بعد ويلات الحربين العالميتين دفع الجحيم الذي عاشه العالم الدول الكبرى إلى إنشاء منظمة الأمم المتحد سنة 1945م سعيا لتجنب مزيد من الصراعات بين الدول العظمى خصوصا مع بدء انتشار الأسلحة النووية.
بعدها بسنة عينت الأمم المتحدة لجنة من الخبراء (فلاسفة، مفكرين، محامين…) لإعداد أرضية تحدد الحقوق الأساسية للإنسان بشكل متوافق عليه ، كان من السهل نظريا التوافق على مجموعة من الحقوق العامة بين جميع الدول على اختلاف مرجعياتها وثقافاتها، لكن الإشكال أساسا كان في تفاصيل هذه القوانين والتي كان اختلاف الدول حولها كبيرا.
لكن الجانب الأكثر صعوبة في عمل اللجنة هو الجانب الفلسفي الذي يمكن أن تبنى عليه هذه القوانين، خصوصا مع اختلاف الشعوب وثقافاتها.
1)-هل تقوم القيم الكونية على أسس عقلانية أم على إيمان عقدي ؟
”نعم ، نتفق على الحقوق ، لكن بشرط أن لا يسألنا أحد لماذا”
هذه هي العبارة التي علق بها الفيلسوف الفرنسي ”جاك ماريتين[i] ”Jacques Maritain أحد أعضاء هذه اللجنة الأممية، وهي عبارة تختصر عمق الاشكال الفلسفي الذي يعطي هذه الحقوق قوتها وسلطتها، ومع ذلك فإنه كان واضحا أن صياغة حقوق الإنسان اعتمدت بشكل كبير على فلسفة ”الحقوق الطبيعية” في محاولة لإثبات وجود سلطة للحقوق بشكل مستقل عن مجرد ”الإيمان”.
عبارة ماريتين السابقة ترجمت جوهر عمل اللجنة : أي الاتفاق على الحقوق وبعد ذلك يمكن لكل واحد أن يحدد لنفسه الاسس الايديولوجية والدينية لها.
فمع بدء عمل اللجنة بدا الصراع واضحا بين المعسكرين الشرقي والغربي، الفرد أم الجماعة؟ يرى مندوب يوغوزلافيا وممثل السوفييت أن المبدأ الاجتماعي يأتي أولاً، بينما يرى الطرف الآخر أن الفرد أولى من أي جماعة ! لتتسلسل السجالات الفكرية بدءا من الخلاف في تعريف ”الإنسان”.
بعد الاختلاف في وضع أسس عقلانية متماسكة لهذه الحقو ق تم اللجوء إلى ”الإيمان الجماعي”، أي القدر المشترك الذي تؤمن به أغلب الدول، ولم يكن من الصدفة أن يوضع لفظ ”الإيمان- faith” في الإعلان العالمي: (ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أكدت في الميثاق من جديد إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية)، مما جعل الإعلان في نظر البعض يكتسي طابعا دينيا رغم حرص المشاركين فيه على اجتناب كل ما هو ميتافيزيقي !
هذا الوصف للإعلان يتوافق مع تعريف عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم للدين : (نظام موحد للممارسات والمعتقدات المتعلقة بأشياء مقدسة وتتحد في أخلاقية واحدة ويلتزم بها المجتمع)[ii]
في احتفاله بفوزه بجائزة نوبل قال الكاتب والفيلسوف[iii] إيلي فيزل Elie Wiesel أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو النص المقدس للدين العلماني في جميع أنحاء العالم.
هذا التشبيه للاعلان العالمي لحقو ق الإنسان بالأديان خصوصا من طرف بعض الفلاسفة المسيحيين جعل العلمانيين المتحمسين له يمتعضون من هذا الوصف ، يقول الكندي مشيل إغناتيف[iv] Michael Ignatieff : ”يجب التوقف عن وصف الاعلان العالمي لحقوق الانسان بأنه دين لأن هذا قد يقلل من قيمته ويحُد من عالميته”، لكنه في نفس الوقت يقر بأن حقوق الإنسان تحتاج إلى نوع من الإيمان.
هذا الخلاف الفلسفي لم يكن ليحسم إلا بالتحاكم لمفهوم الغلبة والنفوذ ، يقول ميشيل فريمان[v] بأنه ”لا يوجد سبب حاسم في تفضيل التفسير العلماني لحقوق الإنسان على التفسير الديني ”[vi]
2)-موازين القوى وغلبة اللادينية:
بإطلالة سريعة على بنود الاعلان العالمي لحقوق الإنسان يبدو جليا الحرص على استعمال الألفاظ العامة في كثير من البنود مع تجنب الخوض في التفاصيل.
إعداد مسودة الاعلان كان متأثرا ببيان حقوق الإنسان الأساسية” الذي تم إنتاجه في عام 1944 من قبل معهد القانون الأمريكي، مما ترك أثر على الوثيقة النهائية فجاءت الحقوق المتعارف عليها في التقاليد الأنجلوأمريكية والفرنسية في أعلى القائمة كحرية الدين وحرية التعبير والتجمع والملكية، ثم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من دساتير الاتحاد السوفييتي وبعض دول أمريكا اللاتينية كالحق في العمل والتعليم …
كان تنقيح المسودة خاضعا لموازين القو ى كما هو الأمر في كل الاتفاقات الدولية، حيث اعترض السوفييت على بعض الحقوق التي يرونها تهدد سيادة الدولة كحرية التنقل ، كما اعترض الأمريكيون والسوفييت على إنشاء آلية تنفيدية للإعلان باعتبار ذلك يمثل حكومة عالمية تسمو على السيادة الوطنية.
واعترض المندوب الفرنسي على وضع اسم ”الله” في الوثيقة لأنه يتنافى مع عالميتها، خلافا لممثل البرازيل الذي أراد إدراج عبارة تشير إلى تكريم الله للإنسان …
ممثل الصين أصرَّ على عدم ذكر “الطبيعة” أو ”الله” في نص الإعلان.
واعترضت المملكة المتحدة على بنود تشمل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية كتأمين البطالة والشيخوخة، وزيادة بند لتتأقلم هذه الحقوق مع الوضعية الاقتصادية لكل دولة.
واعترضت جنوب إفريقيا (نظام الميز العنصري) على المادة التي تنص على أنه يحق لكل إنسان التمتع بالحريات الواردة في الإعلان دون تمييز بسبب عرقي !
واعترضت السعودية على القوانين التي تسمح بتغيير الدين أو المتعلقة بالزواج …
شدَّد السوفييت على ضرورة النص على قانون يحمي من البطالة ويضمن المساواة في الأجور، وهذا ما اعترض عليه الأمريكيون وباقي الليبراليين بشدة…
وهكذا في النهاية خرج الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يحمل صبغات ثقافات مختلفة حسب توافق تحدده قوة النفوذ عبر العالم .
هذا النفوذ الذي بدا في واضحا انتصار اللادينية ممثلة في المعسكرين الشرقي والغربي ليخرج الإعلان بموافقة 48 صوتا مقابل امتناع ثمانية (جنوب افريقا والسعودية وباقي دول الكتلة السوفييتية)، وجاء الإعلان موزعا بين الحقوق السياسية والمدنية من المعسكر الأمريكي والحقوق الاجتماعية والاقتصادية من المعسكر السوفيي، مع إبقاء كثير من البنود غامضة وقابلة للتأويل : هل يتعارض الحق في الحياة مع عقوبة الاعدام أو الاجهاض أو الانتحار ؟ هل يتعارض الحق في التنقل مع الحقوق الاقتصادية للدول ؟ما هي حدود حرية التعبير ؟ والحقوق السياسية ؟
ورغم إقرار هذه الوثيقة -غير الملزمة- فإن كثيرا من الدول المشاركة فيها لم تعتمد قوانين بخصوصها إلا وفق تفاهمات سياسية داخلية خاصة بها، بل إن الأمريكيين لم تصادق على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إلا سنة 1992 !
3)-التوظيف الامبريالي :
كان واضحا منذ البداية أن السياق التاريخي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان موجها بالأساس ضد الأنظمة الفاشية، وأن الرغبة في إعلان عالمي يحفظ حقو ق الإنسان كان مسكونا بالرغبة في توسيع النفوذ عقب الحرب العالمية، وتم بذلك التخلص من كثير من الأنظمة في أروبا الشرقية وجنوب إفريقيا
ومع سقوط المعسكر الشرقي ممثلا في الاتحاد السوفييتي ازداد زحف المد الأمريكي ليشمل مزيدا من المناطق، شكلت حقوق الإنسان وسيلة ضغط وابتزاز لدول العالم الثالث، ووسيلة لتقييد اقتصاداتها وجعلها رهينة للتوجهات الاقتصادية العالمية.
بل شكلت حقوق الإنسان ذريعة لعزل كثير من الدول ، والتمهيد لاحتلالها عسكريا كما حدث في حرب العراق التي تم فيها غزو العراق باسم نشر الحرية والديموقراطية وأدت إلى ملايين القتلى والجرعى إضافة إلى تدمير كامل البلد. (مركز يقين)