المصريون: الداعية محمود شعبان يروى قصصًا مبكية من داخل محبسه
هوية بريس – متابعة
الإثنين 02 نونبر 2015
روى الداعية الإسلامي الدكتور محمود شعبان، أستاذ البلاغة بجامعة الأزهر، وأحد المعتقلين في سجن العقرب، قصصًا مبكية عن أحوال المعتقلين في السجن شديد الحراسة. وقال شعبان في رسالته المسربة التي تنفرد “المصريون” بنشرها، إنه “سبق وأن كتب إلى بقايا ضمير ولم تؤثر في أحد، مشيرًا إلى أن رسالته هذه المرة إلى “بقايا إنسان”.
وجاء نص الرسالة:
“لقد أرسلت رسالة من قبل إلى بقايا ضمير، ولم تؤثر في أحد ولم يتحرك لها أحد فتأكد موت ضمائر كثيرين، لذا فإنني أكتب اليوم إلى بقايا إنسان.
أكتب إلى ما تبقى من إنسان شوهوه خُلقا وخَلقا وثقافة، فافتقد التمييز بين الصواب والخطأ فضلاً عن التمييز بين الحلال والحرام، أكتب إلى مثقفي الأمة وعقلائها ونخبتها أكتب إلى من سماهم الله في كتابه الملأ، أكتب إليهم لا أنتظر منهم شيئًا وإنما ليعلموا من هم وما حقيقتهم، أكتب لتظهر الصورة للكل بلا كذب ولا تزييف ولا تدليس. أكتب موقفًا لهم أمام مرآة الحقيقة ليهلك من هلك من بينة ويحيا من حييا عن بينة.
أكتب عن آلاف من المساجين جلهم من الشباب الرافضة للظلم والعودة لبلاد الفساد والإفساد، فلم يصبح الفساد بلدًا بل صار بلادًا، فلكل فاسد من الفاسدين بلد يديرها بمعرفته لمصلحته هو وأعوانه وزبانيته، أكتب عن آلاف المظلومين المغيبين في السجون لا لشيء إلا لأن الأمن الظالم زج بهم بحثًا عن مجرم ادعوه وادعوا عدم القدرة على الوصول إليه، وخذ لذلك مثلاً مجموعة من الشرقية في قرى متطرفة في مكانها بحيث تجاور مجرى القناة من طريق الإسماعيلية الصحراوي، لقد حدث اعتداء على سفينة من هذه المنطقة، فإذا الأمن يهجم على كل القرى ويأخذ كل ملتحٍ وكل من منتقبة وكل مصل، بل وصل الأمر لصلاة الجمعة، السيارة المصفحة تنتظر الناس في الخروج من الصلاة وتأخذهم للسؤال ثم العودة ولا عودة، وبعدها يرحلون على سجن العازولي فيرون الموت عيانًا بيانًا من تعليق وضرب وتكسير عظام ومفاصل وكهربة في الأعضاء التناسلية، كل هذا وهم يسألون عن غيرهم ممن لا يعرفون، حتى إن أحدهم من شدة التعذيب قال: “أعرف يا باشا” فقال: “أنزلوه”، فلما نزل، قال: “لا أعرف شيئا، ولكنى قلت هذا من شدة التعذيب لأريحك ولأنني رأيت الموت فقلت أتحول عن هذا الاتجاه من الموت”، فرفعوه ثانية وعذبوه ثالثة وقال بأعلى صوت سأقول كل شيء أنزلوني، فلما أنزلوه، قال يا باشا أكتب ما تريد وأنا أوقع عليه.
هذا غيض من فيض فإن أناسا كثيرين في العازولي شهورا طوالاً لا يعرف عنهم أحد شيئًا، منهم من مات من وطأة التعذيب ومنهم المفقود ومنهم من رحل على العقرب ومنهم من ظل في أمن الدولة فترى أخرى. المهم هذه الشهور ليست محسوبة من فترة حبسه، لأنه يحسب له من أول عرض على النيابة.
وعلى قضية قرى الشرقية، قس فالأمثلة كثيرة من هذا الباب الذي جعل الشباب يكفرون بالديمقراطية ورجالها بل ويكفرون بالوطن والثقافة والمثقفين ويعلم أنها حرب وجود، فهم فصيل لا يراد له أن يكون موجودًا، فكأنهم يحاربونه على رد فعل في 25 يناير لما أسقط عرش الظالم الأكبر. تأكد الشباب من ذلك لما رأى الوجوه القديمة تعود بممثليها ونوابها، يكره كل شيء وعزف عن كل شيء، انتخابات وغيرها، لأنه رأى حربًا على دين الله حربًا على الحق حربًا على الخير حربًا لمصلحة الفساد والمفسدين فقط، حربا تأكل الأخضر واليابس وتزيد الكراهية التي أنبتت أشجارًا من البغض تستحيل معها الحياة، فكتب على جيل الموت غيظًا وكمدًا قبل أن يرى الحياة.
الشباب يا سادة إما سجين أو شهيد أو جريح أو مكلوم على قريب أو صديق، لقد تأكد الشباب أنهم ليس لهم إلا الله فتعلقوا به وكفروا بمن سواه. الموت والتأديب لمن رفض الموت صامتًا.
لقد حدثتك من قبل عما حدثوني عنه إخواني المساجين مما رأوه من معاناة، وأنا الآن أحدثك عن نفسى وفيم رأته عيني، أحدثك عن التأديب لمن رفض الموت صامتا. قد تكون في العقد الخامس من عمرك، وقد تكون من أهل القرآن حفظا وتحفيظا وتعليما، وقد تكون أستاذا في الجامعة تعلم وتربى الجيل القادم، لكن ترى إدارة السجن أن أدبك ناقص فتقومك بتأديبك.
وذلك لما مرض أحد الأخوة بعد العشاء، فظللن ننادي على الشاويش، مريض يا شاويش واحد يموت يا شاويش، حالة تسمم يا شاويش، وذلك قد كان في الزنزانة. ثلاث حالات تسمم في زنزانة فيها أثنا عشر رجلا وهي تتسع لثلاثة فقط، ونحن لا ننادي على الشاويش إلا بعد محاولات شتى في علاج المريض، فإن يأسنا وأشرف المريض على الموت نادينا، لأننا نتوقع الإهمال، فلما اشتدت الحالة نادينا وبدأنا طرق الأبواب والإخوة ينادون معنا، وبعد ساعة ونصف رد الشاويش وأمامنا المريض في حالة ترجيع وإسهال، وكلما دخل الحمام عاد منه أسوأ علما بأنه مريض سكر وضغط، حتى أشرف الرجل على الهلاك. وبعد أتى الشاويش ومعه الضابط وممرض ومخبر فقلت له: سنموت هنا وأنتم نائمون هل تريدون موتنا؟ بعد ساعة ونصف تأتون لنا تريدون أن نموت ثم تأتون لاستلام الجثة فقط. وتذكرت ما حدث لي لما أصبت بالجلطة في النيابة فأمرت النيابة بحبسي لا بتحويلي إلى قصر العيني، فإذا بالعقيد “محمد غانم” يقول: “هذا كلب هذا إرهابي على العقرب بسرعة مستشفى أيه!”. ونحن في طريقنا للعقرب الضابط “طه ونس” يقول لسائق: “ارميه في وسط الطريق وأنت على سرعة 180 وقل إنه أراد الهرب”، تذكرت هذا كله وتذكرت الشيخ عزت السلامونى رحمه الله لما مرض وتركوه حتى مات، وتذكرت الدكتور عصام دربالة لما عُرض على القاضى وهو مريض جدا فقال “أنت زي الفل”، وبعد ساعات لقي حتفه من جراء الإهمال، وتذكرت ما تعودنا عليه من أن نسمع دكتور يا شاويش ثم نسمع في اليوم التالي “البقاء لله”، مات بالأمس فلان. لدرجة أنه مات ثمانية وثلاثون سجينا في شهر يوليو الماضي.
تعصبت لما ذكرت ذلك كله وقلت: لن نموت صامتين وغضب الضابط لأننا أيقظناه من نومه وكان المطلوب منا أن نموت صامتين دون أي إزعاج للقائمين على السجون. قال لي: لا تعلي صوتك، والحق أن صوتي مملوء بالعصبية مما أرى، فقلت المظلوم صوته عال، لنطقه حقه والظالم أخرسه باطله، قال لي أسكت وإلا وضعتك في التأديب، فقلت: افعل ما بدالك لا نخاف إلا الله، وفى اليوم التالي أخذوني للمأمور ولرئيس المباحث وسألوني عما حدث، فقلت ما حدث بالضبط وكان الرجل لا يزال مريضا لليوم الثاني على التوالي بعدما أعطوه إسعافات أولية ثم تركوه، وذكرت ذلك للمأمور الذي أشعر فيه بشيء من الاحترام، ثم بهم يرحلون بي إلى الطبيب فيسألني هل أنت مريض؟ فقلت لست مريضا. إنما المريض في الزنزانة في الدور الثاني. فإذا بهم يكتفون علي لأنهم يعلمون أن التأديب يدخله المريض فيموت ويدخله السليم فيمرض؛ فقلت لهم: لست مريضا ورحلت للتأديب، وقلت للضابط: لن أسكت وسأشكو الدنيا بأسرها، ثم دخلت الزنزانة التأديبية 150 سم في 250 سم، بلا ضوء ولا حمام مليئة بالنجاسات والحشرات يمين الباب ويساره وفيها جردل التبول، والعجيب أن الحشرات التي كانت تملأ الزنزانة تقيم اعتبارا للقاء الله فإذا دخلت في الصلاة هاجمت كل شيء إلا الفراش أدبا مع الله الذى وقفت بين يديه. وفى خلوتي في الزنزانة تذكرت قولي للضابط: لن أسكت وسأشكو وظللت أضحك وأقول: ماذا دهاك يا بن شعبان، لمن تشكو!؟ الولد لأبيه، أم تشكو الظالم لمن يدير دولة الظلم، وقلت ساعتها لن أشكو إلا الله، ومضى نهار ومضى ليل ونهار ولا حمام إلا بعد ثمان وأربعين ساعة والطعام رغيف خبز وقطعة جبن كل 24 ساعة، وأنت لا تستطيع أن تأكل لأنه لا حمام وكنت صائما الأيام القمرية وبلا سحور لأننى كنت أعانى من المغص والإسهال قبلها بيوم وظللت يومين بلا طعام، وبعد ثمان وأربعين ساعة خرجت من العنبر بعد أن أدبوني لأنني رفضت الموت صامتا، المهم أنهم كتبوا في تذكرتي أنني هيجت العنبر واعتديت على الشرطة بألفاظ لا تليق، ثم أشاعوا أنني فعلت مثل ذلك مع المأمور ورئيس المباحث وأمن الدولة وكل ذلك لم يحدث، وإلى الله المشتكى.
اعلم أنني لا أشكو لك واعلم أنه بيديك شيء وتخاف من كل شيء، وأضعكم على الحقيقة وأنزع عنكم ورقة التوت التي تغطون بها ثوراتكم الشرعية والوطنية والإنسانية أفقكم أمام مرآة الحقيقة بلا تجمل ولا كذب ولا غش. تلك قصة عارضة لأستاذ في الجامعة أهديها للأديب الألمعي صاحب “الهوامش الحرة في جريدة الأهرام”، الذي كتب في عموده عن “حملة الماجستير” الذين كافحوا من أجل الحصول على هذه الدرجة العلمية العالية ولم يجدوا تقديرا من الدولة، أقول له إن أساتذة ومخترعين وعلماء يملأون السجون ومعاملتهم في السجون كما سبق في هذه الرسالة، وأقول له ألا تسمع في الدكتور بهجت الأناضولي كيميائي العرب الأستاذ المتفرد في تخصصه في جامعة القاهرة هو الآن في سجن العقرب يلقى أسوأ معاملة ومن عجيب أنه حصل على جائزة عالمية وهو في السجن. فهذا تقدير العالم بأسره له، وهذا تقدير مصر له وكل تهمته أنه أقام مستشفى خيريا فيها كل الأجهزة التي توجد في كبرى مستشفيات الحكومة وكل هذه الخدمة للفقير المصري فقط وبلا مقابل، اتهم فقط بالانضمام لجماعة فكان مصيره الحبس.
أما سمعت عن الدكتور سيد أبو سريع، رئيس قسم الكيمياء في جامعة كاليفورنيا وهو في سجن العقرب أيضا بتهمة الانضمام لجماعة انضم اليها في زيارة لمصر بعد أربعين عاما في أمريكا.
تلك رسالة الأديب الألمعي الذي قرأت له مؤخرا في الحديث عن القدس “لن أسلم رايتي”، حتى انتويت أن أشرحها في بحث بلاغي بالصورة البيانية فيها وأقول له: أين أنت من القدس الآن، أعلم البشر كل البشر لا ينشئون قدرا إنما يكشفون قدرا ويفعلون ظلما وعذرا ليحملوا أمام الله ثقلا ونحن لا نخرج إلا بأمر العزيز الحميد الذي إذا أراد سخر العبيد وكلنا له عبيد ولن نبيع ديننا يوما ما ولن يكسرنا الظالمون يوما وسنظل ثابتين على الحق مثبتين للخلق لا نخشى إلا الله ما دبت فينا حياة وأهلونا استودعناهم الله أما أنتم نذكركم الله.