محاكمة «لشكر» قبل أبي النعيم
ذ. نبيل غزال
هوية بريس – السبت 04 يناير 2014م
في بعض الأحيان يجد المرء نفسه مجبرا على الخوض في بعض النقاشات العمومية، على اعتبار أن الهدف من وراء إثارتها معلوم من جهة؛ ومن جهة أخرى -وهي الأهم- فهو مضطر للدفاع عن عقيدته وشريعته؛ والوقوف في وجه أصحاب الشبهات والشهوات؛ ومن يريد من الناس أن يميلوا ميلا عظيما.
ومن جملة هذه النقاشات التي نتحدث عنها اليوم ما آثاره بعض السياسيين الطامحين للوصول إلى السلطة بأي طريقة كانت؛ وبالذات ما طالب به “إدريس لشكر”، الذي تسلل إلى منصب أمين عام لحزب الوردة في ظروف غامضة أحدثت تقاطبا حادا وشرخا بيِّـنا في صف الرفاق.
فقد جدد لشكر أغلب مطالب اللادينيين، وتجاهل كل المكتسبات، وأدار ظهره للدستور الذي ينص في فصله الثالث أن: “الإسلام دين الدولة”، ولم يعبأ إطلاقا بفصله السابع الذي يؤكد أن الأحزاب السياسية “لا يجوز أن يكون هدفها المساس بالدين الإسلامي”.
وهذا ليس أمرا مستغربا من شخص مثله؛ على اعتبار أن ابن الخلية الأولى للتنظيم -كما يدعي لشكر– ومباشرة بعد تقلده منصب الأمين العام؛ طالب بـ«ضرورة فتح جبهة ثقافية ضد التيار المحافظ من خلال إشراك كل المثقفين والشباب والنساء وجميع الهيئات التي تشترك مع الاتحاد في ذات المرجعية»؛ وشدد على وجوب «تحيين المشروع الاشتراكي الديمقراطي، ثم الإصلاح الدستوري وفق التصور العقلاني التنويري وليس الإسلامي الظلامي الذي يعيد طقوس السلف الصالح».
وكان متوقعا جدا أن يكون لتصريحات “لشكر” الأخيرة ما بعدها، وهذا ما وقع فعلا، حيث استنكر الشيخ أبو النعيم تطاول لشكر على أحكام الدين، وأعرب بحرية عن رأي يتبناه، وبين موقفه من حزب الاتحاد الاشتراكي والمرجعية التي يصدر عنها، فانبرت “قوى الحداثة”!! لتعبر عن تقدميتها، وعزفت سمفونيتها التي باتت محفوظة عن ظهر قلب، وجيشت كتيبتها الإعلامية وعلى رأسها القناة الثانية -التي أصبحت ممثلا رسميا لحزب اللائكيين في المغرب وناطقهم الرسمي- لتندد بدعاوى التكفير؛ والتحريض على العنف والكراهية؛ والمطالبة الفورية بمحاكمة الشيخ أبي النعيم.
إلا أنه وقبل المطالبة بالمحاكمة والوصول إلى القضاء؛ يجب الوقوف بتعقل وتروّ بعيدا عن أي تشنج أو تشويش إعلامي مع سبب رَدَّة الفعل التي قام بها أبو النعيم، والرأي الشخصي الذي عبر عنه، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه في الأحكام التي صدرت عنه، لأن الشيخ لم يتحدث من فراغ وإنما بناء على تصريحات مستفزة وخطيرة جدا أدلى بها الأمين العام لحزب الوردة البنفسجية في افتتاح المؤتمر السابع للنساء الاتحاديات بمسرح محمد الخامس بالرباط (20-21-22 دجنبر 2013)، طالب من خلالها بتعديل قاعدة المساواة التامة بين الرجال والنساء، وبمنع تعدد الزوجات، وتجريم تزويج القاصرات التي تجد -وفق مرجعيته الظلامية واطلاعه المحدود- مرتعها تحت مظلة فتاوى الظلام والقراءات الشاذة لتعاليم الدين، كما طالب أيضا بإعادة النظر في قضيتي الإرث والإجهاض، وبضرورة ملاءمة الإطارات القانونية الوطنية مع مضمون الاتفاقيات والمواثيق الدولية.
وفي اجتماع شبه تام للنادي اللائكي في مسرح محمد الخامس، وبحضور سعيد السعدي، عضو اللجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية (الحزب الشيوعي المغربي سابقا)، وصاحب “الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”، والعلماني المتطرف أحمد عصيد، الذي وصف رسائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالإرهابية، وفوزية العسولي التي طالبت بتغيير حكم الله تعالى في الإرث، ومحمد سبيلا.. وغيرهم من الذين “كرموا” بالمناسبة، باعتبارهم “مدافعين عن قيم الحداثة والحرية والديمقراطية”!!؛ في هذا الجمع شددت خديجة القرياني الكاتبة العامة للنساء الاتحاديات أنه «علينا أن نرنوا إلى المستقبل مكسرين أغلال فكر ماضوي أصولي يبحث عن تبريرات واهية للنكوص والارتداد عن الحداثة.. وأنه لا بد من تسجيل التهديد والانتكاسة التي تطال حقوق المرأة بسبب قرصنة الاتجاه الأصولي لانتفاضات الربيع» (انظر نص مداخلتها ومداخلة لشكر في المؤتمر بجريدة الاتحاد الاشتراكي عدد: 23 دجنبر 2013).
وهي تصريحات ومطالب تنُمّ عن فشل سياسي ذريع، وعقلية ماضوية متخشبة؛ عجزت لعقود عن عرض بضاعتها المغشوشة الكاسدة؛ ولا زالت إلى اليوم لم تستيقظ من سباتها الأيديولوجي؛ وترسف في أغلال منظومة يسارية بائدة ولى زمانها وثبت فشلها.
فلئن كان جل المتتبعين لهذه القضية يوقنون أن الحزب الاشتراكي بقيادته الجديدة يصر على الخوض في حرب الهوية والدين للتعويض عن فشله السياسي الكبير، وعجزه عن تقديم برنامج حزبي متكامل، يجلي من خلاله رؤيته للإصلاح والنهوض الاقتصادي والتنموي وتقديم حلول عملية للعديد من المشاكل العالقة؛ إلا أنه ورغم ذلك فتصريحات لشكر ورفيقته في الدرب، خطيرة جدا؛ ومن شأنها أن توقظ فتنة نائمة، وما كان للشيخ أبي النعيم أن يخوض هذا النقاش ويدلي بأي تصريح لو أن المؤسسة الموكول لها الحفاظ على الشأن الديني، والسهر على حماية الأمن الروحي للمؤمنين والمؤمنات قامت بدورها، وتحملت مسؤوليتها -فعلا- في الدفاع عن الدين، ودفع كل صائل تسول له نفسه الطعن في أحكامه والاستهزاء بشرائعه.
وفي ظل الإخلال بهذه المسؤولية العظيمة، يبقى واجب الدفاع عن الدين منصبا على الجماعات الإسلامية وبعض العلماء والدعاة الغيورين داخل المؤسسة الدينية وخارجها، الذين يتصدون لهجمات العلمانيين المتتالية.
هذا التصدي الذي يقابل دوما بحملات تشويه واسعة وتزييف للرأي العام، تجعل الجاني هو الضحية، والضحية هو “المجرم المتطرف الأصولي”..!! والسيناريو الذي عشناه من قبل من خلال قضية الدكتور محمد المغراوي، والشيخ عبد الله نهاري، والدكتور رضوان بنشقرون، خطيب مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، وغيرهم تعاد أحداثها اليوم مع الشيخ عبد الحميد أبي النعيم.
فلماذا يغضب العلمانيون وتثور حفيظة مدعي الحداثة حين يواجههم بعض العلماء والدعاة ويستنكرون تهجمهم على الدين وتنقصهم لأحكامه؟!
لماذا يكثرون الشكوى ويولولون ويشجبون؛ وهم يدركون جيدا أن هناك مرجعيتان تتنازعان في هذا البلد؛ مرجعية يتبناها السواد الأعظم من المغاربة؛ تستمد قوتها وتضمن استمراريتها من خلال نصوص الوحي والتاريخ والهوية الإسلامية؛ ومرجعية يمثل المنتسبون إليها أقلية لكن صوتها عال جدا؛ بفعل الدعم الخارجي وسيطرتها وتحكمها في مؤسسات مؤثرة ونافذة أهمها الإعلام؟!
لماذا يغضبون حين يستنكر عليهم العلماء والدعاة طعنهم في المقدس واعتبارهم أن “كل العقائد والأديان والغيبيات من صنع البشر؛ وأنها مجرد تخيلات أوجدها الفاعلون الاجتماعيون”؟!
لماذا يمثلون دور الضحية ويرتدون جلد الضأن، وهم البغاة الذين يمارسون جهاد الطلب اللاديني داخل بلد سني مسلم؟!
لماذا يغضبون ويدّعون أن الأصوليين يمارسون ضدهم التطرف والإرهاب؛ وهم يضطهدون الآخر صباح مساء؛ ويكممون الأفواه ويمارسون الإقصاء؟!
لماذا يصرون على الاستمرار في عرض فصول مسرحية سخيفة؛ والتظاهر بأنهم فئة مستضعفة مضطهدة؛ وهم يحظون بدعم كبير في الداخل والخارج؛ وإذا مس جناب أحد رموزهم تحرك البيت الأبيض والاتحاد الأوربي لإعادة الوضع إلى سابق أمره (مثال: علي أنوزلا، وباسم يوسف)؟
لماذا يخافون من تهمة التكفير الإسلامي وهم يرمون بالتكفير الحداثي كل من يخالفهم؛ ويطالبون بتنفيذ الحد الحداثي وتطبيق قانون الإرهاب بحق كل من يعارضهم ويرفض دغمائيتهم العقائدية وطوبويتهم الملأى بالمشكلات الوهمية التي يثيرونها؟!
إنه لا يوجد دين على وجه الأرض ولا عقيدة ولا أيديولوجية ليس لها أركان وشروط ونواقض، فمن يؤمن بالغيب واليوم الآخر والملائكة والجن… فهو ليس قطعا حداثيا، ومن لا يؤمن بسيادة الشعب والحريات بمفهومها العلماني فليس ديمقراطيا، ومن لم يناصب العداء للطبقية والبرجوازية فليس اشتراكيا، ومن لم يؤمن أن عيسى ابن الله -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- فليس نصرانيا وهو كافر مخلد في النار عندهم، ومن لم يؤمن أن اليهود شعب الله المختار فليس يهوديا وهو كافر ومخلد أيضا في النار عندهم، فلماذا يريدون من الإسلام وحده ألا تكون له نواقض؟
فقبل المطالبة بمحاكمة الشيخ أبي النعيم ومحاسبته على أقواله؛ يتعين النظر في كلام أمين عام حزب الوردة، وطعنه الصريح في حكم الله تعالى، ومخالفته لأحكام الدستور، واستفزازه لمشاعر الناس، فليس مقبولا بتاتا تكميم أفواه العلماء والدعاة ومنعهم من التصريح بما يعتقدون من جهة؛ وترك المجال مفتوحا على كل المستويات للادينيين ليطعنوا في هوية الأمة ودينها وأحكامها وعقيدتها، من جهة أخرى.
فنحن نعيش في بلد مسلم؛ ووفق استطلاع غربي قام به المعهد الأمريكي “غالوب” فإن 98% من المغاربة المستجوبين أجابوا بنعم حول حضور الدين بقوة في حياتهم اليومية؛ متقدمين بذلك على كثير من الشعوب المسلمة، ما يؤكد أن مطالب لشكر ومن على شاكلته تسيء إليهم، وتثبت -بما لا يعد مجالا للشك- أن هؤلاء السياسيين لهم أجندة وخارطة طريق تناقض هوية الأمة وتوجهها، لذا يتعين محاسبة لشكر ومساءلته عن تصريحاته، ولو من منطلق ديمقراطي يؤمن برأي الأغلبية ويحترمه.