ثورة العسكر الشريف على مدربيه الفرنسيين بفاس 1912
هوية بريس – ذ. إدريس كرم
السبت 31 أكتوبر 2015
كتب مدير المدرسة اليهودية بفاس المسمى المالح، للرابطة الإسرائيلية العالمية، رسالتين حول ما وقع من أحداث بفاس غداة ثورة العسكر الشريف أيام 17-18 من شهر أبريل 1912، جاء في الرسالة الأولى:
“فاس حي الملاح 22/4/1912؛ نحن واقعون تحت كابوس رهيب، نُهب الملاح من طرف القوات الشريفة الثائرة، يوم الأربعاء 17 من الشهر الجاري.
بعد الزوال غادرت المدرسة للبيت، وبعدما وضع لي طعام الغذاء، وبينما أنا أتناول بعض النبيذ (أنبذ) أخبرت بأن هناك تبادلا لإطلاق النار بباب الملاح، اعتقدت أنه مجرد نزاع عادي لا أهمية له، لكن بعد لحظات بدأت تصلني أحاديث جديدة أكثر تفصيلا وإزعاجا، علمت منها مقتل بعض مدربي القوات الشريفة؛ لقد ثار أكثر من 5000 من الجنود المتدربين على مدربيهم الفرنسيين، وكانوا جَيِّدِي التسليح، لهم أهداف محددة ثاروا لتنفيذها في الملاح والحي الأوربي.
تم إغلاق أبواب الملاح في وجه المتوجهين إليه من الجنود، لكن مع الأسف لم يكن هناك من قوة قادرة على حراستها، لأن اليهود كان ينقصهم السلاح والذخيرة، والهجوم كان مباغتا، مما استحال معه تنظيم الدفاع، فصار كل واحد يبحث عن كيفية الدفاع عن نفسه قرب البيعة.
تم احتلال مدرستنا من قبل النساء جئن باحثات عن الأمان غير داريات بالمخاطر كما أفهمناهن لاحقا، بعدما صار حضورنا ضروريا لأن الثوار كانوا يبحثون عن الفرنسيين لقتلهم.
حاولت تنظيم دفاعنا عن أنفسنا بشكل أحسن، كان لدينا خمسة بنادق وأكثر من 400 معتصم، لقد كانت وضعية محبطة.
حوالي الساعة الثانية بعد الزوال وصلتني أخبار مفادها أن الثوار أحرقوا البوسطة والملاح، لقد عشنا لحظات رعب حقيقية، جمعت حولي أفراد عائلتي وأعضاء المدرسة حتى إذا متنا نموت جميعا، لقد رأينا الموت رغم الدفاع الذي قمنا به ضد المهاجمين، كما علمت أن عددا من العائلات دافعت بشجاعة اليائس.
وتنقل البعض تحت طلقات الرصاص صباح يوم الخميس مبتعدا عن مكان الاشتباك بين حراس المندوبية والثوار، بدوري غادرت المدرسة مع كل من فيها من المحتمين نحو حديقة مجاورة لقصر السلطان، فقضينا بها بقية النهار، وفي المساء جاءت السلامة، فقد علم السلطان بحالنا فأمر بالبحث عن كل اليهود وفتح لهم باب قصره، وكان العدد حوالي ألفين دخلوا جميعهم لساحة القصر.
ماذا وقع للباقين؟
قضينا الليل في ساحة القصر تحت المطر، وبعد غد صباح الجمعة استدعانى السلطان مع عائلاتنا بقربه حيث خصص لنا استقبالا في منزله، وقدم لنا شرابا وحادثنا ببساطة ومودة وكثير من الطيبة ودام استقبالنا للمساء.
غادرت القصر للسفارة من أجل الاعتناء ببقية اليهود الذين لم يلتحقوا بالقصر لاستقدامهم إليه، وقد قام السلطان بتوزيع المواد الغذائية عليهم بسخاء كبير، كما بعث القنصل الإنجليزي الخبز لهم، ومن القصر هذا بَعثت أول مراسلة محمولة وهذا فحواها:
(الملاح نهب طيلة ثلاثة أيام، ودمر لدرجة يصعب ترميمه، وقد لقي عدد من اليهود حتفهم، وجرح آخرون، اليهود استقبلوا من طرف السلطان بقصره، ابعثوا بمساعدات عاجلة).
بمجرد خروجي من القصر لجأت للحي الأوربي حيث أسكن عادة، ترأست اجتماعا في المستشفى المدني بفاس مع اليهود الجرحى الموجودين به، كان هناك طبيبان فرنسيان وضعا رهن إشارتنا من قبل “رونو”، عدد جرحانا بلغ 25 فردا، بقي اليهود داخل أسوار القصر مختبئين بدون ملابس ينامون على أرض عارية من الفراش يعانون الحاجة، فكنت كلما دخلت عندهم إلا وشعرت بالأسى، متسائلا: كيف العمل؟.
بالأمس بعثت مراسلة ثانية جاء فيها: (ثلاثة أرباع الملاح دمر بالحرائق، اليهود ما يزالون بالقصر، مات منهم 50 فردا وجرح حوالي 24 فردا، لقد قامت السفارة الفرنسية بتوزيع المواد الغذائية، ومساعدات طبية، السكان المسلمون فتحوا اكتتابا لصالح الضحايا اليهود).
هذا المساء عدت مع “رونو” صحبة مهندس معماري وأطباء وضباط لمعاينة ما تبقى من الملاح، اجتزنا الحي الذي كان لعهد قريب مأهولا عامرا بالحيوية والحركة، إنه اليوم قاحل ساكن نتيجة معركة دامية دامت ثلاثة أيام، دخلت المدرسة التي أشتغل بها فلم أجد بها شيئا، الكل أحرق ومزق وكسر، الجثث منشورة في الشوارع، رفعت أكثر من 60 جثة رجالا ونساء وأطفالا، ترى كم سيكون باقيا من الجثث تحت الأنقاض؟
ذهبت مع الوزير “رونو” لمعاينة أكبر قدر من المنازل لمعرفة ضخامة النكبة، وبعد جولتنا التفقدية هذه، توجهنا كلنا لزيارة اليهود المتواجدين بالقصر، حيث خاطبهم الوزير “رونو” مواسيا ومشجعا، واعدا إياهم بإصلاح ما تضرر.
تكونت لجنة رسمية من قبل السلطان وبتوجيهات من “رونو” للاعتناء باليهود، مكونة من سي محمد التازي وزير الأشغال العمومية رئيسا، المالح مديره بفاس، كاتب الخزينة مرسي، قنصل فرنسا طارشان “دولو نيل”، مهندس معماري، الدكتور “ويسجربر”، طبيبان فرنسيان آخران كأعضاء.
أرجوا أن تبعثوا لنا بكل المساعدات التي تقدرون عليها، وتفتحوا في كل أنحاء العالم التي لدينا فيها إخواننا في الدين باكتتابات برعايتكم، اكتتابات فتحت في مدينة المسلمين، ولم نعرف بعد ما نتيجة ذلك.
أول جلسة للجنة تمت اليوم في المساء، وتقرر أول عمل يجب القيام به هو إزالة الأنقاض من شوارع الملاح بواسطة عمال يهود مأجورين تحت أوامر أعضاء من البعثة العسكرية الفرنسية انطلاقا من الغد، من أجل إعادة اليهود لحيهم بعد التنظيف والترميم.
من جهة أخرى قمت بجمع أكبر قدر من المواد الغذائية في مستودع بالملاح جعلته مركزا للتوزيع في نفس الوقت، وأطلعت كلا من السلطان والوزير القرشي على كل عملنا.
كان من اللازم علي ارتداء لباس عربي لأتمكن من التنقل خارج الحي الأوربي لشراء المواد الغذائية وقضاء الأغراض بين القصر والمدينة المسلمة، وأرصد أماكن تواجد الجنود الثائرين والمتعصبين الموالين أو المقربين منهم (انتهى منه ص:5).
وجاء في الرسالة الثانية المؤرخة في فاس 24 أفريل 1912:
توجهت اليوم مع زملائي في لجنة الإنقاذ والصحة بالملاح للاطلاع على التفاصيل في الحي اليهودي ومنازله من أجل معرفة الوضعية بالضبط التي تقتضي تصرفنا، كان نصف الحي تقريبا قد دمر بعد تعرض منازله للحرق ولم تعد صالحة للسكنى، القناطر والحيطان كانت ما تزال صالحة، بعض المنازل المفروعة ما تزال فاقدة التوازن ولم تسقط بعد، وأخرى بها أضرار أو قريبة من الانهيار، لقد قررنا هدم بعضها حالا طالبين من القوات الفرنسية مساعدتنا وكذلك ضباط الهندسة، أشغال الهدم هذه قرر أن تبدأ انطلاقا من اليوم وألزمنا الملاك باتباع تصاميم معينة في إعادة بناء منازلهم.
اتخذنا اليوم قرارا جديدا مستعجلا يقضي بتنظيف كل شوارع الملاح، واستحضار أدوات لذلك، وتجنيد ستة أفواج من 12 عاملا يهوديا مؤجرين من طرفنا بإشراف الدكتور ويسجربر عضو لجنتنا.
بعد تنظيف الشوارع توبع تنظيف المنازل، طبيبان آخران كلونط من باريز وفارحات من تونس العضوان في لجنتنا، زارا الملاح من أجل معرفة ما إذا لم تكن هناك جثث، وهل هناك تلوث للمياه؟
أثناء تفتيش الآبار تم استخراج حلي وذهب ومجوهرات رماها إخواننا في الدين ليلة الأربعاء عندما اقتحم النهاب منازلهم، هذه الحلي قدمت لي حيث وضعتها في المخزن الذي أقمته في الملاح، وعينت أحد المدرسين معنا كخازن للتموين، من مواد غذائية وملابس اشتريناها لتوزيعها على إخواننا في الدين.
عثرت على رأس المسحوقين المتواجدين في ساحة القصر غارقا في حزن بئيس، فكلفته بتنظيم التجمع الضخم الموجود معه من أجل إنقاد اليهود.
المكلفون بإصلاح الملاح حذروا من العودة له قبل انتهاء عملية الإصلاح، لذلك سيبقى اليهود في ساحة القصر بضعة أيام ينتظرون تلك العودة، وأثناء ذلك سيتواصل توزيع المواد الغذائية وتنظيم المجال الصحي.
ما يزال الجرحى يتعالجون في المستشفى وأنا أزورهم يوميا، كما يتواصل ورود المساعدات من جهات مختلفة، من مسلمين وأوربيين، ومن قنصل إنجلترا الذي لم يفتأ يقدم المساعدات الغذائية لليهود، كما قام بعلاج بعض الجرحى عنده.
سفير فرنسا بدوره لم يفتأ يستقبل الفارين من اليهود، التفاتة هامة جاءت من صفرو، بعد أيام، حيث جُمع 9550 بسيطة وبعث بها إلينا، كل المواطنين المغاربة أبدوا لنا كرمهم مثل الذي فعل سكان صفرو”.
(أنظر “les evenements de fez alliance israelite universelle“؛ ص:5 وما بعدها، وانظر أيضا حول نفس الموضوع كتابنا “رسائل ومسائل للعلامة الحجوي”، حيث توجد به رسالتان تصفان نفس الموضوع مع تعليق للعلامة الحجوي الثعالبي).