ممنوع على السجناء
مصطفى الحسناوي (من وراء قضبان الزنزانة)
هوية بريس – السبت 26 أكتوبر 2013م
إلى الكاتبة الصحفية بشرى الردادي:
أذكر لما أغضبك تعليقي على موضوع لك في زاوية “ممنوع على الرجال” في الصفحة الأخيرة لجريدة الأخبار، اختلفت معك فكنا دائما نختلف، لم نتفق إلا على شيء واحد وهو أني بارع في إغضابك ومشاكستك.
لقد اعتقدت خلال نقاشنا أن موضوعك لم يعجبني، والحقيقة أني استمتعت بصياغتك وروعة حبكك وسبكك للموضوع، بل كنت أسارع لقراءة كل ما تخطينه من بديع العبارات وعذوبة الكلمات وسلاسة الحكي والتصوير وجمالية التركيب في خواطرك، سواء المباحة للرجال أو تلك الممنوعة عليهم؛ بل كنت أعجب أكثر بتلك الممنوعة، أليس يقال: كل ممنوع مرغوب؟
لكنني كنت أفعل ذلك خلسة، أقرأها خلسة، وأكتفي بالتعليق عليها في نفسي، لم أحس بالمنع إلا وأنا في سجني.
وذات يوم بينما أنا في زنزانتي إذا بي أرمق صفحة قديمة من جريدة، أزلت عنها الغبار فإذا بها الصفحة الأخيرة في جريدة الأخبار، وإذا به موضوعك الذي تجادلنا بشأنه فتوارد على بالي سيل من المشاعر والخواطر.
لا أخفيك سرا إن قلت لك أن عنوان الزاوية: “ممنوع على الرجال”، لم أشعر بمعناه الحقيقي إلا هنا داخل السجن، فهو ممنوع منعا حقيقيا وليس مجازيا، على رجال حقيقين أيضا وليس على أشباههم.
وأنا أعيد قراءة عمودك الممنوع على أمثالي، كنت كمن ظفر بكنز ثمين، أحسست بالحاجة الشديدة لقراءة كل ما تكتبين من خواطر وأشعار، كما أحسست بالحاجة لأشياء كثيرة منعت وحرمت منها حتى أصبحت شبيها بالإنسان؛ فلقد بثرت أصابعي وقطع لساني ولم يعد لي الاستطاعة في التعبير ولا البوح ولا الكتابة، وسملت عيناي، وجدع أنفي، وجردت من كل حواسي، وأصبحت مجرد كومة لحم، فلا أرى إلا كما يرى الحسير أو الضرير، وأضعت رائحة الحرية ومذاقها وملمسها، واختلطت علي مع روائح طعام السجن المسموح به.
إذ أنا ممنوع من لائحة من الأطعمة ومجموعة من الحاجيات والضروريات، وممنوع من التواصل إلا مع من يسمحون لي بالتواصل معه، لذلك لن تزعجك تعليقاتي وانتقاداتي من جديد، ولا رسائلي القصيرة حتى إن كانت مجرد تهنئة بمناسبة عيد أو زواج أو نجاح أو مقال جديد.
فقد حيل بيني وبين عالمي الافتراضي والوسائط الالكترونية، فنسيت شكل هاتفي وملمسه، وواجهة حائطي الفايسبوكي، وغلاف مدونتي، ومفتاح علبة رسائلي، بل حتى بعض عناوين كتبي حيل بيني وبينها، فلا أقرأ إلا ما يشتهون.
المضحك أنهم يقصون مقالات وأعمدة وأخبارا من الجرائد فيدخلونها مبتورة مشوهة، فلا يسمحون إلا بمرور ما لا يشكل خطرا وما لا يزرع فتنة وقلاقل تهدد أمن الوطن؛ أدام الله علينا هذه الرقابة.
لائحة الممنوعات والمحجوزات طويلة جدا وغريبة جدا وغبية جدا و متناقضة جدا، لا يتسع المجال لسردها؛ لكن يمكنك أن تتخيلي إنسانا مخبولا كلفناه بمهمة مراقبة الأغراض التي تجلبها عائلات المعتقلين إلى أبنائها، فهو يسمح بإدخال بعضها ويمتنع عن إدخال البعض الآخر بدون أي معيار أو ضابط، ولربما منع شيئا عن هذا السجين وسمح به لآخر؛ الأمر لا يخضع لأي قواعد ولا لمراعاة حاجيات وخصوصيات المعتقلين.
بعض أنواع الأغطية ممنوعة؛ الوسادة ممنوعة؛ بعض أنواع الفواكه ممنوعة؛ اللبن ممنوع؛ الخضر لا يسمح بإدخال إلا البصل والطماطم والثوم والفلفل؛ والكؤوس والأواني الزجاجية ممنوعة؛ مع العلم أن قوارير الدواء الزجاجية موجودة بكثرة؛ بل تسلمنا إياها الإدارة؛ بعض أنواع أو أحجام الأواني ممنوعة.
طلبت ذات مرة من مدير السجن أن يسمح لي بكتابة مقالاتي ونشرها لكنه رفض؛ أحسست به يتكلم بالنيابة عن كل مسؤولي هذا البلد، الذين يتمنون أن لو كنا مجردين من كل إحساس وشعور وأمل وطموح، مجردين من قلوبنا وعقولنا، نكتفي بالكلأ والماء، نساق إلى المرعى كالمواشي كل صباح ثم نعاد إلى الحظيرة في المساء لنجتر ثم ننام.
ذكرني ردّ المدير بعنوان مقالك: “واكلة شاربة” وضحكت ملء في؛ ضحكة كانت خليطا من مشاعر الألم والاحتقار والازدراء والإشفاق والتمرد على كل أنواع القمع والمنع.
المنع هنا مزاجي واللائحة طويلة كما أسلفت والخبز هو الشيء المتواجد هنا بكثرة، وأيضا كاميرات المراقبة والحراس والأبواب الموصدة؛ كأن الخبز وحده هو ما يعيش به الإنسان، ثم عليه أن يتأقلم مع كل أنواع الوصاية والرقابة والمنع والأوامر والتسلط.
أعلم أن الأمر عندكم في الخارج لا يختلف كثيرا، وأنكم تعيشون في سجن كبير بلائحة ممنوعات ومحظورات أيضا، لكن أتدرين أن الفرق هو أنكم في سراح مؤقت، وأنكم تستمتعون بما هو ممنوع على السجناء لكن مؤقتا فقط، لأن هذا الوطن سجن كبير وأبناء وطني كلهم سجناء.
أعاذك الله من كل سوء وشر ومن محنة السجن والأسر ورزقك الله نعمة الصبر.
إذا لم يكن بد من الصبر فاصطبر *** على الحق ذاك الصبر تحمد عقباه