بين مسيرة الإصلاح وإصلاح المسيرة!!
الحبيب عكي
هوية بريس – الخميس 02 يناير 2014م
لا شك أن بلدنا يشهد بدوره مسيرة إصلاحية تحديثية حقيقية وواعدة ملؤها أوراش تنموية في مختلف المجالات لا يمكن للمنصف إلا أن يثق فيها ويشجعها ويدعو للقائمين عليها مسؤولين وأفرادا وهيئات بالتوفيق والسداد ومزيد من الانجاز.
ولكن من جهة أخرى مجرد نظرة إلى الأمور وكيف تنجز على أرض الواقع من الاستهتار والبطء الشديد إلى اللاعدل بين الجهات والفئات أو الفساد الذي يكون ضد التيار الإنمائي والإصلاحي لا يمكن للمرء إلا أن يصاب بالخيبة والإحباط ويمتح من قاموس أجيال اليوم الغاضبة على الأمور الساخطة على الأوضاع ويصرخ بدوره بضرورة إصلاح الإصلاح وترقيع الترقيع ومقاومة المقاومة واستعجال الاستعجال…، وفي كل ذلك رسائل تنبيهية قوية إلى كل من يهمه الأمر على عمق الأزمة وعبثية التغيير الذي يتمرغ مع الأسف في وحل حلول ترقيعية وإنجازات متجاوزة، لا تعمل إلا على كبر الحاجيات وتفاقم الأزمات مما يجعل الوقت مريضا والزمن مهلك والأزمة جلاجل؟؟
ذلك حال مسيرتنا الإصلاحية في منظومتنا التعليمية التي لا يختلف الناس بتاتا في أنها في تراجع مستمر معرفة وتربية إدارة تنظيمية وقيما أخلاقية حرصا واهتماما بالموضوع حتى..، كما لا يختلف الناس أيضا في أن هناك جهود إصلاحية جبارة تبذل في القطاع على الدوام خاصة كلما صفعت الساحة التربوية بتقرير أممي أو خطاب رسمي يصفها بالتناقضات الصارخة والفشل الدر يع ويرتبها على عكس ادعاءاتها في المراتب الأخيرة بين الأمم حتى التي تدرس في الهواء الطلق وتجلس تلاميذها على الأرض لا على الحصير ولا في القاعات وعلى الطاولات؟؟
تلك حال مؤسسة تعليمية اسمها “المسيرة”، وما أكثر المسيرات عبر التراب الوطني، منها القديم ومنها الحديث، منها القروي والحضري، ومنها الابتدائي والإعدادي والثانوي الخصوصي والعمومي..، وكلها تتأمل بنصر المسيرة وعبقريتها وطفرة ما بعدها من إنجازات عمرانية وتنمية بشرية وتربوية وصلت اليوم حد التخطيط لمدن جامعية ومنتجعات سياحية وضيعات فلاحية كبرى وجهوية ديمقراطية تشاركية متقدمة في أقاليمنا الصحراوية كغيرها من الأقاليم. لكن مع الأسف شتان شتان ما بين مسيرة الإصلاح وإصلاح المسيرة الذي لا أراه إلا اتخذ طريقا سيارا في الاتجاه المعاكس وبأقصى سرعة ممكنة نحو الهاوية وإليكم بعض التفاصيل وفي التفاصيل يكمن الفساد:
1- المسيرة فضاء تربوي غير مناسب، إذ كانت في البداية مجرد مدرسة ابتدائية وبقدرة قادر تحولت قسرا إلى مؤسسة إعدادية يرافقها النقص الدائم في الفضاءات، محيط تربوي في قلب المدينة يشجع على كل شيء إلا التربية والتربية السليمة، فضاء إداري غير مناسب، ملاعب اسمية ليس إلا، غياب مكتبة وقاعة العروض والمطالعة، بل وحتى قاعة الأساتذة الرسمية وفضاء المسجد والأنشطة الموازية…، مسيرة بين بين، ليس بين البئر القديم والبئر الجديد الذي يدعي كل منهما ملكيته عليها بل بين متطلبات التربية الحقيقية وتدبير الأزمات والإكراهات المفتعلة والدائمة، ليطرح السؤال أين هي “المسيرة” من معايير إنشاء المؤسسات التعليمية ببلادنا، مكانا مناسبا وبنية تحتية لازمة وفضاءات تربوية كافية تضمن المردودية التي أنشأت من أجلها ولا شيء غيرها؟؟
2- “المسيرة” مؤسسة تعليمة لا بنية تربوية لها، وكل شيء فيها متغير لا بدوافع تربوية كما ينبغي طبعا بل مع الأسف وكما يبدو استجابة لأمزجة مسؤولين عاجزين وهم يدعون أنهم يدبرون الأزمة ويستجيبون للإكراهات التي تتوالد كل عام، وبالتالي فكل شي لديهم على الدوام متغير المدراء والأساتذة والقاعات والأدوات وعدد التلاميذ رغم أن روافد المؤسسة ظلت دائما هي نفس الروافد، “لكن كل عام وزهرو”، والغريب أن هذا التغيير الارتجالي يكون دائما نحو التردي ومزيد من سوء ظروف العمل كتشريد الأساتذة وتفجير استقرارهم والاكتظاظ من أقسام الثلاثين تلميذا إلى أقسام الأربعين وما يرافقه من ظواهر لا تربوية وسوء المردودية وغير ذلك مما يشكو منه الجميع دون طائل؟؟ والغريب أن يقال ويتعهد بأن البنية الجديدة إنما هي مؤقتة لتجاوز الأزمة وخصاص في الأساتذة أو القاعات عجزت كل المصالح والبروقراطيات عن توفيرها، ليتنصل الكل بعد ذلك من وعده وتصبح البنية المؤقتة رسمية رغم أنها غير مناسبة ولكنها المراوغة وضدا على كل القوانين التنظيمية والمذكرات الوزارية كمذكرة التفويج (43) مثلا، وهكذا إصلاح البعض أن يفسدوا المؤسسة النموذجية لتصبح غير نموذجية بدل أن يصلحوا المؤسسات غير النموذجية لتصبح نموذجية؟؟
3- “المسيرة” مؤسسة التدبير اللاتشاركي فرغم السير الجماعي التي تتوفر عليه فهي مؤسسة تتحكم فيها النيابة والمصالح والتدخلات ضدا على مجالسها التدبيرية والتربوية ليبقى الحسم في الأمور الحاسمة للتدخلات والإرغامات وتبقى مجالس المؤسسة صورية ومناسباتية وتزيين التقارير بتوقيعات الأساتذة ليس إلا، فلا مجلس التدبير يقرر في شيء ولا توصيات الأساتذة يؤخذ بها في أمر ولا مطالب المجالس التعليمية يتحقق منها شيء، وإلا فأي من هذه المجالس المحترمة يقبل الانخراط في المسرحية الهزيلة التي أخرجتها المصالح النيابية تحت عناوينها المكشوفة التي تسميها كالعادة خصاصا وإعادة انتشار وحصصا كاملة وتكليفات ملزمة وما يرافقها من الفبركة المغلفة بالشقافية والتهديد والهياج واللجن الإجرامية التي لا تفتأ تتشوق لقطع الأرزاق ووضع سكاكين تفتيشها وتواطئها على الأعناق حتى ينقل من ينقل قسرا ويصمت عمن يصمت دهرا بعد هدوء الزوبعة؟؟ إنها شفافيتنا المعهودة في كل شيء، إدارة تنمحي فيها الأبواب الحديدية والجدران المعتمة ويزينها الزجاج الشفاف والحواسيب المبرمجة ولا يمنع ذلك الشيكات والملفات أن تمر عبر الاتصالات والوساطات وتنبت فجأة أمام الموظفات اللواتي لا يملكن بدورهن إلا قضاءها وإعطاءها الأسبقية دون وجه حق، وليصرخ المصطفون في وجه المؤسسات ما صرخوا فـ”الشفافية” خربت برمجة الحواسيب وكشفت ملائكية الموظفات. ليبقى السؤال أين منظومتنا التربوية من الجو النفسي والاجتماعي للعاملين؟؟ كتب أحد الأساتذة على حائطه في الفايس بوك آخر هذه الدورة الأولى: “الحمد لله ها قد انتهت السنة الدراسية… بحصة كاملة من 24 ساعة وأقسام مكتظة فوق الأربعين… ولازلت بكامل قواي العقلية والنفسية… فلا تحزنوا علينا أيها المسهولون إن لدينا من الصبر والجلد فوق ما تتصورون”؟؟
4-“المسيرة” مؤسسة بدون مشروع، وتلك هي الطامة الكبرى ومشكلة المشاكل، المسيرة كغيرها مؤسسة تعليمية نعم، لكن بأية رؤية وبأية رسالة وبأية برامج تربوية مميزة، لا أدري؟؟ يلجها التلاميذ ويخرجون منها وقد نجح منهم من نجح وسقط من سقط وطرد من طرد ولكن بأي اعتبار وبأية مردودية ولأية ظرفية مستقبلية، بأية مواهب تلمذية محتضنة وطاقات أستاذية مجددة، بأية مشاريع مؤسساتية وشخصية ولآي أفق محلي أو وطني…؟؟ لا مشروع للمؤسسة إلا ما كان مشروع تجزية الزمن المدرسي وأداء الواجب الوظيفي وربما تحقيق بعض الامتيازات الشخصية المشروعة كالتخلص من القسم إلى الحراسة وغيرها أو الظفر بالسكن الوظيفي إن كان موجودا وشاغرا وقل ما يكون، لتبقى الأحلام مشروعة ولا يحققها إلا الأوهام، أوهام الأمل والعمل والترقية والاستقرار ولو بالهرولة والانبطاح وتلك أول خطوات السقوط،أن نجعل وظيفتنا مجرد أكل عيش لا روح ولا مبادرة فيها إلا الاستعداد لعمل أي شيء حتى لو كان الاعتداء على حق الآخرين من الزملاء، أليس ذلك روح بعض المذكرات التي نطبقها في حقنا وحقهم؟؟
5- وأخيرا قد تفجرت الساحة التربوية الوطنية عن موضوع أساسي في التعليم ألا وهو السجال الدائر عن لغة التدريس وتدريس اللغة بين الدارجة والفصحى، ومع الأسف فمؤسستنا كغيرها من المؤسسات قد قررت دون حتى أن تشارك في النقاش أو تكلف نفسها انتظار تبلور إجماع وطني ما في الموضوع يراعي الأسس التربوية ومصلحة الناشئة، بل كعادتها كان الاعتبار المادي والتسويقي الصرف هو الحاسم بدل الاعتبار التربوي والهوياتي الحضاري؟؟ ولن تتأهل مؤسستنا التربوية الخصوصية والعمومية على السواء ما دام الاعتبار المادي الصرف هو الحاسم في كل شيء، فمن أجله نمنع الاكتظاظ في الخصوصي وبسببه نغض الطرف عنه في العمومي، ومن أجله نهتم باللغات في الخصوصي وبسببه نهملها في العمومي حتى أن الطالب قد يتم مراحله التعليمية كلها دون أن يتقن أية لغة حتى اللغة العربية الأم، من أجله نوفر أجود الأساتذة في الخصوصي وبسببه نعجز عن ذلك في العمومي ونسجل نقصا لا يمكن دوران العجلة وسلامة العملية معه، ومن أجله نسعى لتوفير تعليم بمعايير الجودة في الخصوصي في حين لا نعدو أن نقوم بمحو الأمية أو أقل في التعليم العمومي، وكما يقال من استكثر الكلفة المادية على التعليم وحاجياته فليجرب الأمية والجهل وتخلفه ومهالكه، فهل نعيد للغتنا دارجة كانت أو فصحى شيء من المعنى قبل الرسم والمبنى حتى يكون للمؤسسة التربوية والتدبير الإداري وقيم التعاقد والتربية والتعليم والتشارك والنجاح… معناه الحقيقي ولشطحات وطرهات محو الأمية والتجهيل وتسليم مفاتيح المدرسة للشارع البهيم والإعلام المفلس وتجزية الزمن المدرسي دون حسيب ولا رقيب في الهدر والعبث والفشل… خوفه الحقيقي، هل نعيد للغتنا شيء من المعنى قبل الرسم والمبنى، وهل نعيد لمؤسستنا شيء من المعايير والمعالم التربوية اللازمة؟؟