المسلمون بين الأمس واليوم
عبد الصمد المرابط
هوية بريس – الثلاثاء 12 نونبر 2013م
إن الانحطاط والضعف اللذين أصابا الأمة الإسلامية من مشرقها إلى مغربها اليوم، لا يرضاه أحد من عامة المسلمين الذين ليس لهم همٌّ إلا البحث عما يسد حياتهم اليومية، ناهيك عن مثقفي وعلماء ومفكري الأمة الذين هم أشد الناس تحمسا لعودة الخلافة الراشدة وانتشار العدل الإلهي الذي تضمنته الشريعة الإسلامية.
إن حالتنا اليوم لا ترضي لا من جهة الدين ولا من جهة الدنيا، ولا من جهة المعنى ولا من جهة المادة، فأفقر الشعوب عالميا المسلمون، رغم أن أراضيهم كلها غنية بالمعادن (الذهب الفضة النفط النحاس الفوسفاط…)، أما عن انتشار الجهل والأمية فحدث ولا حرج، لكن لا ننكر أن هناك ثلة من العلماء والمفكرين ما زالوا يقومون بإذكاء روح الإسلام عبر كتاباتهم ودروسهم وخطبهم، إلا أن هذه الثلة من المصلحين التي يتوجس الغرب منها خيفة، سرعان ما كانت توجه إليها ضربات قاضية لوأدها في المهد، من قبل خصومها، حتى لا يكون لها زمام قيادة المجتمعات الإسلامية، وخصوصا أن هؤلاء المصلحين يرفعون شعار العودة إلى منهج الرعيل الأول من الصحابة رضوان الله عليهم.
وبعد أن تقرر هذا وجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي أدت إلى تقدم الغربيين، مع كونهم لم يكونوا يمتلكون المقومات العلمية والمادية في بداية نهضتهم مثل ما كان عليه المسلمون، وتراجع المسلمين في جميع المجالات، العلمية والثقافية، بعدما كانوا يتصدرون الأمم من حيث القوةُ المادية والثقافية والعسكرية.
وقبل البحث عن أسباب التقهقر لا بد من الإشارة إلى السبب الذي جعل أسلاف الأمة يرتقون إلى قيادة العالم.
لا ريب أن أسباب تقدم المسلمين في القرون الماضية ترجع في مجملها إلى تمسكهم بالدين الحنيف، وتطبيقهم إياه سلوكا ومعاملات، بعدما كانوا قبل مجيئه فرقا وشيعا وقبائل متناحرة فيما بينها، فبظهوره وإشعاع نوره الذي أفعم الجزيرة العربية بعدما كانت تعيش في ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، صاروا بسببه من الفرقة إلى الوحدة، ومن الغلظة والشدة إلى الرحمة، ومن البادية إلى أوج الحضارة، ومن عبادة الأصنام إلى عباد رب الأرباب.
فنشّأهم القرآن الكريم خلقا جديدا، فصاروا إلى ما صاروا إليه من المنعة والأنفة والعزة، وصنع منهم قادة وفرسانا فتحوا نصف الكرة الأرضية في نصف قرن، ولولا الخلاف الذي زرعه بعض المغرضين والحاقدين من المنافقين بين الصحابة أواخر خلافة سيدنا عثمان رضى الله عنه لكانوا أكملوا فتح العالم ونشر تعاليم الإسلام فيه، ولن يقف في وجههم أحد.
إن هذه الفتوحات التي أحرزها المسلمون في نصف قرن أو ثلثه أدهشت المفكرين والمؤرخين، وأذهلت “نابليون”، الذي أعجب بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وعمر وغيره من عظماء الإسلام، حتى إن نفسه حدثته حينما كان بمصر باعتناق الدين الإسلامي.
فالسبب الذي به نهض هؤلاء العظام وارتقوا عبره سلم المجد والرقي والتقدم، يجب علينا أن نفحص واقعنا نحن ونبحث عنه هل باق أم ارتفع.
إذا فحصنا واقعنا وجدنا أن السبب الذي تقدم به هؤلاء، أصبح مفقودا بلا نزاع، وإن كان بقي منه شيء كباقي الوشم في ظاهر اليد، بل لم يبق للمسلمين اليوم من الإيمان إلا اسمه، ومن الإسلام إلا رسمه، ومن القرآن إلا الترنم به، دون العمل به مما كان عليه الصدر الأول في صدر الملة وعنجهية الشريعة.
إن الأمة اليوم مطالبة بالرجوع إلى كتاب ربها وسنة نبيها، إن هي ابتغت العزة والمنعة والنصرة من عند الله سبحانه والعمل بهما، وتطبيقهما في حياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأن تقاعسها عن ذلك وانتظار النصر والعزة من دون الأخذ بالأسباب يؤدي ذلك إلى ما نحن عليه الآن.
فإن الله سبحانه لا ينصر ولا يُعز هذه الأمة إلا إذا توفر الشرط قال تعالى: “ولينصرن الله من ينصره”؛ وقال سبحانه أيضا: “إن تنصروا الله ينصركم“؛ فنصر الله مشروط بنصر المؤمنين إياه سبحانه، وذلك يكون بتطبيق شرعه الحنيف الذي ارتضاه سبحانه لهم قانونا ودستورا لهذه الأمة.
فاكتفاء الأمة في هذا العصر بإنشاد النصر وعودة مجدها دون العمل على ذلك، يعد ضربا من الخيال، ومخالفا للنواميس الإلهية التي أقام الله عليها الكون: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم“، لا يمكن لأمة أن ينصرها الله بدون عمل ويفيض عليها من الخيرات التي كان يفيضها على أسلافها وأمجادها، وهي قد قعدت عن تنفيذ العزائم التي كان ينفذها آباؤها، فلن تكون هناك عوة بدون استحقاق أبدا، كما أن الغلة لا تكون بدون حرث ولا زرع، فلو كان تأييد ونصر الله للمخلوقين بدون عمل، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أولى بذلك، ولم يكن لذلك معنى لقول الله سبحانه في كتابه الحكيم: “وقل اعملوا“؛ وقوله سبحانه: “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم..”؛ فأين حال المسلمين اليوم من هذا الوصف الواضح المطابق للسنن الكونية؟ وأين حالنا من سلفنا الذين كانوا يبذلون الغالي والنفيس من أجل نصرة دينهم وعقيدتهم؟
إن هذا الرعيل الأول الذي حير وأبهر أعظم المفكرين والمؤرخين والفلاسفة جدير بأن يحظى بهذا الاهتمام، وكيف لا، وهم الذين كانوا يتهافتون على الموت الأحمر من أجل الحصول على الشهادة في سبيل الله، وكثيرا ما كانوا ينشدونه ولا يجدونه، حتى كان فارسهم يكر وهو يقول: إني لأشم ريح الجنة، ثم لا يزال يكر ويخوض غمرات الحرب حتى إذا استشهد قال: هذا يوم الفرح، وإذا فاتته الشهادة عاد إلى قومه حزينا كئيبا.
إن الأمة اليوم محتاجة إلى مدارسة تاريخ هؤلاء المليء بالدروس والعبر، للاستفادة منه وتطبيقه على واقعها المر، وإني لأتعجب عجبا حينما أقارن حالنا مع حال الأمة الغربية اليوم، وما وصلت إليه من الرخاء والتقدم في جميع المجالات العلمية المادية، وأتساءل، من أخرج أوربا التي لم تكن تعترف بإنسانية المرأة إلى حدود القرن السادس عشر من غياهب عصر الظلمات التي تراكمت عليها قرونا عدة.
لكن حين تفحصي لتاريخهم أجد الأسباب التي ارتقت بهم إلى هذه الحظوة والمكانة، وأجد في المقابل أن أمتنا قد أهملت هذا السبب واعتمدت مذهب الاتكال بدون عمل، وفي الحديث الموقوف ورد “أن عمر بن الخطاب لقي ناسا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: “بل أنتم المتكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله”، فحال الأمة اليوم كحال هؤلاء المتكلون الذين اختلط عليهم مفهوم التوكل، فاعتمدوا الاتكال بدل التوكل، الذي هو مدعاة للكسل وترك الأخذ بالأسباب، فالتوكل الحق هو ما فسر مفهومه الخليفة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلا يمكن لأحد أن يمتلك المال والجاه والسلطة من دون السعاية والكد، وإلا لما كان معنى لقول الله سبحانه: “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى”؛ فالسعي سبب لتملك الأشياء.
في المقابل نجد الأمة الغربية قدمت تضحيات جسام للوصول إلى ما وصلت إليه اليوم، وذلك بالتخلق بحماسة هؤلاء العظام من الرعيل الأول من المسلمين، مع أنهم لا يمتلكون كتابا يوصيهم ويحثهم على التضحية والنضال والشهادة، فكانت أجنادهم تتوارد على حياض المنايا سراعا، وتتلقى الأسنة والحراب عناقا، لقد أعطى هؤلاء الغربيون لباقي الأمم درسا في التضحيات بالنفوس والأموال في الحرب العالمية الثانية، ما يذهل العقول البشرية، فالألمان فقدوا نحو مليوني قتيل، وفرنسا مليونا وأربعمائة ألف قتيل، وبريطانيا ستمائة ألف قتيل، وإيطاليا أربعمائة وستين ألف قتيل، أما الروس فقد بلغ عدد قتلاهم إلى ما لا يعد ولا يحصى، ناهيك عن باقي الدول الغربية الأخرى، أما من جهة الأموال، فقد بذلت بريطانيا سبعة مليارات من الذهب، وفرنسا مليارين، وألمانيا ثلاثة، وإيطاليا خمسمائة مليون، أما روسيا فقد بذلت كل ما عندها من الأموال، حتى أدى ذلك إلى ظهور ثورة جياع، التي آلت إلى البلاشفة.
يا ليت الأمة أخذت الدروس والعبر من هؤلاء الذين ليس لهم دين ولا ملة تحثهم على التضحية وتعيدهم بالنصر والعزة والكرامة.