سلسلة يا بـنــي (ح1)
ربيع السملالي
هوية بريس – الأحد 11 أكتوبر 2015
– يا بُنيّ:
كنْ صادقًا في انتمائك لهذا الدّين العظيم، مفخترًا بكونك مؤمنًا، ولا تلقِ بالاً لسخرية واستهزاء ولمز أحفاد أبي جهل وعشّاق العاهرة (أمريكا)!.. ولا تغترّ بكثرة الهالكين النّاعقين المتّبعين لكلّ سافل، فأنتَ الجماعة ولو كنتَ وحدَك؛ مادام القرآن قائدَك وسنّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم نبراسَك الذي تهتدي به في هذه الظّلمات الحالكة التي تنشر سلطانها على الذين لا يعلمون!
لا تطأطئ رأسك خجلا وحياءً من سمتك وتديّنك مستكينًا كما لو أنّك مذنب قد اقترفَ شيئا إدّا.. واعلم أنّ استمساكك بدينك ومعتقدك وتوحيدك يؤرّق ويزعج العَلمانيين أعداء الله من الغرب الكافر وإخوانهم القِردة المنافقين من أبناء جلدتنا، فزاحمهم بالرّكب ولا تتوانَ في طلب العلوم الدّنيوية فأنت أولى بها منها واجعل منك على ذُكر أجدادك العباقرة في الطّب والفيزياء والفلسفة: ابن الهيثم، وابن سينا، وابن رشد، والبيروني، وابن باجة، والفارابي، وغيرهم كثير ليس من الحكمة استقصاؤهم في هذه الأكتوبة!
– يا بُنيّ:
قِفْ حيثُ وقفَ أسلافنا من الصّحابة والتّابعين، ولا تكن وقحًا في تعاملك معهم والكلام عنهم كما هي عادة الضَّلال ابن سبَهْلل الذي يقول: هم رجال ونحن ورجال!.. أو يقول: تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم.. كلمة حقّ وُظِّفت في غير محلّها لحاجة في نفس إبليس وأتباعه!.. فإنّك يا ولدي مأمور باتّباع سبيل المؤمنين في الكتاب العزيز والسّنة المطهّرة!.. وإذا ذكرت سيّد البشرية صلّى الله عليه وسلّم في معرض حديثك كتابةً ومشافهة فكن مؤدّبًا راقيًا، ولا تكتب اسمه مجرّدا، ولا تختصر الصّلاة عليه بهذا الشّكل القبيح (ص) (صلعم).. فلا يفعل ذلك إلاّ جاهل، أو حاقد، أو مارد، أو معاند.. فاربأ بنفسك أن تكون منهم.. ونصيحتي لك أن تكثر من مطالعة كتب الحديث حتّى تستقرّ هذه الجزئية في أعماقك وترسخ في قلبك..!
– يا بُنيّ:
وقِّر صحابَة رسول الله وأهلَ بيته واعرف لهم مكانتهم وقدرَهم، ولا تخُض في أمور أنتَ لستَ لها بأهل، ودعك من الكلام في واقعة الجَمَل وصفين حتى لا تصاب بمرض التّشيّع والرّفض الحقير.. فتلك فتنة امتحن الله بها قومًا مؤمنين منهم المخطئ والمصيب وفي كلّ خير، فلا تتناول أعراضهم بالثّلب والنّقد والطّعن كما يفعل بعضُ النّكرات من أهل زماننا، وما هم بالنّسبة إلى ذلك الجيل القرآني الفريد إلاّ كساقية شحيحة الماء تريد أن تلاطم بحرًا، أو كبصقة صبيّ في صحراء مترامية الأطراف.. أو: كناطح صخرة يومًا لِيُوهِنها.. . فلم يضِرها وأوهى قرنه الوعلُ ومن سبّ معاوية فأمّه هاوية!..
انشغل بما ينفعك من علوم فإنّ الله لن يسألك يومَ القيامة عن أخطاء أمّة سادت العالم ونزل فيها القرآن واختارها سبحانه لصحبة نبيّه الكريم صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.. فإن وجدتَ تشويشًا وقلقًا في هذه المسألة وتريد أن يطمئن قلبك وتدفع عن تفكيرك هذا اللّبس الذي نجم قرنه بسبب دُعاة على أبواب جهنّم فعليك بكتاب (منهاج السّنة النّبوية) لأبي العبّاس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، في أربع مجلّدات بتحقيق الدكتور أحمد رشاد سالم طبعة دار الفضيلة.. وكتاب العواصم من القواصم لابن العربي المالكي بتحقيق محبّ الدين الخطيب، وهو كتاب متداول في جزء واحد! وكتاب متوسط الحجم كنت قرأته في جلسة واحدة عنوانه حقبة من التّاريخ للباحث الشيخ عُثمان الخميس!
– يا بُنيّ:
لا تبالغ في التّفاؤل، ولا تسرف في التّشاؤم، ولا تجعل اليأسَ يُسيطر عليك مهما كانت الأزمات التي تراها وتعيشها، وحدّث نفسك بالجهاد دوما، جهاد النّفس وجهاد الكافر المغتصب لبلاد الإسلام، بل إن استطعتَ أن تكون بين المجاهدين في أرض المعركة فافعل فهو خير لك من الجلوس في بيتك للبكاء على الأطلال كامرأة ثكلى لا حول لها ولا قوّة، فما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلاّ ذُلّوا، وإذا رأيت الأمم الكافرة تتداعى على هذه الأمّة كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها فاعلم أنّ كلّ ذلك سببه حبّ الدّنيا وكراهية الموت! كما أخبر بذلك الصّادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم.. ولا تنتظم في سلك جماعات الغلاة.. غلاة المرجئة وغلاة التّكفير.. ولا تكن داعشيّا، ولا عابدا متملّقا للطّواغيت مهما كان بأسهم شديدًا.. واسأل الله أن يريك الحق حقّا ويرزقك اتّباعه، ويريك الباطل باطلا ويرزقك اجتنابه..!
– يا بُنيّ:
الكتب كثيرة.. كثيرة جدّا.. وكلّ يوم تدفع مطبعات العالم مئات الكتب بل الملايين.. يكفيك أن تدخل إلى أيّ مكتبة من مكتبات المدن الكبرى لتقفَ حائرًا منبهرا أمام هذه العناوين المزركشة التي تملأ الرّفوف، وتكون كما وقع للصّياد المسكين (خِرَاش) حين خرج ذات صباح للصّيد فوجد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. وجد من الظّباء الكثيرة ما جعله يقف متجمّدًا كتمثال من شمع لا يحرّك ساكنا.. .فسجّل لنا الشّاعر قصّته بهذا البيت النّفيس:
تكاثرت الظّباءُ على خِراش***فما يدري خِراشُ ما يصيدُ!
لذلك يا ولدي فخذ من الكتب ما تحتاج إليه بعد سؤال أهل العلم والأدب الرّاسخين فيهما وأهل الاختصاص، ولا تكن كحاطب ليل لا همّ له إلاّ الجمع دون تمحيص، فالعمر قصير والعلم لا يمكنك الإحاطة به، وكذلك الأدب، وكلّ فنّ من الفنون.. وأزيدك بيانًا فكثرة الكتب لم تكن في يوم من الأيّام غاية من غايات أهل العلم والفضل، بل هي وسائل يجب أن تقتني منها بمقدار في غير إسراف، فالإسراف والمبالغة والفوضى في جمع الكتب أشياء قد تحول بينك وبين المطالعة الرّشيدة المثمرة، فعشرة كتب من كلّ فن في خزانة صغيرة مقروءة مضبوطة أفضل من آلاف الكتب المرصوصة في رفوف لا يعرف منها صاحبُها إلا ما تعرفه جدّتي عن هذه (التكنولوجيا) الحديثة!.. وإن شاء الله في أكتوبة قادمة قد أذكر لك أهمّ العلماء والأدباء والمفكرين من القُدامى والمُحدَثين الذين يجب أن تجعلهم قِبلتك.. والذين كان لهم الفضل بعد الله في تكوين أبيك، وتوجّهه!
– يا بنيّ:
لا أحبّذ لك وأنت مقبل على القراءة أن يكون همّك الانتهاء من الكتاب في أسرع وقت، لتقول قرأتُ من الكتب كيت وكيت في وقت وجيز، حتّى إذا امتحنك غيرك فيما قرأت وجدك أضلّ من الحُمُر الأهلية!!.. كلاّ قراءتك للكتاب ثلاث مرّات أنفع وأكثر استيعابًا لما فيه، لاسيما الكتب الشّرعية والفكرية والفلسفية، فإنّها تحتاج منك الكثير من الوقت لتخرج منها بفوائدَ ونفائس تمرّرها باختصار لغيرك، عن طريق الكتابة أو المشافهة، أمّا القراءة من أجل القراءة والمتعة فلا تضيّع وقتك النّفيس بذلك.. لكن لابأس أن تطالع بين الفينة الأخرى حين يستولي عليك الملل بعضَ كتب الأدب المُسليّة ككتاب البخلاء، كليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة وقصص جحا التي جمعها بعضهم بين دفتي مُجيليد صغير.. وغيرها كثير !
– يا بُنيّ:
لا تكثر من الأصدقاء ولا تسرف في البحث عنهم، وليكن الكتابُ صديقَك وصاحبَك في السّفر والحضر، فهو المخلص الدّائم، والأنيس الملازم، إن أحسنتَ اختياره، ولتكن النّاس عندك معارف كما يقول ابن الجوزي في صيده، أمّا أصدقاء فلا، فالصّديق الوفيّ المخلص في هذا الزّمن الموحش أندر من الكبريت الأحمر، فإن وجدته فعضّ عليه بالنواجذ واستمسك بغرزه حتّى يدركك الموت وأنت على ذلك.. وقبل أن تحكم عليه بالخيانة أو الوفاء سافر معه واسبر أغوار نفسه وأنتما في أرض غير أرضكما وجو غير جوكما، وفي أوقات شدّتك وأزماتك ستعلم وينجلي الغبارُ أفرس تحتك أم حمار.. ولتكن في صحبته حرّا كريما فطِنا إن كرهتَ منه خلُقًا رضيت منه بآخر ليكونَ بك أسعد، وتكون أنت ذاك الصّديق المنشود الذي تطمئنّ إليه النّفس.. فلا تفشِ سرّه ولا تكن مِهْذارًا ثرثارًا في الحديث إليه، لكيلا يملّ من صحبتك فيُعرض وينأى بجانبه.. ويا ليتكما تجتمعان على الكتب ومدارستها وتفترقان على ذلك.. فإن كان كذلك فأنْعِم بها من صحبة تُضرب في سبيل الوصول إليها آباط الإبل وأكبادَها!
..واحذر أن تكون من الذين ينظرون إلى الصّداقة من الجانب المادّي فهذا فعل اللّئام الذين لا يرضون إلا بالعطاء والمنفعة والمصلحة فإن لم تكن مِعطَاءً سخيّا كريمًا معهم أعلنوها حربًا ضروسًا لا رفق فيها.. .ولكي لا أطيل عليك أيّها الحِبُّ وعلى نفسي (فأنا رجل أكره التّطويل وأحبّ الإيجاز) أحيلك إلى كتاب فريد في بابه لم يؤلّف مثله فيما أعلم، لأبي حيّان التوحيدي عنوانه (الصّداقة والصّديق) في مجلد ضخم اقتنيته من سنوات فوجدت فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب صديق!..
– يا بُنيّ:
إنّ للجار في الإسلام حقُوقًا عظيمة وخطيرة يجب مراعاتها، ولا ينبغي التّفريط فيها حتّى لا يدركك من الشّقاء ما أدرك الذين لا يعلمون، فلا تطلق بصرك في عورات زوجة جارك وبناته، ولا تضمر شرّا وفاحشة، وتنصب فخّا ومصيدة لهنّ، فهذا منكر.. منكر عظيم يا ولدي، حذّر منه رسول الإسلام صلّى الله عليه وسلّم وبالغ في التّحذير، وجعله مقرونًا بالشّرك وقتل الولد مخافة الجوع حين سُئل عن أعظم ذنب عند الله.. فإيّاك إيّاك أن تترك إبليسَ يزيّن لك هذه البوائق فتركنَ إليه وتكونَ من الخاسرين.. واذكر بعض أخلاق الجاهليين الذين كانوا يغضّون أبصارهم عن نساء القبيلة كلّها، وليس عن نساء الجار وحدَه، لأنّ ذلك في عُرفهم ليس من المروءة والشّهامة والرّجولة في شيء، والأخبار في هذا كثيرة أكتفي لك منها ببيتين لشاعرهم (عنترة بن شدّاد):
وأغُضّ طَرفي ما بدتْ لي جارتي.. حتّى يُواريَ جارتي مأواها إنّي امرؤ سمْحُ الخليقة ماجدٌ.. لا أتبعُ النّفسَ اللّجوجَ هواها.
فانظر -حفظك الله- إلى قوله: لا أتبع النّفس اللّجوج هواها! فهل ترضى أن يكون أهل الجاهلية الأولى أفضل منك في كبح جمِاح النّفوس والأهواء، وأنت أنت المسلم الذي رضي بالله ربّا والإسلام دينًا وبمحمدّ صلّى الله عليه نبيّا ورسولا!
وفقك الله..
– يا بُنيّ:
كن لأختك صديقًا وأخًا وفي غيابي أبًا.. عاملها بلطف، ولا تشقّ عليها، ولا تشعرها بذاك الفراغ الذي يسيطر على الكثير من فتيات هذا الزّمان، أنفق عليها من حنانك حتى ترضى وتمتلئ، اخرج بها إلى حدائق عامة، وإلى أماكن للنّزهة والاستجمام.. اقرأ معها كتابا وتنافس معها على الانتهاء منه في أقصر مدّة.. ولا تتركها فريسة للفراغ العاطفي القاتل وللذّئاب البشرية الكاسرة التي لا همّ لها إلاّ اقتناص مثل هذه الفرص بدعوى الحبّ والغرام وما إلى ذلك من الأسماء الرّنانة التي أصبحت تُرتكب باسمها الموبقات والكبائر.. .احرص على رعايتها واعطها من مالك واشترِ لها ما تريده من حاجيات وضروريات ولا تكن بخيلا معها، وتذكّر دوما أنّه لا فرق بينكما فكلاكما خرج من صلب واحد، وفي أجسادكما يجري دم واحد، وتحملان اسمَ أب واحد فأنت قطعة منها وهي قطعة منك.. بل هي نفسك فكيف تبخل على نفسك وتضِنّ عليها بما تشتهيه وما تصبو إليه من خير..!
– يا بُنيّ:
أمّك ثمّ أمّك ثمّ أمّك.. فإنّها الدّفء حين يستبدّ بك الصّقيع، والضّوء حين تسولي عليك الظّلمات، والحلّ الوحيد بعد الله حين تهجمُ عليك الأزمات.. لا تضِقْ ذرعًا بكلامها، ولا تترك أنفكَ يحمرّ غضبًا من نصائحها، فوالله لن تجد في الحياة من ينفق عليك من الحبّ والحنان والعطف بغير حساب كأمّك هذه الحنون التي كابدتْ وتكابدُ من أجلك الأهوال، وتضرب في سبيل مستقبلك وفرحك أكبادَ الإبل.. فكن رجلا شهمًا في تعاملك معها، ولا تكن وغدًا حقيرًا فترفع صوتك ويدك عليها كما يفعل الذين لا يعلمون.. فإن فعلتَ فلستُ لك أبًا، ولستَ لي ابنًا، وأنا بريء منكَ براءةَ ماء المُزْن من شوائب الأرض!