تعليمنا بين الماضي والحاضر: بحث في العوائق (ح2)
ذ. يونس الناصري
هوية بريس – الأحد 10 نونبر 2013م
الثاني: عائق الثقافة
تبين في حديثنا عن العائق الأول (عائق اللغة) قيمة امتلاك لغة القرآن الكريم، وسيد الخلق أجمعين، لفهم تراث الأجداد السالفين، والسير على طريقهم في الإبداع، والاقتداء بهم في هممهم العالية وطموحهم البعيد الغور، كما بينا أن تعطل ملكة اكتساب لغة الضاد فهما وتطبيقا واعتزازا، هو سبب ما نحن فيه من تخلف وتدهور على جميع المستويات.
وأحيل القارئ هنا إلى كتيب صغير الحجم كبير الفائدة للباحث المقتدر عبد القادر الفاسي الفهري سماه “اللغة والبيئة”، خصوصا في حديثة عن “الإغماس المبكر واكتساب الملكة اللغوية العربية” (ص:17).
ونظرا للضعف الكبير الذي يعيشه تلامذتنا في علاقتهم بلغتهم الأم، ظهر عائق الثقافة، التي تعتبر أس كل تفوق وتقدم؛ إذ لا يخفى على متابع للشأن التربوي قلةُ الزاد المعرفي الثقافي لدى جل التلاميذ، بل اندثاره في كثير من الأحيان، حيث صارت الشهادات لا تعبر عن حقيقة حامليها، وأضحى بإمكان التلميذ أن ينتقل من مستوى لآخر دون امتلاك رصيد كاف من المعلومات، يمكنه من الاندماج في مستوياته الموالية للعملية التعليمية، خصوصا إذا راعينا تعويل غالبية التلاميذ على الغش والاحتيال من بداية موسمهم الدراسي، مما يعطل رغبة التعلم الصادق، ومن ثم التثقف اللازم.
وهكذا نجد آلاف التلاميذ لا يحسنون كتابة جملة سليمة بلغتهم العربية (نحوا وصرفا وإملاء)، فضلا عن الفرنسية وغيرها من اللغات، وهو السبب في قلة مطالعتهم وبحثهم، ومن ثمة في فقرهم الثقافي، فالذي لا يتقن لغته قراءة وكتابة و كلاما يصعب عليه الغوصُ في كتب السابقين، التي تحوي من الفوائد العلمية والثقافية ما لا يحد حصر، ولا يكيفه وصف.
إن مفهوم الثقافة في نفسه قد اعتراه لَبسٌ وغموضٌ مقصودان أثرا في مصداقيته وحقيقته، خاصة إذا تحدثنا عن الثقافة العربية الإسلامية؛ ذلك أن المثقف المعاصر -كما يُرادُ له أن يكون- هو الرجل الحاصل على شهادة في الفلسفة أو الآداب أو علم الاجتماع أو علم النفس، المرتاد للمقاهي، الحامل للجرائد يتصفحها، المنهمك في شؤون السياسة الحديثة، يطعن في هذا الحزب ويؤيد الآخر، المتكلم في كل فن، سواء بعلم أو بجهل، وبخاصة إذا نفخ فيه زملاؤه بمدح زائد وإطراء بارد.
أما العالم كبير الشأن في العلوم اللغوية والشرعية، القاضي عمرا مديدا في طلب العلم والتأليف والتعليم، فلا يُلتفت إليه في كثير من الأحيان، ويُنظر إليه نظرة ازدراء، على أساس أنه صاحب كتب صفراء يعيش زمنا قد مضى ولا يواكب عصره، وغير منفتح على ثقافة الآخر، حتى وإن كان ممن يُسهم في خدمة المستجدات الفقهية والثقافية المعاصرة.
ودليل هذا الكلام هو استضافة باحثين في علم الاجتماع وعلم النفس والسياسة في بعض برامج قنواتنا (بدون حرج وقصة الناس وغيرهما) أثناء معالجة قضايا مصيرية كحقوق المرأة والطفل والاغتصاب والسرقة وغيرها، وكل واحد منهم يخوض فيما درس وعلم من أقوال الباحثين الغربيين، ويحلل ويحرم بناء على نظرته الخاصة ورأيه المبني على ثقافة غير ثقافتنا، ونابعة من تصور مادي غير تصورنا الإسلامي، وتغيب البرامج عن قصد علماء الأمة الأكفاء، الذين سيمتحون من معين الشرع وهم يناقشون ويحللون.
وما دامت الحال هكذا -إلا عند من رحم ربك- وجب علينا تحديد مفهوم الثقافة الحقيقية وتمييزها من المزيفة، فقد جاء في “معجم مقاييس اللغة” لابن فارس (1/382-383 بتصرف) “أن الجذر (ث.ق.ف) يدل على إقامة الشيء وإحكامه.. ويقال: ثقفت القناة إذا أقمت عوجها.. وثقِفت هذا الكلام، بمعنى وعيته وفهمته، ورجل ثَقْفٌ لَقْفٌ، وذلك أن يصيب علم ما يسمعه على استواء، ويقال: ثقفت به إذا ظفرت به..”. وعند ابن سيدة في معجمه الضخم “المحكم والمحيط الأعظم”: “ورجل ثقف: حاذق فهِمٌ.. والثِّقاف: حديدة تكون مع القواس والرماح يقوم بها الشيء المعرج” (6/356-357 بتصرف).
إذن فالثقافة هي آلة معرفية علمية، يعتمدها الإنسان للتمييز بين جيد المعارف وسليمها، وبين رديئها وسقيمها، والمثقف بناء على المعنى اللغوي العربي هو الرجل الحاذق الفاهم المدرك لحقائق العلوم والمعارف، الذي يختار منها ما ينفعه دنيا وآخرة، والثقافة الحقيقية هي العلوم الحقة الصادقة في نفسها، والمعبرة عن حقيقة الشيء كما هو.
فإننا نكاد نتفق على أن العلوم أنواع وأصناف، أشرفها علم القرآن والسنة وما ينبثق عنهما من فنون لا حصر لها، وهذه هي التي ينبغي للمثقف أن يزود منها نفسه، ويهذب بها أخلاقه وعلمه، وأن يتخذها صاحبا في السفر والحضر، حتى إذا أشبع روحه منها، فتحت له أبواب الأخذ من المعارف الأخرى الدنيوية كما شاء، ما دام الوازع الديني قد استقر.
وزيادة في الإيضاح: إن كثيرا من المثقفين -والاستثناء وارد جدا- يفنون أعمارهم في تخصص ما، كالفلسفة وعلم الاجتماع والقانون الوضعي، هاضمين لأقوال أفلاطون وأرسطو والسفسطائيين، ومتخطين لفلاسفة الإسلام أو غير معتبرين لهم، وصولا إلى الفلاسفة المحدثين على اختلاف مشاربهم وتنوع إيديولوجياتهم، والأمر نفسه يتكرر مع أصحاب علم الاجتماع والنفس والقانون وغيرها من العلوم الإنسانية كالأدب الحديث والشعر المعاصر.. كل ذلك وهم يُحسبَون من المثقفين البارزين.
وإذا فتشت في رصيدهم المعرفي الشرعي والتاريخي واللغوي، وجدت قلوبهم هواءً، وإن كانوا ممن يقدر التخصص حق قدره، فإنهم يعترفون بقصورهم الشرعي وقلة اطلاعهم في هذا الباب، وإن كانوا غير ذلك -وهم كثير- فإنهم يتطاولون على الفقه الإسلامي وتاريخه وعلمائه، ضربا للآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة بعُرض الحائط، وتسفيها لاجتهادات العلماء الربانيين، وازدراء بتاريخ المسلمين، وأمثله هؤلاء يطول ذكرها.
وقد قلنا ذلك لأن اللغة والدين والتاريخ هي أركان الثقافة وأعمدتها، وثقافة المرء تقوى وتنتعش بمقدار اغترافه من تلك الأعمدة، والعكس صحيح، فهذا أحد الباحثين الغربيين يعرف الثقافة قائلا: “الثقافات هي مجموعة من المعتقدات أو القيم التي تعطي معنى لطرق الحياة، ويعاد إنتاجها من خلال أشكال مادية ورمزية” (الجغرافيا الثقافية، مايك كرانغ، ترجمة سعيد منتاق، ص:14).
والناظر في ثقافة مثقفينا يلمس تغليبهم التعمق في ثقافة الآخر، وافتخارهم بذلك، يستوي في ذلك إعجابهم بلغات الآخر وطريقة عيشه ولباسه وتفكيره وكل مناحي حياته، في مقابل إهمال ونفور كبيرين من الثقافة العربية الإسلامية في زواياها المتنوعة الراقية.
فهم لم يدركوا جيدا -والله أعلم- أن لكل أمة ثقافة خاصة، تفهم في ارتباطها بالمعتقدات والقيم السائدة أو التي ينبغي أن تسود في المجتمع، والتي تميز طريقة عيش وتفكير أمة من أخرى، فثقافة اليونانيين والإغريقيين القدماء تختلف جذريا عن ثقافة العرب المسلمين، وثقافة المغرب تخالف عن ثقافة أمريكا، وهكذا دواليك..
ومن شأن الوعي بالثقافة الأصلية ذات المرجع العقدي والأخلاقي الإسلامي أن ينشئ لدى التلاميذ -وهم بذرة مثقفي المستقبل- فهما عميقا، ويقينا أكيدا من أن فكر وثقافة أمتهم الإسلامية قد أسهم في إغناء سائر الثقافات الأخرى، ويدفعه أولا إلى محاولة الانفتاح على ثقافته الأم بالقراءة الفاحصة، والفهم الثاقب، والتطبيق العملي في الحياة، ثم الانفتاح ثانيا على علوم -وليس ثقافات- الآخر ليستطيع أن يصنع كصنعه و يبتكر كابتكاراته وينفع أمته كما ينفع الغربي أمته، ويحرص على تطوير مجتمعه اقتصاديا وتقنيا كما فعل الآخر. أما الانفتاح على إلحاد الآخر وفجوره في عديد من الجوانب، فإنه يخالف ثقافتنا الأخلاقية ومرجعيتنا الإسلامية.
يقول خليل نوري العاني في كتابه “الهوية الإسلامية في زمن العولمة الثقافية” في سياق توضيحه لأهمية الوعي بالثقافة الشخصية النابعة من باطن الأمة الإسلامية دونما سواها من الأمم الأخرى: “الخصوصيات الثقافية للشعوب والأمم هي التي تجعل من كل واحدة منها شعبا متفردا بقيم ومبادئ يؤمن بها ويعتز بها، ويقيم عليها حياته، وأمةً متفردة بمقومات يقوم عليها كيانها، وتؤمن بها سيادتها واستقلالها” (ص:9).
ولا يماري أحد في أن تفوق اليابانيين والصينيين والدول المجاورة لهم، نتج عن تمسكهم بثقافتهم الأصلية ودفاعهم عنها، وافتخارهم بها، فالياباني مهما بلغ من الثراء والأخذ بالوسائل الحديثة التي هم أسيادها ومبدعوها، فإنه يتشبث بعاداته وتقاليده وطقوسه التراثية الآتية من عقيدته وتاريخه ولغته، فيأكل بالخشب ويجلس أرضا، ولا يتكلم إلا بلغته الأم، في الشارع والمدرسة والجامعة والشركات والمنزل.. (ينظر كتيب: رحلة إلى اليابان، عبد الله بن حمد الحقيل؛ منشور في موقع الألوكة).
يتبع إن شاء الله