الخطر الحداثي
د. رشيد نافع
هوية بريس – الثلاثاء 12 نونبر 2013م
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
لقد أدركت الدول الغربية والاستعمارية منذ زمن طويل: أهمية التعليم بالنسبة للفرد، وأثره العميق على نهضة المجتمع؛ فنال حظًا عظيمًا من اهتمامهم داخليًا وخارجيًا، وصار سلاحًا ذا حدين؛ حيث استُثمر لتنمية المجتمعات الغربية ونهضتها والارتقاء بالفرد والجماعة فيها من جانب، وصار حربة مصوبة إلى خاصرة الدول الإسلامية المستعمرة تدمِّر فيها الأفراد والجماعات وتزيِّف التاريخ وتشوهه من جانب آخر، مستعيضة بذلك عن الاحتلال العسكري، الذي أثبت عدم جدواه في كثير من البقاع؛ فالمحتل العسكري لم يزل مكروهًا، بل ويبذل المجاهدون نفوسهم رخيصة في سبيل طرده من بلادهم، وتظل سلوكيات أفراده وأفكارهم منبوذة ومحل نقد مستمر؛ لذلك استعاض المستعمر بالغزو الفكري والأساليب التغريبية التي قد ينطق بها وينشرها أناس يحملون لون البشرة ذاته، ويتكلمون باللسان العربي المبين؛ ولكنهم يحملون عقلاً وفكرًا مخترقًا.
الخطر الفكري:
يحمل الفكر الحداثي في جملته مجموعة من التوجهات في غاية الخطورة على كافة جوانب الحياة الإسلامية، من هذه الأفكار والتوجهات تلك النقمة على تراث الأمة التي يلح عليها أصحاب هذا الفكر، ولا ندري ماذا بين هؤلاء وبين تراث الأمة الذي أنتجته العقول الإسلامية خلال أربعة عشر قرنا، واستفادت من أمم الأرض وتقدمت به، هل التقدم مرهون في نظر هؤلاء بنبذ التراث والانقلاب عليه، أم أنها العمالة للغرب والارتماء في أحضانه؟ ولم يتوجه هؤلاء إلى محاربة الدين الإسلامي؟ هل كان ديننا يوما ما سببا في تخلف الأمة؟ أم أنه لابد من إعلان الكفر حتى نلحق بركب التقدم؟ وما العلاقة بين هذه المتناقضات؟ إن كانت النصرانية المحرفة هي سبب التخلف في أوربا, ولم يشم الغرب رائحة الحرية والتقدم إلا بنبذ الدين، فإن ديننا على العكس من ذلك، فتقدم المسلمين مرتبط قطعا وحتما بالعودة إلى دينهم.
إن الفكر الحداثي أنشأ الكبر والغرور في الفكر عندما أعلن مبدأ العقلانية، أو تأليه العقل على نحو ما ذكرنا في مبادئ الحداثة، حيث جعل العقل حاكما على كل شيء، كما أنه في ذات الوقت أورث الحيرة والشكوك بمنهجه الشكي، ومن هنا لجأ هؤلاء إلى الغموض والإغراب في كل شيء.
والفكر الحداثي عندما ظهر لم يقدم مشروعا أو نظرية إصلاحية لحل مشاكل الأمة المهلهلة إنما جاء بفكر مضطرب وصفه أصحابه بالهدم، والقلق، والاضطراب، والقطيعة.. إلى غير ذلك مما يزعزع العقل المسلم ويشوش عليه.
إن فكرة عدم الثبات في كل شيء، وفكرة التغير المستمر، وفكرة الصيرورة إلى آخر تلك الترهات المخالفة للمنطق والواقع والدين، كل هذه الأفكار تحير العقل ولا تجعل له منهجا يوثق به، لأنه لا شيء يوثق به بناء على الفكر الحداثي، وهذا ضرب للواقع الفكري الإسلامي الذي يؤمن بالثوابت والمتغيرات، ثوابت هي محور وجوده وكينونته، ومتغيرات تعطيه المرونة والتكيف مع الزمان كله والمكان كله، ومن هنا فالفكر الحداثي تعد على الثوابت التي هي عناصر وجود الأمة ودوامها.
ومن مخاطر الحداثة الفكرية أنها ترسم منهجا منحرفا لحياة الإنسان يخالف منهج الله تعالى الذي رسم منهج السعادة له في الدنيا وفي الآخرة، فالحداثيون على حد قول د. عدنان النحوي يرسمون “الصورة المنحرفة لسعي الإنسان إلى التغير، وسعيه وراء الجديد، سعيا متفلتا من الإيمان والتوحيد، غارقا في ظلام الشرك والإلحاد، سعيا يجمع اليوم خبرة آلاف السنين في الانحراف والشذوذ، والأمراض النفسية والعصبية، والشر والفساد في الأرض وطغيان الشهوة الجنسية المتفلتة الملتهبة، وفورة سائر الشهوات المدمرة، وسيطرة الخمور والأفيون والمخدرات، لتدفع هذه كلها أو بعضها، ردود فعل نفسية عنيفة غير واعية، تظهر في الفكر والأدب والسلوك، في ثورة هائجة تحاول هدم الماضي بصورة مستمرة متتالية، حتى لا يبقى حسب ظن رجالها شيء ثابت في الحياة، في هجوم جنوني على الدين واللغة، وعلى التراث كله بما فيه من خير وشر، وثورة على الحياة، وعلى سنن الله في الكون، بين قلق الشك والريبة، وفجور الكبر والغرور، إنها تمثل انحطاط الإنسان إلى أسفل سافلين بما كسبت يداه”.
والخلاصة: أنه لا يتصور إصلاح يحمله الفكر الحداثي وهو في حقيقته خليط من فكر ماركسي ووجودي، ونصراني، وكل ألوان الفلسفة الغربية الملحدة والمنحرفة عن الفطرة والعقل والهداية، ومع كل هذا راج هذا الفكر في البلاد العربية، لا لأنه فكر صالح ينهض بالأمة ويغير حالها إلى الأفضل إنما كان رواجه لسببين هما:
“1- جنوح الناس إلى الخروج عن المألوف ولهاثهم خلف “العصرنة”!
2- الخلط بين الحداثة -وإن شئت فقل بين الهدم- والتجديد”.