إجابة السائل عن حكم صيام المرضع والحامل
عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الله بن كعب قال: “أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغذى، فقال: “ادن فكل“، فقلت: “إني صائم” فقال: “ادن أحدثك عن الصوم أو الصيام؛ إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم ..”. [رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن].
وموطن الشاهد من هذا الحديث الشريف؛ إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى وضع عن الحامل والمرضع الصوم.
والمراد: وضَعَ وجوبَ صوم رمضان؛ أي أسقَطَهُ.
وقوله: “أو المرضع” ؛ هي هنا بمعنى: “و”.
قال في تحفة الأحوذي (ج2/ص252):
“وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْإِفْطَارِ لِلْحَامِلِ وَالْمُرْضِعَةِ إِذَا خَافَتْ الْمُرْضِعَةُ عَلَى الرَّضِيعِ وَالْحَامِلُ عَلَى الْجَنِينِ”.
وهذا القيد -الخوف- قال به كثير من العلماء، واختلفوا في متعلّقه؛ فبعضهم قال: “إذا خافت الحامل على جنينها ..”.
وبعضهم قال: “إذا خافت المرضع على رضيعها..”.
وبعضهم جمع بينهما، وبعضهم زاد: “الخوف على نفسها..”.
ولم يَرِد هذا القيد في نص الحديث حسب علمي، ومن المقرر أن الأصل بقاء المطلق على إطلاقه إلا أن يثبت التقييد بنص، ويؤيد ضرورة استصحاب هذا الأصل هنا؛ أن الحامل قد تتضرر أو يتضرر جنينها دون أن تشعر بالضرر، وكذلك المرضع مع رضيعها..، وقد تظهر آثار الضرر لاحقا، وقد أثبتت ذلك الدراسات الطبية المعمقة، وبينت أن الحامل والمرضع تحتاجان إلى الطعام والشراب، وأنهما معرضتان للضرر والإضرار بولديهما في حالة الإمساك.
ويمكن أن نقول استنادا على هذا: إن الضرر قائم في كل الأحوال، أو على الأقل أغلبها، وهذا يعني دوام وجود الشرط الذي قيد به العلماء الحكم الذي دل عليه الحديث؛ وهو: مشروعية الفطر للحامل والمرضع.
وبالإطلاق قال بعض أهل العلم كما نقله الترمذي في جامعه، وهو ظاهر كلام الشوكاني في النيل.
إذا بان لكِ هذا الحكم أيتها القارئة؛ فاعلمي -وفقك الله- أن الشرع المطهر قد أثبت على الحامل والمرضع واجبا في مقابل ما أسقط عنهما من: وجوبِ الصيامِ أداءً.
وقد اختلف فيه أهل العلم رحمهم الله:
فبعضهم يقول: يجب عليها الصيام قضاءً والفدية، وهو قول الشافعي وأحمد ومالك في رواية.
وبعضهم يقول: يجب عليها القضاء منفردا، وهو قول مالك في رواية.
وبعضهم يقول: يجب عليها الفدية ولا يلزمها القضاء، وهو قول سعيد بن جبير وإسحاق بن راهويه.
والظاهر؛ رجحان القول الأخير؛ لوجهين؛ أحدهما أثري والآخر نظري:
أما الأثري: فلأنه قول الصحابة رضي الله عنهم، وعلى رأسهم: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهو من تفسيره لقول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعَامِ مساكِين}.
عن سعيد بن جبير أن ابن عباس قال لأمِّ ولدٍ له حبلى أو مرضع: “أنت من الذين لا يطيقون الصيام؛ عليك الجزاء وليس عليك القضاء”. [رواه الدارقطني في سننه (ج6/ص152) وقال: إسناده صحيح].
فجعل للمرضع والحامل حكم من يجد مشقة في الصيام؛ كالشيخ الكبير والمرأة العجوز:
قال ابن عباس في قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعَامِ مساكِين}، قال: “ليست بمنسوخة؛ هو الشيخ الكبير الهرم، والعجوز الكبيرة الهرمة، يطعمون لكل يوم مسكيناً ولا يقضون”. [رواه البيهقي].
والذين قالوا بوجوب القضاء جعلوهما داخلتين في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فلهما حكم المريض.
والأول أظهر؛ إذ لا يخفى أن تأويل ابن عباس وفقهه في كتاب الله؛ ركن متين ومورد أمين، لما يحيط به من بركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يرجَّح به في حال تعارض أقوال الصحابة في التأويل، فكيف يكون الأمر إذا لم يعلم له مخالف؟
بل ثبت عن ابن عمر مثل قول ابن عباس:
أخرج الدارقطني عن نافع قال: أرسلت إحدى بنات ابن عمر إلى ابن عمر تسأله عن صوم رمضان وهي حامل؟ قال: “تفطر وتطعم كل يوم مسكيناً”.
وروى أيضا من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر: أن امرأته سألته وهي حبلى؟ فقال: “أفطري وأطعمي عن كل يوم مسكينا ولا تقضي”.
وهذان أثران ثابتان عن ابن عمر كما هو مبين في إرواء الغليل (ج4/ص20).
قال ابن قدامة: “وقال ابن عمر وابن عباس: لا قضاء عليهما؛ لأن الآية تناولتهما، وليس فيها إلا الإطعام، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم“. [المغني (ج6/ص137)].
أي: فيشمل عمومه صوم الأداء وصوم القضاء، والمراد بقوله: “الآية”؛ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعَامِ مساكِين}.
أما الوجه النظري: فهو أن هذا القول أرفق بالحامل والمرضع:
وقد بني هذا الحكم (إسقاط الصوم عنهما) على مقصد الرفق بهما ورفع الحرج عنهما، وظاهر أن إيجاب القضاء عليهما فيه مشقة كبيرة؛ إذ يستغرق القضاء في الغالب شهرا كاملا، يكون داخلا في مدة الحمل أو الرضاع، وفي صيامه قضاءً من المشقة ما يسقط كثير منه في حال الصيام أداءً.
أضف إلى هذا أن المرأة قد تكون حاملا في رمضان، ومرضعة في الذي يليه، فتتضاعف عليها المشقة إذا أوجبنا عليها قضاء شهرين كاملين. والله أعلم.
.. إذا ظهر لنا رجحان القول الثالث فيما يجب على الحامل والمرضع المفطرتين، وأنهما في الحكم كالشيخ الكبير والمرأة العجوز: تجب عليهما الفدية دون القضاء؛ فإنه يشرع لهما في الفدية ما كان يفعله الصحابي الجليل أنس رضي الله عنه لما كبر وعجز عن الصيام:
أخرج الدارقطني والبيهقي وغيرهما بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه ضعف عن الصوم عاماً قبل موته، فصنع جفنة من ثريد، فدعا ثلاثين مسكيناً فأطعمهم”.
ولا يتعين الثريد، بل تجزئ الفدية بغيره من الطعام.
والله تعالى أعلم.