علي جمعة وثيوقراطية الاستبداد..
ذ. حماد القباج
هوية بريس – الثلاثاء 17 دجنبر 2013م
الدكتور علي جمعة جزء لا يتجزأ من مشهد الاستبداد الذي يمارسه الانقلابيون في مصر؛ وقد توج دوره في هذا المشهد بتصريح خطير أدلى به أمس في افتتاح المؤتمر العام الأول لـجبهة: (مصر بلدي).
قال علي جمعة: “كل صاحب عمل يخرج عماله إلى الاستفتاء، وكل فرد في الأسرة عليه أن يخرج للاستفتاء ويعلم أن الله يؤيده لأنه يعمر الأرض وأنه ضد الفساد والإلحاد، وضد النفاق والشقاق وسوء الأخلاق، لأن غرضنا الحشد والتغيير”!
وأكد جمعة أنه على الشعب الخروج إلى صناديق الاستفتاء ليرى العالم كله شرقاً وغرباً، من يريد إسالة دماء المصريين ومن هم المصريون، قائلا: “اخرجوا بأنفسكم ونساءكم إلى صناديق الاستفتاء”.
وقال: “إننا نريد حشداً للدستور يبهر العالم ويوقع الرعب فى قلوب الإرهابيين”.
هذا الموقف لا بد منه ليتمكن الانقلابيون الظالمون من استمالة شرائح الشعب المصري التي يغلب عليها العاطفة الدينية؛ هؤلاء كغيرهم يستشعرون عن وعي عميق أو بمجرد الفطرة السليمة؛ أن ما يجري في مصر ظلم واستبداد مخالف للدين والتدين..
فتعين تضليلهم بمثل هذه المواقف التي تذكرنا بالثيوقراطية الأوروبية التي كانت تضفي القدسية على الحاكم وتجعله مفوضا من الله سبحانه!
مما يلزم الشعوب المقهورة بأن تخضع وتسلم إذا أرادت رضا الله أو مغفرته.. أو تأييده!!
ولا أدري ما هو الزعم الذي سيزعمه جمعة عند مشاركته في الحلقة ما قبل الأخيرة من هذا المسلسل الدرامي الذي تمثل مشاهده على أرض الكنانة؛ أعني الحلقة التي ستُنَصّب فيها الإمبريالية الجنرال السيسي رئيساً على مصر ليستكمل أدوار سلفه الطالح من زبانية العسكر..
يغلب على الظن أن علي جمعة سيخرج في هذه الحلقة ليخلع على هذا الحاكم المستبد الأوصاف التي كان يخلعها رهبان السوء على حكامهم، وقد مهد لذلك في افتتاح الأمس بتأكيده على أن مصر بحاجة في المرحلة القادمة إلى رجل قوي!!
..إذا كنا نجد في القرآن الكريم نموذجا واضحا للحاكم المستبد؛ يبين عقليته وسلوكه وطريقة تفكيره ونظرته لمن حوله (فرعون رمسيس الثاني)؛ فإننا نجد فيه أيضاً نموذجا لعالم السوء الذي يبيع دينه بدنياه، ويرضى أن يستبدل مبادئ الحق التي رضيها الله لعباده من عدل ورحمة وفضيلة.. الخ.
بمبادئ الباطل التي يكرهها الله عز وجل ويحرمها في شرائعه كلها؛ وعلى رأسها الظلم عموما والاستبداد السياسي بشكل أخص:
قال الله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175،176].
المشهور عند المفسرين؛ أن المشار إليه في الآيتين عالم من بني إسرائيل، اسمه: بلعم بن باعر[1].
قال مالك بن دينار: “كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مدين يدعوه إلى الله، فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى، عليه السلام”[2].
فهذا عالم بالدين ترك مبادئه والحق الذي يرشده إليه دينه؛ ومال مع إرادة الحاكم المنحرف، طمعا في ما يغدقه عليه من متاع الحياة الدنيا؛ كالأراضي والممتلكات..
قال ابن كثير: “وقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}؛ يقول تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي: لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها، {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} أي: مال إلى زينة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى” اهـ.
إن العالم الذي يتنازل عن الحق والعدل الذي أمرت بهما شرائع الله وتضمنتها آياته التي أنزلها على عباده لهدايتهم للتي هي أقوم؛ الذي ينسلخ منها طمعا في شهوات الهوى وملذات الدنيا أسوأ حالا ممن يفعل ذلك خوفا من بطش الجبابرة..
ولذلك وصف الله هذا العالم بأنه استحوذ عليه الشيطان:
قال ابن كثير: “وقوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي: استحوذ عليه وغلبه على أمره، فمهما أمره امتثل وأطاعه؛ ولهذا قال: {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} أي: من الهالكين الحائرين البائرين” اهـ.
{فَمَثَلُهُ} في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها، {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} أي: لا يزال الكلب لاهثا في كل حال، وهكذا عالم السوء لا يزال حريصا على الدنيا حرصا يقتل قلبه؛ فلا يحق حقا ولا يبطل باطلا[3].
قال الطاهر بن عاشور: “واتباع الهوى: ترجيح ما يحسن لدى النفس من النقائص المحبوبة، على ما يدعو إليه الحق والرشد، فالاتباع مستعار للاختيار والميل، والهوى شاع في المحبة المذمومة الخاسرة عاقبتها.
وقد تفرع على هذه الحالة تمثيله بالكلب اللاهث، لأن اتصافه بالحالة التي صيرته شبيها بحال الكلب اللاهث تفرع على إخلاده إلى الأرض واتباع هواه، فالكلام في قوة أن يقال: ولكنه أخلد إلى الأرض فصار في شقاء وعناد، كمثل الكلب إلخ.”[4].
قلت: وفي هذا المعنى ورد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رئيت بهجته عليه وكان ردء الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله، انسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك“.
قال: قلت: يا نبي الله، أيهما أولى بالشرك: المرمي أو الرامي؟
قال: “بل الرامي“[5].
وعن كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه“[6].
والمعنى أن حرص المرء على المال والجاه؛ أكثر إفسادا لدينه من الإفساد الذي يحدثه ذئبان جائعان في غنم أرسلا عليها.
فالافتتان بالدنيا مهلكة، وقد تصل بصاحبها إلى درجة إنكار المعروف وإقرار المنكر واعتبار الحق باطلا والباطل حقا؛ وإذا انزلق العالم إلى هذا الدرك؛ فسد وأفسد؛ كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:
وهل أفسد الدين إلا الملوك — وأحبار سوء ورهبانها
وهل يمتري عاقل في أن الدور الذي يلعبه علي جمعة ومن على شاكلته؛ من أعظم الإفساد في الأرض؟؟
وهل هناك إفساد أعظم من إضفاء شرعية دينية على جرائم الانقلابيين؛ من قتل وحرق وأسر وإهانة وتعذيب وتخريب لمصر وتمزيق لأهلها؟؟؟
وقد شاهدناه وهو يخطب في العسكر والشرطة؛ ويصف لهم الإخوان المسلمين وأنصار الشرعية؛ بالخوارج والناس النتنة التي لا تستحق “مصريتنا”، وقال للجندي والشرطي: “لا تخف من الناحية الدينية؛ فالله معك والرسول معك، والملائكة معك، والشعب معك.. اضرب في المليان”!!
جميع أصناف النخب من مثقفين وفنانين وسياسيين وإعلاميين..؛ يقبح بها أن تناصر الظلم والاستبداد، وأقبح ذلك في نظري؛ أن يصدر هذا من عالم دين آتاه الله آياته التي تقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)} [النحل:90-93].