رحيل مؤرخ مقتدر.. صديقنا الكبير عبد الكريم الفيلالي
د. محمد وراضي
هوية بريس – الخميس 02 يناير 2014م
بتاريخ 4 يوليوز من عام 1981م. أي منذ ثلاثة عقود ونيف، كنت ضيفا على المؤرخ النابغة صديقي الوقور: عبد الكريم الفيلالي. وأذكر أن الحوار الذي دار بيننا لأول مرة، كان حول الدين والسياسة والاجتماع. وأنه أخذ منا أزيد من أربع ساعات.
ولا أتردد في الإشارة إلى أن الخلاف بيني وبينه حول التصوف الطرقي وحول القبورية أدرك أوجه. خاصة مع التركيز على التجانية التي نبهني إلى أنها غاية في السوء. وقد كنت حينها تجانيا مرتديا لباس التعصب الأعمى الذي لم يترك لي متنفسا لسماع صوت خصوم شيخي وقدوتي الذي سوف يبدو لي لاحقا بأنني أخلصت له أكثر من إخلاصي لله ولرسوله!!!
فقد أرشدني رحمه الله إلى كتاب “الترجمانة الكبرى” لأبي القاسم الزياني الذي قام بتحقيقه عام 1969م. والذي كشف فيه مؤلفه عن الهوية الحقيقية للتجاني الذي فر من وجه الأتراك الذين اتهموه في بلده الجزائر بتدليس السكة! وكان تظاهره بالصلاح غطاء لجريمته تلك.
ولم أكن حينها قد ارتحت إلى ضرورة النفور الفوري من التجاني لغاية ما أسبر غور طريقته، فكان أن مدني أخي وأستاذي محمد العثماني السوسي رحمه الله بما أنار سبيلي في البحث عن التصوف عامة. فاكتملت عندي صورة ما عليه الطرقيون من الضلال..
فعدت إلى صديقي الراحل عبد الكريم الفيلالي رحمه الله بقراءة أخرى للتجانية غير تلك التي كانت لي لها مطلع الثمانينيات من القرن الميلادي الذي ولى.. فكتفت زياراتي له.. وكنت حريصا على تحديد الموضوعات التي أرغب في مناقشتها معه..
ولاحظت رغبته في التركيز على التاريخ السياسي بالمغرب العربي المعاصر، وأطلعني تقريبا على المباحث التي سوف يدور حولها مؤلفه، وكان يقدم لي أجوبة على مختلف الأسئلة التي أطرحها عليه، ثم إنه مكنني من أسرار لم يتضمنها مؤلفه القيم لخطورتها، ولم يخف عني وضعه المادي والعائلي، وأخبرني ذات مرة بأن كتابه قد اكتمل، وأنه يستعد لطبعه، وأن كل الجهات المغربية التي سمحت له نفسه الأبية بطرق أبوابها، تتجنب المغامرة في الإقدام على طبعه كما قال، نفس ما حصل له كذلك مع دور الطباعة خارج بلده -للأسف الشديد-.
وكانت لديه ضيعة بضواحي مكناس فعرضها للبيع، عساه يدفع ثمنها مقابل طبع كتابه في مصر، وكان أن سافرت معه أنا ومحام صديق لي لمشاهدة تلك الضيعة التي لديه مشكل بخصوص بيعها يستدعي بعض الوقت؛ وبعد التغلب على المشكل الذي هو بمثابة عائق مؤقت. تم له بيع ما أراد بيعه ليدخل في مشكل آخر هو تأخر المشتري عن دفع مبلغ الصفقة بكامله، فاضطر رحمه الله إلى بيع بعض من أرض مسكنه بدار قاسم خارج الرباط، ليتسنى له طبع الكتاب الذي لم يخرج لجمهور القراء إلا بعد معاناة لا أرقى إلى مستوى تقديم صورة حقيقية عنها. لأن الأمر لا يتعلق بظاهر ما رويته دون غيره، وإنما يتعلق بالجانب النفسي للرجل المتقدم في السن، والذي كان يعاني من بعض الأمراض التي لم أكن أتجرأ على الخوض معه فيها. والكلام عن الرجل رحمه الله يستدعي مؤلفا لا مجرد صفحة أو حتى صفحات.
وذات مساء وأنا أتصفح كتابا عن أبي الطيب المتنبي، وقفت على مرثيته لخولة شقيقة سيف الدولة الحمداني التي يقول في مطلعها:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر — فـزعـت فـيه بآمالـي إلـى الـكـذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أمــلا — شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وبعد أقل من خمس دقائق، كان هاتفي المحمول يرن، ولم يكن من هاتفني غير رجل فاضل جمعته هو وبعض من أصدقائه في لقاء تاريخي بالراحل طيب الله تراه. فقد وضعني أمام الفاجعة التي ألمت بأسرته الصغيرة قبل أسرته الكبيرة التي تتألف من علماء وأطباء، وصيادلة، ومفكرين، ومثقفين من ذوي ميولات مختلفة، فقد عرف الرجل بكونه واحدا ممن ساهموا في الإسراع باستقلال المغرب. كان يتابع دراسته بالقاهرة، وكانت له مساهمة فعالة في التعريف ببلده، وبتصحيح أخطاء فادحة فيما يتصل به صدرت عن بعض المصريين، وكانت له فرص مقابلة جمال عبد الناصر لمرات عدة. وكان يدعوه غالبا بـ”الفولالي” بالشدة على اللام بعد الواو.
كما أنه قابل زعماء مغاربة وجزائريين وتونسيين مرموقين في قلب أرض الكنانة، وفي مقدمة من قابلهم من المغاربة محمد علال الفاسي الذي لم يكن يقاسمه الرأي في العديد من القضايا، بل ذهب بعيدا في انتقاد عائلة آل الفاسي في كتاب قيم أهداه إلي من أول زيارة لي له، إنه كتاب “التاريخ المفترى عليه بالمغرب”.
ولا ننسى الإشارة إلى أنه أول مرشح مستقل للبرلمان الأول عام 1962م. وأنه نجح كممثل لمن فضلوه على أي مرشح متحزب في دائرة انتخابه. كما لا ننسى سجالاته مع السياسيين الذين يقرأ في خطاباتهم وطروحاتهم المكر والخداع. فهو الذي أحدث المقولة السائرة: “من أين لك هذا؟” في مطالبته الواضحة بمتابعة الانتهازيين والانتفاعيين الذين أصبحوا في ظل الاستقلال، وفي وقت وجيز أثرياء تقدر ثرواتهم حينها بالملايين قبل أن تقدر بعد حين من ذلك التاريخ بالملايير! كما أننا لا ننسى احترامه للراحل المهدي بنبركة رحمة الله عليه، فكثيرا ما امتدحه أمامي متى جرنا الحديث إلى الكلام عن ظروف وعن ملابسات اغتياله خارج المغرب. كما لا ننسى دوره الذي لم يعرفه الكثيرون في تأسيس المعهد الإسلامي بمدينة تارودانت، فقد حضر من لا أريد ذكر أسمائهم إلى الرباط لمقابلة محمد الخامس في موضوع تأسيسه، لكنهم وجدوا صعوبات في تحقيق ما حضروا من أجله، فتدخل للتغلب على تلك الصعوبات وهو حينئذ مسؤول عن ملفات خاصة في قلب القصر الملكي، فاستقبلهم الملك بكل حفاوة، ولم يكن منه طيب الله ثراه، غير تقديم مساعدة مالية بقيمة مليوني سنتيم في ذلك الوقت، كما لا ننسى رفضه لتأسيس حزب سياسي بعد أن عرضت عليه الفكرة مع مبلغ مالي هو بالتحديد 400 مليون سنتيم، لكنه رفض الفكرة بإباء وشمم، كما أنني لا أنسى تشميره عن ساعديه لخدمة الأرض في بلده. حيث يعمل جنبا إلى جنب مع من يشتغلون معه لأجل إصلاحها وزرعها وجني بعض ثمارها التي هي بمثابة مصدر معاش له، وهو الذي لم يتول أي منصب حكومي بعد المسؤولية التي أسندها إليه محمد الخامس كما قلنا داخل القصر، لأنه موضوع ثقته التي لا تتزعزع.
ولا بد هنا من التذكير بأن للراحل تراثا تاريخيا وسياسيا وعلميا لم ينشر بعد، أو منع من النشر قيد حياته. فمن بين تراثه الذي لم ينشر عشرون كتابا نذكر منها أربعة:
1- “عبرات على وطني“: مجموع مقالات نشرت بين عام 58-59 تحت عنوان: “التوجيه في النقد الاجتماعي”. والفترة التي تؤرخ لها عبراته تحمل بين طياتها ألوانا قاتمة من الصراع السياسي والاقتصادي، الذي أسفر عن وضع مغاير للذي استقبلت فيه الجماهير المغربية رحيل الاستعمار بإقامة أفراح لم يشهد لها المغرب نظيرا عبر تاريخه المعاصر المديد! وكأنه رحمه الله يتوقع تطور الفكر الظلامي العلماني تطورا أدرك الآن أوجه في بلدان عربية كما هو حاله بتونس وليبيا وسوريا ومصر التي تبنى علماجيوها بعد الثورة العارمة إخضاع شعبها لقوة الحديد والنار! كاستمرار للعلمجة العمياء التي تبناها قادة انقلاب عام 1952م! وفي مقدمتهم جمال عبد الناصر.
2- “الشيطان الأعرج” = (رواية اجتماعية).
3- “الطبقة الجديدة في المغرب“.
4- “الدعوة إلى البربرية (= الأمازيغية) واجب وطني“.
أما المؤلفات التي تمت مصادرتها، والتي لم يتمكن المغاربة من الاطلاع على مضامينها، فنذكر من بينها ثلاثة:
1- “الإسلام أعلى مراحل الديمقراطية“.
2- “مستقبل الديمقراطية في المغرب“. وقد امتد به العمر رحمه الله حتى شهد مظاهر سيئة من تلك الديمقراطية التي لم يكن ليتنبأ بكونها سوف تولد مكتملة الخلقة! وإنما ولدت، ولا تزال تولد مشوهة غير واضحة القسمات أو المعالم!
3- “تطور الفكر المغربي“.
وليس هذا كل ما عرف عن الرجل وكل ما عرفنا نحن عنه وله. فها هو قد رحل، وها هي مقلنا تذرف دموعا صادقة لغيابه المفروض دينيا وطبيعيا علينا، ولما التفتنا صوب المواقع الرسمية والمواقع الشعبية، لم نجد إلا قلة قليلة ممن بكاه واستبكى من حوله داخل دوائر ضيقة، وعهدنا بالرجال العظام أن يكرموا على الصعيد الوطني ليعرف الكل مكانتهم كمساهمين في البناء، لكن ما العمل، يموت أحد ممن لا يحظون بأي احترام لدى الأمة. ولا يرقى إلى مكانة السادة الكرماء الفضلاء، صناع المجد والسؤدد للشعوب. فتقام لموتهم الدنيا وتقعد! وكل أملي أن تأتي لفتة من رجال الفكر والقلم لتكريم، ولتخليد ذكراه، ولاستعراض دوره في التعريف بواقع المغرب المعاصر على عهده بالحياة وحتى بعد وفاته. ولم لا يتم تكريمه بإحداث شارع في إحدى المدن المغربية يحمل اسمه رحمه الله؟
ثم لم لا يتم إحداث جمعية ثقافية فكرية تحمل اسم: “أصدقاء المؤرخ الراحل: عبد الكريم الفيلالي”!!!
www.islamthinking.blog.com