سلسلة «يا بُني» (ح3)
ربيع السملالي
هوية بريس – الخميس 05 نونبر 2015
1/ يا بُنيّ:
إذا أردتَ أن تعرفَ قيمَةَ الحرية التي ترفل في أحضانها بثوب الصّحة والعافية فاقرأ ما كتبه بعضُ السّجناء المسلمين وغير المسلمين.. وطالع تلك الرّوايات التي استوحاها أصحابها من آلام القيود والسّدود وغياهب السّجون.. ففي هذه الكتب زفرات وتأوهات وذكريات قاتمة وآلام سُطّرت حبرًا.. تجد الكاتبَ يحكي معاناته والحسرات ملء حناياه على ما ضاع من عمره الثّمين.. في ظلّ أعذِبةٍ نفسية وجسدية قاهرة..
منهم من كان يتمنّى أن يرى الشّمسَ توزّع أشعّتها الذّهبيةَ على الكون والحياة.. ومنهم من يرجو أن يرى وجه أمّه وأبيه وصاحبته وبنيه وإخوانه وأصدقائه وربما كان قبل السّجن لا يقيم وزنًا لكلّ هذه الوجوه
..ومنهم من تلحّ عليه نفسه وتحدّثه بالهرب لكي ينعم بهواء نقيّ يتسرّب إلى خياشيمه خارج أسوار هذه القضبان التي زادته رهقًا وضعفا… ولكن كثير من الأحرار في غفلة من كلّ هذا يرون الأشجار والبحار والأنهار والشّمس والقمر وسعادة العصافير ولا يؤثّر شيء من هذا في أنفسهم الشّاردة غير العابئة بنعمة الحرية وجمال الطّبيعة ..ومن لطيف ما يُذكر ما نظمه بعض الشعراء المسجونين:
خرجنا من الدّنيا ونحن من أهلها… فلسنا من الأمواتِ فيها ولا الأحياء إذا دخلَ السّجانُ يومًا لحاجة… عجبنا وقلنا أجاءَ هذا من الدّنيا!
فاحرص ما وسعك الحرصُ يا ولدي على مطالعة وقراءة بعض هذه الكتب وقِف عندها متأمّلا لتعرف نِعَم الله الكثيرة التي تحوطنا ونحن عنها غافلون.. وعلى رأسها نعمة الحرية!
ودونَك بعض العناوين التي أستحضرها الآن:
– عالم السّدود والقيود/ عباس محمود العقاد
– سبعة أبواب / عبد الكريم غلاّب
– تزممارت: الزنزانة رقم 10 / أحمد المرزوقي
– ليل وقضبان / نجيب الكيلاني
– حدائق الملك / فاطمة أوفقير
– جْوانتنامو / يوسف زيدان
– ذكريات معتقل من جوانتنامو / حسين عبد القادر
– القوقعة / مصطفى خليفة
– يسمعون حسيسها / أيمن العتوم
– يا صاحبي السّجن / أيمن العتوم
– شرف / صنع الله إبراهيم
– عندما غابت الشّمس / عبد الحليم خفاجي
– تلك العَتَمة الباهرة / الطاهر بن جلون
– أيام من حياتي / زينب الغزالي
– خمس دقائق وحسب.. تسع سنوات في سجون سورية / هبة الدباغ.
تختم هبة الدّباغ مأساتها بهذه الكلمات: لا أتخيل نفسي بعد تسع سنوات من السجن والعذاب والأمراض الجسدية والنفسية، تأتي لحظة الحرية، فأشعر بالضياع لا أدري أين أذهب، فأهلي جميعهم قتلوا إلا ثلاثة من إخوتي هاربين من جحيم الوطن، وعائلة نصفها يعملون لصالح مخابرات النظام! إنه الألم في أقسى صوره!
2/ يا بُنيّ:
عندما تعثرُ على فائدةٍ في بطن كتاب من الكتب، أو مجلّةٍ من المجلات الأدبية والفكرية والعلمية، ولا يوجد قربك قلم ودَفتر فإيّاك أن تجعلها تمرّ دون تسجيل، فقد لا تجدها في غير ذاك الموضع، لذلك ينبغي اهتبال فرصة التّسجيل، أو التّصوير بهاتفك الذّكي، فإن لم يكن لك لا هاتف ولا قلم فأوقف القراءة أو اجعل علامة بارزة على الصّفحة التي توجد فيها الفائدة للرّجوع إليها في أقرب فرصة.
واعلم بارك الله فيك أنّ آفة العلوم الكسل والتّسويف والنّسيان.. ورحم الله سلفنا الصّالح فقد كانوا من أشدّ النّاس حِرصًا على طلب العلم وكتابته وتسجيل ما يعرض لهم في حلقات العلم من فوائد ودُرر… واسمع ما قاله الإمام الشّعبي وما أدراك ما الإمام الشّعبي، وهو يوصي أحد طلاّبه: إذا سمعتَ شيئًا فاكتبه ولو في الحائط!..
والأمثلة على هذا كثيرة راجعها في كتاب (جامع بيان العلم وفضله) لحافظ المغرب ابن عبد البرّ الأندلسي!
3/ يا بُنيّ:
عليك بكتب الشّيخ الدّكتور فريد الأنصاري المغربي، احرص على اقتنائها كلّها، واقرأها قراءة المتدبّر المتأمّل، فإنّ هذا الرّجل العظيم قد فتح الله عليه فتوحَ العارفين، وجمع له بين العلم الشّرعي والأدب واللّغة كحال علمائنا الأقدمين الذين كانوا لا يعرفون شيئًا اسمه التّخصّص!.. ذا تكلّم رحمه الله في الفقه وأصوله تقول لا يحسن إلاّ هذا، وإذا تكلّم في التّفسير فهو إمام فيه، أمّا الاستنباطات الحديثية، واستخراج الفوائد اللّغوية والعلمية فله اليد الطّولى في ذلك.. ع الاطّلاع الواسع على أمّهات الكتب..
وله مواعظ وكلمات روحانية تسافر بك نحو الخلود.. اختصار حين تعكف على كتب هذه العظيم ستحبّ القرآن الكريم حبّا جمّا وستفهم المغزى من وجودك فهمًا جيّدا!.. قد حاول رحمه الله أن يشارك أهل العصر من الأدباء الرّوائيين الإسلاميين كالطّبيب نجيب الكيلاني وعلي باكثير فجاء بالعجب العجاب في رواياته الثلاث (عودة الفرسان) و(وآخر الفرسان) و(كشف المحجوب)!
كلّ هذا ولم يتجاوز الخمسين من عمره، عاش تسعًا وأربعين سنة لكنّه أخرج للأمّة علما ستنتفع به إلى يوم القيامة، وما ذلك إلاّ لإخلاصه وحسن نيته في نشر العلم كما نحسبه ولا نزكّيه على الله… ما شهدنا إلاّ بما علمنا!
له كتاب صغير الحجم عنوانه (مفهوم العالِمية) فليكن أوّلَ ما تطالعه.. فيه التّأصيل العلمي لمن يستحق كلمة (عالِم)، هذه الكلمة التي أصبح يتمسّح بها كلّ من ارتدى جبّةً وقميصًا.. و حفظ شيئا من المتون، أو جمع ركامًا من الكتب!.. لعلّ هذا الكتاب يكون انطلاقتك ووجهتك وبوصلتك لتكون من أهل العلم والفضل، وما ذلك على الله بعزيز يا ولدي!
4/ يا بُنيّ:
قبلَ أن تنتقدَ كتابًا من الكتب ينبغي أن تكونَ ذا ثقافة تخوّلك من التّمييز بين الغثّ والسّمين، ثم يجب ألا يكون صاحبُ الكتاب عدوّا من أعدائك لكي لا يغلبك الهوى على نفسك، فيدفعك للظّلم والإجحاف في.. وقد قال ابنُ تيمية: لا تُقبل شهادة العدوّ على عدوّه ولو كانَ عدلا… وإيّاك والتّقليد الأعمى فيما تُصدِر من أحكام، فالمقلّدُ كما يقول أبو فِهْر: لا يُفلح أبدًا!.. اجعل نُصبَ عينيك ما قاله شيخ الإسلام ولا تحيد عنه قِيد شَعْرة: الكلام في النّاس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهل وظلم كحال أهل البدع!
وكذلك قول الإمام البُلقيني: الانتهاضُ لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض!
5/ يا بُنيّ:
اجعلْ لك وِرْدًا من القراءة في كتب اللّغة وشرح مفرداتها ومعانيها، ولو نصفَ ساعةٍ في اليوم تداومُ عليها ما وسعتك المداومة.. وإنّي محدّثك عن تجربة ودُربة.. فقد وجدت لهذه الطّريقة فوائدَ جمّةً ونتائجَ حمدتها ورضيتُ عنها، ومازلتُ أمارسُ هذه الطّريقة ولن أتخلّى عنها بإذن الله ما حييتُ! ..فابدأ بمختار الصِّحاح للرّازي حتى إذا آنستَ من نفسك فهمًا وإدراكًا فانتقل إلى غيره من المطوّلات كالقاموس المحيط وشرحه تاج العروس، أو لسان العرب لابن منظور في طبعة دار صادر أو المعارف.. وسأشرح لك الطّريقة في أكتوبة أخرى لكي لا أطيل عليك!
6/ يا بُنيّ:
لا تجعل الرِّواياتِ أكبرَ همّك ولا مبلغَ علمك ..واعلم أنّها لا تسمن ولا تغني من جوع، لاسيما روايات الذين لا دين يردعهم، ولا حياء يزجرهم، ولا مبادئ تدفعهم للرّقيّ بالأمة وإخراجها من ظلمات الجهل إلى نور العلم ..وفرَّ من روايات أحلام مستغانمي وواسيني الأعرج فرارَك من التّماسيح، فإنّي لا أعلم في وقتنا الحاضر من هو أشدّ فسقًا وفجورًا وإباحية من هذا الوقح، وهذه الأفعى التي تبثّ السّمّ في العسل لإفساد المراهقين عموما والمراهقات خصوصًا!
7/ يا بُنيّ:
من آفاتِ الكِبر عدمُ قَبول الحقّ، وردّه على قائله بأدلّة أوهى من بيت العنكبوت، انتصارًا للنّفس أو تعصّبًا…، فإذا رأيتَ الرّجل يترك بحرَ المعرفة رهوًا ويلوذُ بالسّواقي فاعلم أنّه دعيّ في المعرفة يدّعيها ولو لطّخ وجهه بالمِداد، وإذا وجدتَ امرأة ذاتَ ألقاب وأسماء ولكنّها لا تقيم وزنًا ولا أدنى اهتمام لمخالفيها ولا لأدلتهم الواضحة وضوحَ الشّمس في رابعة النّهار فاعلم أنّها: (ألقاب مملكة في غير موضعها كالهرّ يحكي انتفاخًا صولةَ الأسد).. وهذا هو الاستكبار الذي عرّفه صاحبُ اللّسان بقوله: الامتناع عن قَبُول الحقّ معانَدةً وتكبّرًا.
ومن كان هذا حاله فلا تشغل نفسَك بسفاسفه، ولا تضيّع وقتك الثّمين في الرّد على باطله، واحذر أن يتحوّل مكان النّقاش إلى حلبة ملاكمة، فكثيرا ما يخرج الإنسان الفاقد للبراهين عن اتّزانه، فينتقل من الموضوع إلى شخصنة الموضوع وتبدأ الاتّهامات، والسّباب والشّتائم وما إلى ذلك من الأخلاق السّافرة التي لا تليق إلا بأبناء الشّوارع، ومحطّات الحافلات.. فانصرف بكرامتك موفورَ العِرض، مشكورَ الجانب ولك الأجر إن شاء الله…
وهناك فريق آخر لا يقبلُ الحقّ إلاّ إذا جاءَه ممّن يحبّه ويقدّره ويقدّسه، وأمّا غيره فلا وإن كان معه الحقّ واضحًا لا يحتاج إلى تأويل، لذلك قال ابنُ القيّم في مثل هذا الموضع: فما وجدتَ في هذا الكتاب من صواب وحقّ فاقبله، ولا تلتفِتْ إلى قائله. بل انظر إلى ما قال لا إلى من قالَ.
وقد ذمّ الله تعالى من يردّ الحقّ إذا جاءَ به من يُبغضه. ويقبله إذا قاله منْ يحبّه. فهذا خلُق الأمّة الغضبية. قال بعض الصّحابة: اقبل الحقّ ممن قاله، وإن كان بغيضا، وردّ الباطل على من قاله، وإن كان حبيبا. اهـ
قلت: الحقّ لا يُعرفُ بالرّجال ولكن اعرف الحقّ تعرف أهله. كما يُروى عن عليّ بن أبي طالب. والله الموفّق.
8/ يا بُنيّ:
كن مؤمنا صادقًا مع إخوانك المسلمين، ولا تبخل على فقيرهم إن فتح الله عليك وكنتَ من ذوي اليَسار، تفقّد أحوالهم، واقضِ حوائجهم، ونفّس عن كرباتهم، وأنفق عليهم من مالك الذي منّ الله عليك به دونَهم، وكن سخيّا كريمًا مِعْطاء، تُطعِم الطّعام الشّهيّ وتملأ بطون أطفال زادهم الجوع رهَقًا، ولا تنتظر من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا ولا ثناء في المحافل والمجالس، ولا تتبع هذا الإطعام وهذا الإنفاق بالمَنّ والأذى والافتخار بكونك أطعمتَ فلانًا وعِلاّنا، وأعنتَ زيدًا، وتصدّقتَ على عَمْرٍ فإنّ هذه الأخلاق أخلاق السّفهاء لا تصدر إلاّ عن لئيم ليس في قلبه إلاّ إيمانٌ ضعيفٌ كإيمان أصحاب الكبائر والموبقات…
وأعيذك بالله يا ولدي أن تكون من قوم يدّعون التّدين والالتزام، يسارعون إلى أسهل السّنن والمُستحبات التي لا عناء فيها ولا عطاء، لكن في الإنفاق تجدهم كبخلاء الجاحظ أو أكثر.. ولعلّ من المفيد أن أذكّرك بما قُلته قديمًا في كتابي (الأفكار؛ ص:13).
ليست الأخوةُ في الله هي أن تلتقيني بباب المسجد فتضمّني إليك بحرارة وعنف حتى تكاد تختلف أضلاعي، وحتّى يُخيّلَ للنّاظر إلينا أنّ محبتنا بلغت في مداها محبة سعد بن الرّبيع وعبد الرحمن بن عوف! وإنّما الأخوة هي أن تتفقّدني إذا غِبتُ، وتغنيني عن السّؤال إذا افتقرتُ، وتردّ عن عرضي إذا طُعنت… وبعدها لا تهتم للشّكليات فيكفيك أن تصافحني بيد بيضاءَ خاليةٍ من الرّياء… ودع العِناقَ لأهل النّفاق!