الدكتور بولوز: تعريض نور الدين عيوش بالكتاتيب القرآنية لم يأت عبثا؛ وعصيد..
حاوره: نبيل غزال
هوية بريس – الأربعاء 06 نونبر 2013م
“بولوز[1]“: تعريض “عيوش” بالكتاتيب القرآنية لم يأت عبثا
و”عصيد” لم يطلع على مقررات التربية الإسلامية في برامجنا التعليمية
1- تقدم نور الدين عيوش، رئيس جمعية زاكورة للقروض الصغرى والتربية، إلى الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للتعليم، عمر عزيمان، بوثيقة[2] تتضمن توصيات تدعو إلى اعتماد اللغة الدارجة بدل العربية الفصحى بالمنظومة التعليمية، واعتبر عيوش أن اللغة الأم الأساسية في المغرب “هي الدارجة، وأكثر من 90 في المائة من المغاربة يتحدثونها”، وشدد على أن “نجعل هذه اللغة الأم أساسا في المراحل الأولى لتعليم أطفالنا.” فما تقييمكم لهذه الوثيقة ولهذا المطلب؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
تستهدفُ دعوات اعتماد العامية واللسان الدارج والتي يطلقها عيوش ومن على شاكلته من المتغربين والفرنكفونيين قطعَ لسان المغرب الأصيل، والكيد للغته التاريخية والحضارية، وقطع تواصله مع جذوره وقيمه، ومع أمته من أقطار ممتدة في العالم العربي، بل وحتى أقطار إسلامية أو على الأقل نخبها من علماء الشرع فيها. إذ غالبا ما تكون اللغة التي تعمقوا بسببها في معرفة دينهم هي العربية، ولهذا تحارب العربية باعتبارها وعاء للهوية الدينية للمغاربة، ولسان وحي ربهم، وهي الحاملة لتاريخهم وأمجادهم، والضامنة لتواصل أجيالهم وتواصيهم بالمبادئ المشتركة عبر الزمن المغربي الممتد إلى عهد طارق والمولى إدريس ويوسف بن تاشفين وغيرهم من السلف الصالح للمغاربة.
وتأتي هذه الخرجة النشاز من عيوش لتنضاف للكيد الذي تتعرض له العربية من زمان غير يسير، وهي نغمة قديمة متجدد عرفتها العديد من البلاد العربية كلبنان ومصر والعراق وغيرها وهذه النغمة في بلادنا استمرار لتعطيل مقترحات النهوض بالعربية والوارد ذكرها في ميثاق التربية والتكوين، واستمرار أيضا لإيقاف مسلسل التعريب، وتعطيل إخراج أكاديمية اللغة العربية، وتعطيل لمنشور الوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي الخاص بالعربية في الإدارة المغربية.. وإعلاء لشأن اللغة الفرنسية باعتماد ما يسمى بالباكالوريا الدولية، والتطبيق الفعلي لإزاحة العربية الفصحى من العديد من المواقع التي كانت فيها إلى عهد قريب، وإحلال العامية مكانها في نشرات الأخبار في العديد من المنابر الإعلامية، وكذا مختلف البرامج ومواد الإشهار والإعلانات التجارية…
2- أشار رئيس مؤسسة زاكورة في الوثيقة نفسها إلى أن “التعليم الأولي في مجمله تقليدي” و”يقتصر على الكتاتيب وبعض الأمور المشابهة، وأنه لا يجب أن يبقى دينيا فقط، بل على أطفالنا أن يتعلموا الحياة ويغنوا وينشطوا ولا نوجههم إلى الحفظ فقط”.
فهل التعليم الأولي في بلدنا يقتصر فعلا على الكتاتيب القرآنية كما قال الأستاذ عيوش؟ وبمقابل ذلك هل يحرم من انخرط في هذا النوع من التعليم من الاستمتاع واللعب والمرح في هذه المرحلة المهمة من حياتهم؟
التعريض بالكتاتيب القرآنية في المراحل الأولى لتعليم التلاميذ لم يأت عبثا في مطالب عيوش والأقلية التي يزعم تمثيلها، فهي الخطوات الأولى لتعلم الدين وهي التي يبنى عليها ما سيتلوها في مراحل أخرى من فهم الدين وترسيخ أحكامه وآدابه وتشريعاته وتصوراته ومفاهيمه، ويفضح إدراج هذا الأمر في المطالب سر الهجوم على اللغة العربية الفصحى باعتبارها وسيلة فهم الدين وتقوية رابطة المجتمع المغربي بالركن الأساسي في هويته.
ولا نقول نحن إن طرق التدريس كلها سليمة في تعليمنا الأولي بل هي في حاجة إلى تطوير وعناية بأطرها ماديا وتربويا وحسن تكوينهم وتأهيلهم للتعامل مع مستويات الأطفال العمرية والنفسية، وما يجري في معظم الكتاتيب ليس هو حفظ القرآن الكريم وحده وإنما يكون معه في الغالب الأعم: تعليم الحروف والكتابة، ومبادئ أولية في الحساب، وحتى أناشيد ومحفوظات، وتكون فيه فترات استراحة ولعب، ويظهر ذلك جليا فيما يشبه رياض الأطفال والتي تمزج بين تلك الأشياء جميعا، وأما بخصوص الحفظ فليس كل ما يقال بشأنه سليم.
فالحفظ خاصية إسلامية لا يجوز التفريط فيها، وقد كان ملازما للمتعلمين في الأمة منذ الصحابة رضي الله عنهم، فعن أنس بن مالك رضي اله عنه قال: (كنا نقعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعسى أن يكون ستين رجلا يعني فيحدثنا بالحديث ثم يدخل لحاجته فنتراجعه بيننا هذا ثم هذا فنقوم وكأنما زرع في قلوبنا)، فكان من البديهيات عند المسلمين حفظ القرآن كاملا قبل الجلوس إلى العلم. وسيرة العلماء والمجتهدين تبين ذلك، بل الواقع التاريخي إلى عهد قريب يثبت هذه الحقيقة، وكان جملة من العلماء لا يقبلون الأطفال في حلقاتهم حتى يسألونهم عن كتاب الله عز وجل،وكان المجتهدون في عمومهم حفاظا.
قال سفيان الثوري: مالك أحفظ أهل زمانه، وحفظ الإمام الشافعي القرآن وهو دون العاشرة، وحفظ الأشعار وحفظ الموطأ في وقت وجيز أي في ليال معدودة، وكان صاحب ذاكرة واعية حافظة. وكذلك الشأن في الإمام أحمد وغيره من الأئمة. وأملى أبو داود ثلاثون ألف حديث من حفظه.. وأعاد ابن حزم كتابة جملة من كتبه من حفظه، ولم ينقص الحفظ عند كل هؤلاء من فطنتهم وذكائهم وقوة شخصيتهم العلمية؛ بل إن الحافظة القوية أساس للنبوغ في أي علم، وحتى علم النفس في حاضره وماضيه يقرر أن مقياس الذكاء يكون فيما يكون به بالحافظة وحضور البديهة التي تثير المعلومات في الوقت المناسب.
وللأسف الشديد فقد حورب هذا الأسلوب محاربة شديدة من قبل بعض رجال التربية المحدثين، وأثاروا ضجة كبرى حوله، واعتبروه أسلوبا غير فعال لأنه يسلب الإنسان شخصيته وغفلوا عن الحقائق التالية:
– فقد يصدق عن الحفظ بعض ما يقولون لو كان المسلمون يكتفون بعتبته دون الانتقال إلى الفهم في مراحل موالية. ولا أحد من علماء التربية المسلمين يقول بالاكتفاء بالحفظ وحده.
– التجربة التاريخية والواقعية إلى عهد قريب تكذب هذا الإدعاء فجميع الفحول وأعلام اللغة والدين والأدب وغيرها من العلوم في تاريخ المسلمين كان الفضل الأكبر لنبوغهم فيها هو أسلوب الحفظ الذي يبدأ بالقرآن في الكتاتيب ثم الفهم، فهو سمة من سمات التعليم الإسلامي على مر العصور وقد أنتج هذا الأسلوب علماء كبار في مختلف الفنون.
– ليس مستبعدا أن يكون هذا الأسلوب هدفا لحملات أعداء الإسلام والمسلمين لإبعاد الناس عن حفظ القرآن الكريم، فتم بذلك توظيف الدراسات النفسية والتربوية في هذا المجال.
– الحفظ ليس أسلوبا متخلفا كما يدعي البعض، فتلميذ الأمس كان يهتم بالحفظ أولا ثم الفهم في مرحلة تالية وإذا فات المتعلم الحفظ في صغره فلا يقدر عليه وقت الكبر.
ولا ينبغي في الحد الأدنى أن يقل طموح الصادقين في الانتماء للأمة من وضع خطة في برامجنا التربوية يتمكن من خلالها أبناؤنا ليس فقط من حفظ بعض السور القصار في الصغر وإنما أن يتمكنوا من ختم كتاب الله عز وجل مع حصولهم على شهادة “الباكلوريا”، ويكون ذلك بمعدل خمسة أحزاب في السنة وهي ليس كثيرة إذا صدقت النيات في تكوين جيل عامر القلب بكتاب الله عز وجل.
والعناية بالحفظ بطبيعة الحال لا يعني أبدا إهمال مهارات الفهم والتحليل والتركيب والاستنتاج ونحو ذلك فالجمع ممكن كما عشناه في فترات متميزة من تاريخنا.
3- ما تقييمك لدعوات “عيوش” وكيف ترون مواجهتها؟
الرجل يقدم نفسه مصلحا اجتماعيا ويبادر لإصدار مذكرات إلى أهل القرار في البلاد في أمر يهم السواد الأعظم من المغاربة في شأن لغتهم ودينهم ويريد فرض رؤية ما يمكن نعته بحزب فرنسا الخفي الظاهر، وإلزام المغاربة بذوق النخبة المتغربة التي تدرك جيدا أن الرابح في مثل هذه المشاريع المشبوهة من تشجيع اللهجات المحلية هو اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية والتبعية لفرنسا، وكأنه لم يكن هناك كفاح وطني ولا معركة استقلال ولا دماء سالت ولا تضحيات بذلت، والحال أن مثل هذه القضايا الثقيلة هي من اختصاص الحكومات والبرلمانات والمؤسسات المنتخبة.. وليس المغامرين من الأفراد ومهربي الإرادة الشعبية ممن تكون شطحاتهم في العرف الديموقراطي ضربا من العبث وقتلا للسياسة والمؤسسات.
فلا بد من الوعي العميق والحذر الشديد من مثل هذه النزعات الشاذة والمتطرفة التي تريد إشغال البلاد عن معاركها الحقيقية في استكمال المسار الديموقراطي والتنموي وتحقيق العدالة الاجتماعية، وقطع الطريق عليها بالعناية بعملية البناء في ترسيخ لغة القرآن وحب العربية وأداء حقوق الكتاب العزيز إيمانا به ونشرا لتلاوته وحفظه في مختلف الأوساط بما في ذلك المراحل الأولى للتنشئة الاجتماعية في الأسرة والكتاتيب والروضة والمدرسة لأهمية تلك المراحل في تكوين الشخصية ووصم حياة الإنسان في مراحله اللاحقة.
وكذا العناية بفهم كتاب الله والعمل به والدعوة إليه، وإعادة الاعتبار للغة العربية بمختلف الوسائل الممكنة ونقتدي في ذلك بأسلافنا من الغيورين في الحركة الوطنية الذين واجهوا السياسة الاستعمارية بالعمل المدني والتعليمي فأنشأوا المدارس الخاصة لتعليم مبادئ الدين واللغة العربية.
فالعمل والتعاون على هذه المعاني بما يناسب زماننا في الواجهات الرسمية والمؤسسات الخاصة وهيئات المجتمع المدني والحقوقي وتنويع أساليب الصمود والمواجهة التربوية والقانونية والسياسية والاجتماعية وتشجيع جهود الأفراد من الدعاة والمحسنين كل ذلك وأمثاله هو خير جواب على عيوش وأمثال عيوش.
ولن يكون بحول الله مصير أمثال هذه الدعوات بأحسن حالا من مصير دعوات سلامة موسى وأضرابه في مصر وخارجها، وكما بقيت مصر ولبنان والعراق وغيرها عربية وإسلامية في عمومها فكذلك الشأن في بلادنا بحول الله وقوته ثم بجهود المخلصين من أبناء هذا الوطن.
4- مرة أخرى هاجم “عصيد” مقررات التعليم؛ وادعى أن (تلقين القيم التقليدية لا يدع للمتمدرس أية فرصة لفهم القيم المعاصرة أو استيعابها أو التعاطف معها، لأن طبيعة القيم التقليدية التي تلقن والطريقة التي تلقن بها والتي ما زالت في غاية من التخلف تقدم القيم المعاصرة على أنها تمثل قيما غربية كليا ولا علاقة لها بـ”تقاليدنا العريقة”، بل تعمل بشكل سافر على تنفير التلاميذ والمتمدرسين منها كما لو أنها على النقيض التام مع قيم الأصالة، وتخلق بذلك حربا يومية ضد حقوق الإنسان وضد العصر وضد العلم بمعناه الحديث)[3].
فهل المقررات الدراسية تحمل فعلا هذا الكم الهائل من القيم التقليدية كما سماها “عصيد”، أم أن الأمر مجرد تهويل وتبرير للفشل في نقل القيم العلمانية وتطبيعها في المجتمع؟
هذا كلام من لم يطلع على مقررات التربية الإسلامية في برامجنا التعليمية، أو هو زعم من لا يريد الاعتراف والإقرار بما عرفته من تطورات مهمة على مستوى المضمون والمنهج، فهي حافلة في مختلف مراحلها بمختلف القيم الإيجابية والوحدات التي تربط المتعلم بمحيطه، فبالإضافة إلى وحدات التربية الاعتقادية والتربية التعبدية هناك وحدات:
التربية العقلية والمنهجية، والتربية الاقتصادية والمالية، والتربية الأسرية والاجتماعية، والتربية الصحية والوقائية، والتربية التواصلية والإعلامية، والتربية الحقوقية، والتربية الفنية والجمالية.
وعلى مستوى الطرق والأساليب التربوية فالمادة الإسلامية عرفت تطورا كبيرا في تكوين أساتذتها وتأليف كتبها ولا يكتفى فيها بحفظ بعض النصوص الشرعية أو تلقين بعض الأمور الأساسية كما يتوهم البعض؛ وإنما تعتمد الحوار وإشراك التلاميذ وتنويع الأنشطة مع تفاوت في ذلك بحسب الشعور بالمسؤولية من طرف القائمين على شأن المادة من مشرفين تربويين ومكونين وأساتذة ممارسين، حيث نجد على الأقل في الوثائق الرسمية ضرورة توجيه المتعلمين إلى المشاركة في بناء الدرس الإسلامي بمثل العناية بالإعداد القبلي وإعداد المتعلمين لملفات علمية مركزة تحتوي بالإضافة إلى المعلومات: – صورا – وثائق – مقالات – شعرا – نصوصا إضافية من القرآن الكريم – السنة النبوية – قصصا من التراث الإسلامي… إلخ.
– إعداد التلاميذ لعروض تعليمية في محاور متعددة وإلقاؤها ومناقشتها من طرفهم داخل الفصل أو في فضاء المؤسسة.
– تنظيم ندوات وعروض مصغرة مشتركة بين المواد التي لها نفس الاهتمام بالموضوع كالعلوم الطبيعية في التربية البيئية والصحية أو الجغرافيا أو التربية البدنية أو الإعلاميات أو الفنون ولغات أجنبية وغيرها.
– اعتماد طريقة العمل في مجموعات مصغرة (ورشات) داخل الفصل.
– المساهمة في المجلة الحائطية للمؤسسة أو موقعها وصفحاتها في الشبكة العنكبوتية وتنظيم خرجات تربوية هادفة إلى المؤسسات الاجتماعية والمستشفيات من أجل تحقيق الاندماج في المحيط العام للمؤسسة.
– الانفتاح على الفعاليات الثقافية والعلمية المختصة (علماء، أطباء، محامون، مرشدون اجتماعيون…).
– استثمار الفنون التعبيرية (مسرح – أناشيد – ألعاب جماعية…).
– قراءة موجهة داخل فضاء المكتبة.
وغير ذلك من الأنشطة، بل في المستوى التأهيلي ينقسم كل محور من محاور الوحدات إلى درس نظري وآخر تطبيقي ويفرز درس للأنشطة تتوج بتقرير من إنجاز التلاميذ يصف ما جرى بخصوص الندوات أو ورشات عمل أو إنجاز ملصقات ومطويات ومقابلات و نحو ذلك.
وربما هذا التحول في مادة التربية الإسلامية من جهة المضمون والمنهج والشكل هو ما أضحى يزعج أمثال عصيد حيث تكون تلك الأنشطة والمواضيع مناسبة لمناقشة قيم الآخر في المجالات المنهجية أو الحقوقية والاجتماعية أو الفنية والجمالية.. ونحو ذلك، فتتم تزكية ما يناسب ميزان الدين وأخذ الحكمة الإنسانية من أي وعاء خرجت، ورفض ما يعارض قيمنا ويخالف روح حضارتنا.