رحيل «نيلسون مانديلا» وحفل النفاق العالمي
هوية بريس – مركز التأصيل
الإثنين 09 دجنبر 2013م
“رحل مانديلا، رحل أبو جنوب أفريقيا’، هكذا امتلأت الصحف العربية والعالمية صبيحة يوم موته، معتبرة أن العالم يمر بحادث جلل وهو وفاة “نيلسون مانديلا”، وينعتونه بـ”رمز الحرية وأيقونة المقاومة السلمية في العالم”.
وهكذا كأن العالم استيقظ فجأة ليجد نفسه قد فقد قيمة تجمع تصريحات الساسة بأنها كبيرة ولا تعوض!
وبصرف النظر عن أي تقييم لشخصية “نيلسون مانديلا” من حيث عقيدته وقناعاته، فالتقييم الشرعي فيه معروف، فقيمة الإنسان الحقيقية تبدأ من إيمانه بالله سبحانه وبالإسلام دينا، وتعلو قيمة الناس أو تسفل بمقدار قربهم أو بعدهم عن ذلك الإيمان، كما أن للكثيرين على المستوى الشخصي والإنساني السلوكي عليه انتقادات شأنه شأن الكثيرين، بل ليس خفيا أن تلك الانتقادات على شخصية الرجل وسلوكه قد جاءت من أقرب المقربين إليه كزوجته وبعض أبنائه، بل حتى في لحظات موته الأخيرة لم تعلم بنتان من بناته بخبر وفاته إلا في العاصمة لندن وهم مدعوون لمشاهدة عمل مرئي عن حياته، على جانب آخر فنحن أيضا لا ننكر له إنجازاته في مجال محاربة التفرقة العنصرية وقدرته على قيادة التجديد السياسي في بلاده بعقلية هادئة سمحت لمختلف الرؤى أن تعيش آمنة في جنوب إفريقيا، ومنها المسلمون الذين صاروا يتمتعون بقوة اقتصادية وفكرية لا تخطئها عين، بالطبع ليس هذا موضوعنا، ولا البحث عن “مانديلا” نفسه موضوعنا، إن موضوعنا حول هذا التناقض الفج الذي يشي بنوع خداع ونفاق من ساسة العالم لشعوبهم ومحاولتهم تجميل وجههم القبيح وكم هم يقولون ولا يفعلون..!
فقد انطلقت في العواصم العربية والعالمية جمل المراثي التي تثني على الرجل والتي تنعته بصفات كثيرة تفوق في يوم واحد ما كتب عنه من إطراء على مدى عمره كله.
وتبارى الساسة في رثاء “مانديلا” في سباق غريب وعجيب على نحو متزامن، فتحدثوا جميعا عن الحرية والكرامة وللأسف فغالبيتهم يطعنون الحرية والكرامة في أغلى ما تملكه.
أليس عجيبا أن يشيد “أوباما” بإرادته القوية للتضحية بحريته من أجل حرية الآخرين في نفس الوقت الذي يهدر حرية الشعوب في اختيار ممثليها ويهدر حريتهم في الحياة وفق شرائعهم وعقائدهم ويهدر حقهم في الانتفاع بمواردهم فتستولي جيوشه عليها وبل ويهدر حقهم في الحياة وفي الأمن وتخترق طائراته أجواء دول كثيرة لتفعل ما تشاء في أي مكان تشاء وخاصة في العالم الثالث، فعن أي حرية يتحدث السيد أوباما أم أن الحرية الآن صارت علما وشعارا وتمثالا حبيسا على شواطئ الولايات المتحدة؟
وعلى نفس النسق سار الأمين العام للأمم المتحدة “بان كي مون” الذي قال: “إن مانديلا كان مصدر إلهام للعالم وعلينا أن نستلهم من حكمته وتصميمه والتزامه لنسعى إلى جعل العالم أفضل”، والأمم المتحدة هي ذاتها التي فشلت في كل مواقفها أن تنتصر يوما لقيمة حرية الشعوب إلا حينما يتعلق الأمر بالدول الضعيفة، فلم يصدر منها قرار يدين الكيان الصهيوني على الدولة والشعب الفلسطيني إذ وقف له الفيتو دوما بالمرصاد، ولم تتحرك جيوش برعاية ودعم الأمم المتحدة إلا في اعتداءات واضحة على أمم وشعوب مسلمة ونهبت ثروات واعتداء على أنفس بريئة وصلت للملايين وتركت مخلفات إشعاعية تقضي على الأجيال القادمة وتشوهها، فأين قيم الحرية في الأمم المتحدة؟
وبمثل هذه التصريحات صرح رئيس الوزراء البريطاني “ديفيد كاميرون” الذي قال إن نورا كبيرا قد خبا ووصفه بأنه كان بطل هذا العصر وأمر بتنكيس العلم البريطاني أمام مقر رئاسة الحكومة وهو الأمر المضحك المبكي، إذ أن جنوب أفريقيا ظلت محتلة من قبل البريطانيين لأكثر من مائة عام، وفيها استوطن الأوروبيون وخاصة أبناء الإمبراطورية البريطانية وكونوا بها عنصرا “أبيضا” ظل يذيق العنصر الأصلي “الأسود” وهم الأكثرية ويلات العذاب، وظلت معاملة السود مهينة بلا حقوق طيلة هذه المدة، وفي ظل الحكم المجحف للأقلية البيضاء ذات الأصل البريطاني للأغلبية السوداء سجن “نيلسون مانديلا” لمدة تقترب من ثلاثين عاما دون أن تتدخل بريطانيا العظمى في الإفراج عنه، أليس هذا أيضا تناقضا غريبا غير مقبول؟
وهكذا يمكن مناقشة كل من أدلى بتصريح يدعي فيه حزنه وأسفه على فقد “مانديلا” ويؤكدون على احترامهم لقضيته على الرغم من إتيانهم الأفعال المناقضة تماما لأفكار “مانديلا” التي يمتدحونها بل ولا يتحملونها إذا صدرت في حقهم من بعض أفراد شعوبهم.
وفي عالمنا العربي الذي يتسم في غالبه بقمع للحريات وهضم للحقوق ويتسم بوجود سلطات مطلقة في يد الحكام وعدم محاسبتة لهم، بدأت تصريحات ساسته وبرامج وسائل إعلامه التي ظلت تتغنى بأمجاد الرجل وبطولته وتحمله، وظلت تعرض فقرات من حياته واعتبر اليوم من أحد الأيام الحزينة بسبب فقده في رد فعل غريب عليهم.
ففي الوقت الذي يصف نواب الكنيست الصهيوني محمود عباس بأنهم قد فوجئوا بمرونة عباس في القضايا المصيرية التي شكلت عقبة دائمة في المفوضات، لم يطرح عباس عودة اللاجئين ومصير الأماكن المقدسة مقابل تشديد الكيان الصهيوني على رفضه لأي اتفاق مع السلطة الفلسطينية يكون فيه الانسحاب من أي جزء من الضفة الغربية، وفي هذا تخل تام عن فكرة المقاومة للمحتل بل الرضا بوجوده والتعايش الكامل معه والموافقة على كل طلباته والرضا بفتات من أرضهم كي يكون به فقط رئيسا يحمل صفة الرئاسة ومكتسباتها ولو كانت على شبر من الأرض.
في هذا الوقت ينعي عباس “مانديلا” فيقول: “مانديلا قائد ومقاتل من أجل حرية شعبه وكان رمزا للتحرر من الاستعمار والاحتلال لكافة الشعوب من أجل حريتها”، فكيف يستقيم قوله مع فعله من الانبطاح التام أمام عدوه وترك قضيته الأصلية التي يفترض به أن يعيش من أجلها؟
وفي الوقت الذي تسجن فيه فتيات بريئات في مصر ويحكم على طلبة الأزهر بالسجن 17 عاما بتهمة التظاهر تعلن مصر الحداد ثلاثة أيام على “مانديلا”، أليس هذا تناقض واضح في المسلكين والتصرفين حيث يكون ما يصدر من قرارات وردود أفعال مناقضا تمام للأفعال التي جعلت من سجون مصر حاليا مزدحمة بعشرات الآلاف من أمثال “مانديلا” صمودا غير أنهم يفضلونه قدرا وقيمة ويعلون عليه بإيمانهم وديانتهم ومبادئهم، فكيف يمكن تفسير هذا التناقض الشديد؟
أما إن أردت العجب فلك أن تقرأ تصريح بشار الأسد الذي لا يعرف لسوري حقا، فأكل السوريون القطط والكلاب من جوعهم وحصارهم، وقتلوا بالآلاف بقنابل الغاز، وذبحوا بالسكاكين بقلوب باردة، وحرم السوريون من حق الدفن فالجثث تملأ شوارعهم، فإذا بهذا المتناقض يصرح هو ومعاونوه وممولو طغيانه على شعبه النظام الإيراني بمدح “مانديلا” الذي قاده الاعتراض على ظلم الأغلبية للأقلية إلى سجن لأكثر من عشرة آلاف ليلة، فيقول روحاني -الذي تمتلئ ساحاته عاصمة بلاده بأعواد مشانق المسلمين السنة- مادحا “مانديلا”: “كان يعتقد اعتقاداً راسخاً بحرية جميع الشعوب في العالم وتحمّل من أجل الحرية المعاناة والتشرد والسجن” وبعدها أطلق في طهران اسم مانديلا على أحد شوارعها.
وقال حليفه وشريكه في القتل وسفك الدم بشار الأسد أن “حياة مانديلا كانت مصدر إلهام للمقاتلين من أجل الحرية ودرسا للطغاة”، فعن أي طغاة يتحدث بشار وهو بنفسه الذي يمثل المثل والقدوة لعتاة الطغاة؟!
وهكذا رأينا جمعا غفيرا من الممثلين والمشاهير والإعلاميين المؤيدين دوما للأنظمة القمعية يترحمون على “مانديلا” وينعتونه بأجمل الصفات، وهم أصلا لا يتحركون إلا وفق منظومة كبرى لا يعرفون فيها العقول ولا الأفكار بل يتحركون كجمع يوجه بكلمه أو بإشارة أو حتى بالتحكم عن بعد.
إن ما يحدث من حفلة النفاق العالمية لا تنافق “نيلسون مانديلا” ولا تنافق دولة جنوب أفريقيا فلكل منهما مكانته الضئيلة في الخريطة العالمية، ولكنهم ينافقون شعوبهم وينافقون بعضهم لكي يظهروا بمظهر الحريص على القيم، إنهم ينافقون القيم والمثل في أنفس أفراد شعوبهم، يريدون أن يضعوا بعض المساحيق الكلامية على وجوه أفعالهم القبيحة لتكون رتوشا لتحسين الصورة.
إنه وفي اللحظة التي يسقط فيها هؤلاء المنافقون دموع التماسيح على “مانديلا”، فإنهم يخفون بيدهم الأخرى ومن وراء ظهورهم سكينهم الملوث بدماء الضحايا الأبرياء من أبناء الشعوب..!