سلسلة يا بُني (ح2)
ربيع السملالي
هوية بريس – الإثنين 19 أكتوبر 2015
1/ يا بُني:
إذا وجدت من نفسِك ميلاً إلى الكتابة النّثرية، وشعرتَ بدودة الموهبة تنغُل في دمك، فاهتبل الفُرصةَ واعتكِف في مِحراب الأدب، واقرأ كلَّ ما تصل إليه يدك من الكتب التي خلّفها أسلافك من الأدباء والعظماء والشّعراء والمفكّرين.. اقرأ بتأمّل كلّ عبارة ولفظة من عبارات وألفاظ العرب الأقحاح حتّى تستوعب وتفهم وتستقرّ هذه اللّغة العظيمة في أعماقك، وتتكوّن لديك فكرة مجملة عن معانيهم وطريقة تفكيرهم.
ثمّ اقرأ لغيرهم من جهابذة المُحدَثين كالعلاّمة عبد الله گنون، والعلامة أبي فِهْر محمود شاكر والأديب العجيب مصطفى صادق الرّافعي، وغيرهم كثير ليس من الحكمة سردُ أسمائهم في هذه الأكتوبة.. ولا تعتقد يا ولدي أنّ بدراستك لقواعد النّحو والإملاء والبلاغة والصّرف والتّحويل ستكون كاتبًا ماهرًا لا يُشقّ له غبار، كما يظنّ كثير من جَهَلة الدّارسين.. كلاّ بل مصاحبة الكتب والعيش في أحضانها وسبر أغوارها هو السّبيل إلى تَفتّق الذّهن والخروج من شرنقة الرَّكاكة والعِيّ والحصر…
فبعد دراسة النّحو وفهمه فهمًا جيّدا عِش أيّامك وشهورك مع كتاب البيان والتّبيين للجاحظ، والكامل للمبرّد، وزُهر الآداب للحصري، وعيون الأخبار وأدب الكاتب لابن قتيبة، والآمالي للقالي، والأغاني لأبي الفرَج الأصفهاني. وأطِل النّظر في كتاب مقاييس اللّغة لابن فارس، وفقه اللّغة للثعالبي، ولسان العرب لابن منظور.. فإن لم تفعل هذه الأشياء مُجتمعةً فــ(دع عنك الكتابة لستَ منها…ولو سوّدتَ وجهك بالمِداد) !
2/ يا بُنيّ:
إذا منّ الله عليك بالعلم وصرتَ من الباحثين فكنْ حريصًا على عزْو كلّ قولٍ إلى صاحبه، وكل كلمة إلى قائلها، ولا تتشبّع بما لم تُعطَ، وارضَ بما معك من فكر وتعبير وأسلوب في الكتابة.. لا تحاول الذّوبان في شخصية غيرك، والانصهار في بوتقة من تحبّه من الكتّاب والأدباء والعلماء والمفكرين، كما هي عادة كثير من محدودي الثقافة والاطّلاع..
وحين تُطالع كتابًا فتجد الكاتب قد نقل قولاً نفيسًا من كتاب آخر مع ذكر المصدر ورقم الصفحة والجزء فلا تأخذ هذا القول مباشرة وتنسبه إلى نفسك دون الإشارة إلى صاحبه الذي اكتشفه قبلك، فتوهم القارئ أنّك صاحبُ هذه المعلومة وهذه الفائدة المُستخرجة من بطن ذلك الكتاب.. ليقال عنك قارئ وصاحب اطّلاع واسع، فهذا منافٍ للإخلاص والصدق في طلب العلم الذي يراد به وجه الله والدّار الآخرة.. ومن بركة العلم كما يُقال عزو القول إلى قائله… وإنّي أعرف أقوامًا يُشار إليهم بالبنان يكرهون سيّد قطب ويُسرفون في ذمّه ويبالغون في تحذير النّاس من كتبه، في حين وجدنا في كتبهم عشرات النقولات مسروقة من تفسير سيد قطب (في ظلال القرآن) دون نسبة إلى صاحبه.. وقد كشفَ بعض الباحثين أحد هؤلاء في كتاب لطيف بأدلّة واضحة لا غموض فيها..
وإليك ما قاله العلاّمة عبد الفتّاح أبوغدّة في مقدمة كتابه المعطار “قيمة الزمن عند العلماء” (ص:19) لعلّه يكون لك نبراسًا وإمامًا تقتدي به: وإنّي قد التزمتُ في كتبي صغُرت أو كبُرت، عزْو كلّ خبر أو جملة، بل كلّ كلمة إلى قائلها مع تسمية المصدر وتعيين الجزء والصفحة فيه، أداءً للأمانة العلمية، وتمتينًا للثقة بالمنقول!
3/ يا بُنيّ:
قالوا: كن بالخير موصوفًا ولا تكن للخير وصّافًا وكن بالعلم موصوفًا ولا تكن للعلم وصّافًا، فإنّ الواو والرّاء والدّال لا تُشمّ منها رائحة الورد!.. وصدقوا فالعلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلاّ ارتحل!.. احرص يا ولدي ما وسعك الحرصُ على العمل بما تقرؤه ولا تجعل غايتك تراكم المعلومات والفوائد دون تطبيقها على أرض الواقع، لكيلا لا تكون كالذي وصفه الله بالكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، وما ذلك إلاّ بسبب انسلاخه من تلك الآيات والعلوم والفوائد المتراكمة التي منّ الله به عليها، أو كالذين وصفهم بالحمير التي تحمل أسفارا على ظهورها ولا تعرف ما تحويه من علوم وخير ومنفعة… وصدق الشّاعر حين قال في مثل هذا الموضع: وأشدّ ما ألقاه من ألم الجوى… قربُ الحبيب وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظّما***والماء فوق ظهورها محمول!
وليكن قدوتك في ذلك نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد كان قرآنًا يمشي على الأرض.. وقد سُئلت أمّنا عائشة رضي الله عنها عن خلقه فقالت: كان خلُقه القرآن! أيّ كان يعمل بما في كتاب الله لا يحيد عنه قِيد شَعْرة، جاعلا نصب عينيه الآية الكريمة (إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)… وكان بعض الصَّحْب الكرام -رضوان الله عليهم- يحفظون الآيات اليسيرة من كتاب الله لا يتجاوزونها حتى يطمئنوا إلى تطبيقها على أرض الواقع، مخافة أن تتكاثر عليهم الآيات البينات وتُقام عليهم الحُجج الواضحات فلا يستطيعون لها تطبيقا، وقد رُوي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب أنّه استغرق في حفظ سورة البقرة أكثر من عشر سنوات..
قد تعترض عليّ يا بني فتقول: لكنك يا أبي سمعتك تقول مرّة: الكتب والمجلّدات التي قرأناها نحتاج في تطبيقها إلى إيمان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسلمان الفارسي! فأجيبك بنعم قلت ذلك وأكرّره وأؤكّد عليه، لكن حين تكون نيّتك صادقة في العلم بحيث تقرأ من أجل العمل سيوفّقك الله ويسدّدك ولو عجزت في بعض الأحايين عن التّطبيق فلا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها!
4/ يا بُنيّ:
قد تسمع في كلّ عيد من يردّد حانِقًا مع المتنبي: عيد بأيّة حال عُدتَ يا عيدُ… بما مضى أم بأمر فيك تجديدُ! وذلك بسبب ما يرونه من كوارث ومآسي وفواجع في أمّتنا المكلومة، لكن هذا مخالف لما ينبغي أن يكون عليه المسلم في هذا اليوم العظيم.. فإنّ العيد فسحة للفرح وإدخال السّرور على النّفوس مهما كان الأمر! فلا يجمل بك يا ولدي أن تكون لك هذه النظرة التشاؤمية، ولا يحسن بك أن تردّد مع النّاس أو بعضهم بيتَ المتنبي هذا الذي أصبح كأنه آية قرآنية! المتنبي كان أسيفًا سيطر عليه الحزن لأنّ الجاه الذي كان مبلغ آماله وأحلامه وأمانيه لم يوفق لإدراكه مع كافور الإخشيدي، فأرسل هذه القصيدة التي تقطر يأسا وحزنا ورميًا بأقذع الهجاء ! ولو نال ما أراد لكانت القصيدة غير القصيدة والبيت غير البيت!
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَعِس عبدُ الدينار تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخِط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)..!
وصدق ربّي إذ يقول: (والشعراء يتبعهم الغاوون ألمْ ترَ أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنّهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا) .
يقول الرّافعي في وحي قلمه: ما أشدّ حاجتنا نحن المسلمين إلى أن نفهم أعيادنا فهما جديدًا! نتلقّاها به، ونأخذها من ناحيته، فتجيء أياما سعيدة عاملة، تُنبّه فينا أوصافها القويّة، وتجدّد نفوسنا بمعانيها، لا كما تجيء الآن كالحة، عاطلة، ممسوخة من المعنى، وأكبر عملها تجديد الثّياب، وتحديد الفراغ، وزيادة ابتسامة على النّفاق! (ص:51).
5/ يا بُنيّ:
لا تغترّ بكثرة المدح، ولا تلقِ بالا لكلّ مجامل كذّاب، يوزّع مدائحه على كلّ من هبّ ودبّ، فقد يقول عنك اليوم: أنتَ رجل عبقري لك من الذّكاء ما لم أرَه عند غيرك، وغدا يصفك في غيابك بالغباء والجهل والرّعونة!… فأنتَ أدرى بنفسك من غيرك، فلا تجعل هذه المجاملات تنسيك حقيقة نفسك، فتصبح مغرورًا، مصدّقًا ما يقال عنكَ مجاملةً ونفاقًا وتملّقا، وهذا الصّنف من النّاس هو السّبب الرّئيس في طغيان كثير من الكتّاب والأدباء والشّعراء المبتدئين.. وما أجمل قول مالك بن دينار رحمه الله: مذ عرفتُ النّاسَ لم أفرح بمدحهم ، ولم أحزن على ذمّهم ، فحامدهم مُفرّط، وذامّهم مُفرِّط!
6/ يا بُنيّ:
كنْ عاقلاً…
أتدري ما العقلُ؟!
أن تكفّ أذاك عن المسلمين، ولا تتناول أعراضَهم بالثّلب، ولا تتبّع عوراتهم، وتفرح بزلاّتهم، ولا ترضَ بما لا ترضاه لنفسك وأهل بيتك.. وإيّاك أن تكونَ مفتاحًا في الشّر رأسًا في إشعال الفتن والتّحريش بين إخوانك، وملء الصّدور بالعداوة والبغضاء وما إلى ذلك من الأفعال التي هي من خصائص إبليس.. باختصار كن في معزل عن البشر ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فإذا لم تستطعْ نفعهم فلا تكن سببا في ضرّهم!.. الزم بيتك وابكِ على خطيئتك واستغفر لذنبك وللمؤمنين، وقل: ربّ أدخلني مُدْخل صدق وأخرجني مُخْرج صدق واجعلْ لي من لدنْك سلطانًا نصيرا…!
7/ يا بُنيّ:
لا تتسَرّع في تخطِئَة غيرِك، ولا تحاول أن تكون من النّاصحين في أمور أنتَ فيها أضلّ من حمار أهلك.. فتُشمتَ بك المنصوحَ وتجعله يستلقي على قفاه ضحكًا من غبائك وتعالمك.. وإيّاك إيّاك أن تتزَبّبَ قبلَ أن تتحصرمَ، وأن تتصدّر قبل أوانك فتُفضحَ في حينك.. والتزم قدرك لا تتجاوزه لكيلا تكونَ أخا جهل في حماقة ينعَمُ!
8/ يا بنيّ:
حين تحدّثك نفسك بالاقتران بصبيّة، وتلحّ عليك رغبتك في الزّواج منها، فراجع نفسَك جيّدا ماديّا ومعنويا، فإن كنتَ ذا قُدرة على ذلك ولك من المال ما يكفيك لسدّ حاجيات الزّواج ومصاريفه التي لا تنقضي ولا يمكن أن تنقضي فتوكّل على الله واستخره وامضِ قدُما فيما أنت مقبل عليه.. أمّا إذا كان العكس فانصرف عن تلك الصّبية حتّى لا تظلمها وتكون سببا في شقائها، فهذا زمن ماديّ صِرف كلّ شيء فيه أصبح بثمن! واصبر مستعينا على ذلك بالصّوم والإلحاح في الدّعاء حتّى يغنيك الله من فضله!.. وأوصيك وأبالغ في الوصيّة إن لم تكن مستقلا في حياتك ولك بيت يخصّك فلا تترك نفسك ترتع في الخيال في أمر هذا الزّواج بدعوى أنّ بيتًا لأمّك سيأويك ودارًا لأبيك ستحضنك.. لا ثمّ لا ابتعد عن والديك واعتمد على نفسك حتّى لا يكون ذلك الاحتكاك اليومي معهما سببا في عقوقك وظلمهما لك ولزوجك.. واسأل عن هذا الأمر خبيرًا…فلن تجدَ من يخلص لك في النّصح مثلي رغم الحقيقة المؤلمة!
9/ يا بُنيّ:
فليَكن تعاملك مع النّساء في حدود، لا تسترسل في الحديث إليهنّ، والتّبسط معهنّ، وإيّاك ثمّ إيّاك والخلوة بإحداهن ما لم تكن من محارمك.. ولو كنتَ تحفّظها القرآن، وتدرّسها الحديث، فإنّ الشّيطان يجري منك ومنها مجرى الدّم وفرصته تكون محقّقة في هذا الاختلاء.. فالإنسان ضعيف بطبعه، ويزداد ضعفه أمام هذه المواقف.. ففرّ من بنات المسلمين فرارك من غَريم ولا ترضَ لهنّ ما لا ترضاه لأختك وأمّك وخالتك وعمّتك وزوجك.. وإذا زرتَ بيتَ أخ لك أو قريب فلا تدخله ولا تحدّث نفسك بالدّخول على زوجه وبناته وإن ألححنَ عليك في ذلك ما لم يكن موجودًا.. ودعك من تقاليد هذه البِيئة الفاسدة، التي لا ترى في ذلك أيّ حرج بدعوى القبيلة والدّم والعُرف!