحيد، هو خلاف المطلوب من استعماله عند أهل السنة. وذلك من خلال ما نقلت من نصوص دلت بوضعها على أن التوحيد في استعمال القوم هو ما باح به الحلاج.
كما هو مشار إليه في كلام ابن عجيبة المغربي بقوله: (فإذا انفرد القلب بالله، وتخلص مما سواه، فهم دقائق التوحيد وغوامضه، التي لا يمكن التعبير عنها، وإنما هي رموز وإشارات لا يفهمها إلا أهلها، ولا تفشى إلا لهم وقليل ما هم، ومن أفشى شيئا من أسرارها مع غير أهلها فقد أباح دمه، و تعرض لقتل نفسه)، وكما في قوله بشكل أوضح: (ومن أفشاه لغير أهله قتل كما فعل بالحلاج).
إضافة إلى قول ابن الفارض: (إنما قتل الحلاج لأنه باح بسره إذ شرط هذا التوحيد الكتم). ناهيك عن نقولات الجنيد؛ منها قول الشعراني على سبيل المثال: (وكان الجنيد رضي الله عنه لا يتكلم قط في علم التوحيد، إلا في قعر بيته بعد أن يغلق أبواب داره. ويأخذ مفاتيحها تحت وركه، ويقول: أتحبون أن يُكذب الناس أولياء الله تعالى، وخاصته، ويرمونهم بالزندقة والكفر). الشيء الذي قادنا في تلك الحلقة، وهو ما سيتأكد لنا في هذه الحلقة إن شاء الله، من أن استعمال المصطلحات المجملة والمشترك استعمالها بين المتصوفة وبين أهل السنة، يجب حملها عند تناولها من جهة المتصوفة على المعنى المؤدي للمطلوب عندهم وفق علمهم اللدني، وإلا ظل القارئ نائيا عن معرفة حقيقة مرادهم منها… وهذا يكشف عن مكمن خطورة مذهب التصوف، والتي تتجلى في قوة السرية والتمويه والتعمية في مدلول مصطلحاته. فالكلمة عند الصوفية هي الكلمة عند أهل الشريعة، واللفظ هو اللفظ، لكن المعنى المراد غير واحد.
وعلى سبيل المثال قل لي ما الذي تبادر إلى ذهنك مثلا عند قراءتك: “وكان الجنيد رضي الله عنه لا يتكلم قط في علم التوحيد، إلا في قعر بيته بعد أن يغلق أبواب داره. ويأخذ مفاتيحها تحت وركه، ويقول: أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى، وخاصته، ويرمونهم بالزندقة والكفر”1.
ألا تساءلت أيها القارئ عن سر كل هذه الاحتياطات؟
وأي نوع من التوحيد هذا الذي يُحوج صاحبه إلى كل هذه التدابير؟
هذا فضلا عن توصيته تلامذته بعدم مدارسة هذا التوحيد إلا بين من هم على طريقتهم، وذلك كما جاءنا به الخبر عن الشعراني بقوله:” وكان رضي الله عنه -أي الجنيد- يقول: لا ينبغي للفقير (أي الصوفي) قراءة كتب التوحيد الخاص، إلا بين المصدقين لأهل الطريق، أو المُسَلِّمين لهم، وإلا يخاف حصول المقت لمن كذبهم.”2..
هذا كله يجرنا إلى التسلسل والاسترسال في البحث والتساؤل، عن ما الممنوع في هذا النوع من التوحيد حتى تكلف الجنيد إغلاق أبواب داره ووضع مفاتحها تحت وركه، بل استعماله أسلوبا غامضا لا يكاد يدرك مدلوله أهل مجلسه؟ وذلك كما في الخبر عن ابن عربي في قوله: “سئل الجنيد عن التوحيد، فأجاب بكلام لم يفهم عنه. فقيل له: أعد الجواب فإنا ما فهمنا، فقال جوابا آخر، فقيل له: وهذا أغمض علينا من الأول…”3؟
هذا عن الجنيد، أما الغزالي الملقب بحجة الإسلام، أي الإسلام الصوفي، فاستمع إليه وهو يبين بوضوح دون غبش أو غموض مرادهم من استعمالهم لفظ التوحيد بقوله:” لا إله إلا الله توحيد العوام، ولا هو إلا هو توحيد الخواص“4. تذكر جيدا أن توحيد الخواص في كلام الغزالي هو ما عبر عنه الجنيد في قوله السابق بقوله: “لا ينبغي للفقير قراءة كتب التوحيد الخاص“.
ولنبقى مع الغزالي وهو يبين لنا هذا التوحيد الخاص بالخواص، وتأمل قوله بإمعان: (كما أنه لا إله إلا هو، فلا هو إلا هو، فإن عبارة هو، عبارة عما إليه الإشارة، وكيفما كان فلا إشارة إلا إليه، بل كلما أشرت فهو بالحقيقة الإشارة إليه)5.
ما معنى قول الغزالي: (فلا هو إلا هو، فإن عبارة هو، عبارة عما إليه الإشارة)، لا بد أيها القارئ من أن تحلل كلامه بنفسك وبهدوء لتزداد تمرساً بفهم نصوص المتصوفة، وتكسب مهارة في فهم أسلوبهم وحل ألغازهم وإدراك إلى ما ترمز إليه عباراتهم. وإلا فنحن لا نكتب للتثقيف فحسب، وإنما لتمتلك القدرة على كشف تلاعب القوم بعقيدة المسلمين. فـ”لا هو إلا هو” عقيدة؛ وهي تعني أن كل ما يشير إليه الصوفي عند ذكره لله بقوله: “هو” الأولى، فهو الله تعالى بقوله “هو” الثانية، تعالى الله عما يقول الغزالي علوا كبيرا.
ولعل في كلام الغزالي ما يكشف لنا عن بعض سر أسرار اختيار الطريقة البوتشيشية وِرْدَها المعتمد لمريديها بلفظ “هُوَ هُوَ “.
فـ”هو هو” البوتشيشية، هي عين قول الغزالي “فلا هو إلا هو” ، ثم تأمل قول الغزالي: “فإن عبارة هو، عبارة عما إليه الإشارة، “وتأمل قوله جيدا” وكيفما كان فلا إشارة إلا إليه، بل كلما أشرت فهو بالحقيقة الإشارة إليه”.
أبى الغزالي إلا أن يبين أمر هذا التوحيد، بيانا شافيا أكثر مما بين وأوضح، دون تكتم أو تخوف بقوله: “العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة، اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق، ولكن منهم من كان لهم هذه الحالة عرفانا علميا، ومنهم من سار له ذوقا وحالا، وانتفت عنهم الكثرة بالكلية، واستغرقوا بالفردانية المحضة، واستهوت فيها عقولهم فساروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم. فلم يبق عندهم إلا الله، فسكروا سكرا، وقع دونه سلطان عقولهم، فقال بعضهم: أنا الحق، وقال الآخر: سبحاني ما أعظم شاني. وقال الآخر: ما في الجبة إلا الله… وتسمى هذه الحالة بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز: اتحادا، وبلسان الحقيقة توحيدا“6.
لا أظن أنك أيها القارئ لا تعرف أن صاحب قول: “أنا الحق” هو طيفور البسطامي.
وصاحب قول: “سبحاني ما أعظم شأني” هو أبو يزيد البسطامي.
أما صاحب قول: “ما في الجبة إلا الله” فهو الحلاج.
لا تنسى قول ابن عجيبة المغربي وهو يترضى عن الحلاج في قوله: “وبإظهار -يريد الحلاج- هذا ومثله قتل –رضي الله عنه-، فمن لطف الله تعالى ورحمته أن ستر ذلك السر بظهور نقائضه، صونا لذلك السر أن يظهر لغير أهله ومن أفشاه لغير أهله قتل كما فعل بالحلاج”.
بل تأمل قول الغزالي وهو يشرح جانبا من الحديث القدسي، عند قوله صلى الله عليه وسلم”… فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها…”، حيث يقول: (له نزول إلى سماء الدنيا وإن ذلك هو نزوله إلى استعمال الحواس، وتحريك الأعضاء، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: “صرت سمعه،.. الحديث” وإذا كان هو سمعه وبصره ولسانه فهو السامع والباصر والناطق إذن لا غيره)7.
فماذا عن تصوف الغزالي بعد هذه النقول يا الغلبزوري؟
بل نسأل عن هذه النقول كل من يروج لدعوى أن هناك تصوفا سنيا، وهناك تصوفا فلسفيا خرافيا؟
مدلول “الحقيقة” في العقيدة الصوفية
ومما توارثته أجيال التصوف جيلا عن جيل دون نكير قول الجنيد: “لا يبلغ أحد درج الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صديق أنه زنديق“8. وفي رواية “لا يكون الصديق صديقا حتى يشهد له في حقه سبعون صديقا بأنه زنديق…”.
نعم، لو أنه قال: (لا يكون الصديق صديقا حتى يشهد فيه ألف صديق أنه صديق) لكان ذلك مستساغاً… ولكن إذا وجد المرء من المغفلين من يصدقه فلماذا لا يَقُلْ ما شاء؟! أَوَ ليس كلام الأولياء الصوفية السادة الأكابر لا يفهمه إلا الخاصة، بل خاصة الخاصة؟! هكذا يقولون دون وعي ولا تفكير: “لا يكون الصديق صديقا حتى يشهد فيه ألف صديق أنه زنديق “!!!
فما أعجب حالهم، وكأن عقولهم مغلولة معطلة!!
على كل حال فهذا العلامة الصوفي سكيرج صاحب كتاب “كشف الحجاب عمن تلاقى مع الشيخ التجاني من الأصحاب” ينقل لنا عن الشيخ عبد الوهاب الشعراني من كتابه “الجواهر والدرر” ما يبين لنا حقيقة المراد من كلام الجنيد وذلك بقوله نقلا عن الشعراني: (سألت شيخنا رضي الله عنه عن قول الجنيد رضي الله عنه، “لا يبلغ الرجل درج الحقيقة…” ما المراد بدرج الحقيقة؟
قال رضي الله عنه -الكلام هنا لشيخ الشعراني جوابا عن سؤال الشعراني-: درج الحقيقة هو زوال هذا الوجود في الشهود، فإنه إذا شهد هذا المشهد لا يصير يرى إلا الله…). ثم يضيف السكيرج بعد هذا القول بيان سعد الدين التفتازاني صاحب كتاب “شرح المقاصد” بقوله: (السالك إذا انتهى في سلوكه إلى الله تعالى وفي الله سبحانه يستغرق في بحر الوحدة والعرفان بحيث تضمحل ذاته في ذاته وصفاته في صفاته، ويغيب عن كل ما سواه ولا يرى في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى…)9.
فيا أدعياء وجود تصوف سني أليس كتاب السكيرج هذا يعد من كتب هذا النوع من التصوف ؟
ثم ما معنى قول القائل: تضمحل ذاته في ذاته وصفاته في صفاته؟
وهل يعقل أن لا يكون الصديق صديقا حتى يشهد فيه الصديقون أنه زنديق؟
ومتى كانت الزندقة مقاما من مقامات الصديقية؟
اللهم إلا إن كان مقام درج الحقيقة في كلام الجنيد المقصود منه عنده عين ما باح به الحلاج، والذي مقتضاه أن يكون المخلوق عين الخالق، وأن الخالق هو عين الوجود، ومن ثم يصير كلام الجنيد له معنى معقولا ومدلولا مقبولا حيث يصير على هذا الشكل:” لا يبلغ أحد مقام اعتقاد وحدة الوجود حتى يشهد فيه ألف صديق بأنه زنديق”. فيكون الصديق هنا في كلام الجنيد هو عالم الشريعة، والزنديق هو عالم الحقيقة، فتنبه.
هذا ليس من التخمين في شيء، انظر إلى ما قاله السكيرج في تمام ما نقلناه من كتابه عن الشعراني من جواب شيخ هذا الأخير في الكلام السابق: “فلا يسع الصديق إلا أن يرميه بالزندقة غيرة على شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فالمراد بالصديق هو من سلك طريق الشرع على التمام والكمال وعادى من شطح عنها من أهل الوحدة…”10.
فـ”الحقيقة” إذن أيها القارئ في مدلول كلام الجنيد هي مرتبة يصل إليها السالك باعتقاده أن لا موجود إلا الله، وذلك حين صيرورة المخلوقات في حقه وَهْمًا لا حقيقة له، كما عبر عن هذا شيخ الشعراني في جوابه عن السؤال عن المراد بدرج الحقيقة بقوله: زوال هذا الوجود في الشهود. وهذا عين ما عبر عنه أبو الفيض المنوفي الحسيني الصوفي بالفناء عن الأغيار أي الخلائق وذلك في قوله: “وإذا فنى العبد عن الأغيار كملت معرفته لبقائه مع الحق…، وإذا وصل من المعرفة إلى هذا الحد من التمكن شارف عين الجمع أي الحقيقة، وصار الجمع له حالا..”11.
فالحقيقة الصوفية هي مقام تحقق الصوفي بصفات الرب في حال اضمحلال نفسه وفنائه عن وجوده، وشعوره باتحاد الخالق والمخلوق في ذات واحدة. فلا ثم خالق ولا ثم مخلوق، ولا ثم رب ولا ثم عبد، إنما هو هو. وذلك كما أخبرنا سابقا الغزالي عند كلامه عن توحيد الخواص وتوحيد العوام. هذا غيض من فيض أيها القارئ.
أو ليس الغزالي والتجاني والشعراني وسكيرج، …وغيرهم ممن لم تتسع هذه السلسلة لذكر أسمائهم ونقل أقوالهم هم أرباب هذا التصوف السني المزعوم ؟!!
وصدق الله العظيم القائل: ﴿ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون﴾12.
أظن أنه لم يعد هناك أدنى شك لذا القارئ أن القضية عند التحقيق بين أهل السنة والمتصوفة، ليست قضية هل الجنيد ينتسب إلى تصوف سني سلفي، أو أنه ينتسب إلى تصوف بدعي فلسفي. كما يحاول من يحسنون الترويج لهذا الأمر عن عمد قصد صرف العامة من الناس عن حقيقة المعركة. ولو كان الأمر يقف عند هذا الحد لكان هينا؛ إنها قضية كل شيوخ التصوف، دع عنك عوام المتصوفة ورعاعهم فهؤلاء لا دراية لهم بمصطلحات التصوف ودلالاتها، فحسب هؤلاء القفز والشطح والرقص والصياح والطمع في نيل البركة من الشيخ الكامل الواصل. إنها معركة عقدية مذهبية. إلا أن على هؤلاء المروجين أن يتأمل كل منهم نصيب إثمه فإنه “من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا“13، ويقول الله تعالى: ﴿ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون﴾14.
يتبع…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) مشكاة الأنوار، المقدمة.
2) الطبقات الكبرى 1/101.
3) الفتوحات المكية 4/104.
4) مشكاة الأنوار ص:14.
5) نفس المصدر.
6) مشكاة الأنوار ص:12 مجموعة رسائل الإمام الغزالي
7) مشكات الأنوار ص:15.
8) الفتوحات المكية 1/213.
9) كشف الحجاب عمن تلاقى مع الشيخ التجاني من الأصحاب ص:373.
10) المصدر السابق.
11) معالم الطريق إلى الله ص:260.
12) سورة الزخرف الآية 58.
13) صحيح مسلم الحديث 2674.
14) سورة النحل الآية:25.