رد الأحداث عن نبش قبور التراث
ذ. طارق الحمودي
هوية بريس – الأربعاء 15 يناير 2014م
سلسلة مؤمنون بحدود (ح2)
نقد لمقال: المعتزلة وحرية الإرادة الإنسانية، لصاحبه: سامح محمد إسماعيل.
لا زلت استغرب من الإصرار الكبير الذي يوجه كتابات بعض الشباب المنسوبين إلى الفكر والتفكير.. إصرار على إحياء التراث.. المعتزلي في قولهم في القرآن.. وغيره.. وربما الخارجي في موقفهم من السنة وخبر الآحاد كما فعلت بعض الكاتبات (المفكرات).. وعلى ذلك شواهد..
مع أن كثيرا منهم يصر أيضا على وجوب إحداث نوع من القطيعة مع التراث.. لكنني أعتقد أنهم اكتشفوا أنهم أخطؤوا خطأ استراتيجيا في الدعوى الأولى فنسخوها بالثانية..لكن في نطاق ضيق ..يخدم فقط مقاصدهم.. التي تفسد التجردية والبحثية ويسقط قناع الموضوعية في الدراسات الفكرية.
سامح محمد إسماعيل، أحد هؤلاء.. كتب مقالا سماه: المعتزلة وحرية الإرادة الإنسانية.. حاول فيه أن ينتشل الفكر الاعتزالي في جانبه العدلي المتعلق بحرية الإنسان من مقبرة الفكر الإسلامي.. كما فعل ويفعل بعض الحداثيين.. والذي تأثر بهم الكاتب كثيرا.. كما سيأتي التنبيه عليه.
ملأ الكاتب مقاله بإطراء عجيب للمعتزلة.. وكأنه مزين يحاول تجميل ما لا يُجمل.. بمساحيق لا تُجمِّل.. فجعل العقل والعقلانية والتعقل والمعقول بضاعة اعتزالية لا يملكها غيرهم.. وكأن من عداهم عطل عن العقل.. بهائم في مراتع اللاعقل.. وكان دائما ما يقرن ذكرهم بذكر الحنابلة أو الفكر الدوغمائي أو العقل السلفي.. اقتران مقابلة.. وتعارض! وهذه قسمة ضيزى يقصد بها الإقصاء الفكري.. واحتكار الحق.
تحدث الرجل عن النزعة الإنسانية عند المعتزلة في مقابل محنة العقل السلفي، وتحدث عن تحرر كامل من الوصاية السلفية الجامدة.. كل هذا ليصل إلى قوله: [كما كان قول المعتزلة بخلق القرآن يمثل اتجاهًا مغايرًا لموقف المرجعيات الفقهية الدوغمائية وشتى الطروحات الفقهية، وهو توجه لو قدر له البقاء لكان من شأنه إدخال أدوات جديدة في مجال دراسة الوحي تستخدم فيها معطيات تاريخية وسيمائية وثقافية، كان بمقدورها أن تعطي طروحـات أكثر إنسانية وعقلانية مما طرحه الفقهاء].
كل هذا الكلام الطويل.. -المليء بالاستهانة بمن يخالفهم وغمطهم قدرهم بلا إنصاف ولا عدل- لأجل سطور قليلة في آخر المقال بعدما تهيأ القارئ الذي صار الآن -ربما- ينظر إلى المعتزلة وكأنهم سادة العقل والفكر أو الحرية الإنسانية.. ومضمن السطور الأخيرة كاشف لمقاصد المقال كله.. وعنوانه: (إدخال أدوات جديدة في مجال دراسة الوحي تستخدم فيها معطيات تاريخية وسيمائية وثقافية، كان بمقدورها أن تعطي طروحـات أكثر إنسانية وعقلانية مما طرحه الفقهاء). وهذا اجترار لما طرحه نصر ابو زيد المصري ومحمد أركون الجزائري السوربوني!!!
وأخيرا أكتشف أن هؤلاء الكتاب الشباب.. يقلدون غيرهم.. ومع ذلك فلابد من فرك الأذنين:
يقترح أصحاب نظرية تاريخية النص أن يتعامل مع النص القرآني على أنه منتوج بشري محمدي.. عبر فيه محمد عليه الصلاة والسلام عن الوحي الإلاهي بلغته باستحضار الزمان والمكان وطبيعة المخاطبين.. ولابد من إعادة قراءة القرآن وفق هذا المنظور.. ومحاولة استخراج الوحي الحقيقي المرمز في الخطاب المحمدي.. لإعادة تشكيله بما يناسب زماننا ومكاننا.. زاعمين أن هذا الطرح اعتزالي بالدرجة الأولى.
وأقول: أخطأ هؤلاء أخطاء فادحة كبرى.. وأحسبها مصائب فكرية أعظمها أن المعتزلة لم يزعموا قط أن اللفظ القرآني من عبارة محمد عليه الصلاة والسلام، بل كانوا يعتقدون أن اللفظ القرآن مخلوق ابتداء كذلك.. وأنه صنعة ربانية صادرة عن إرادته، لا عن إرادة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأنه صلى الله عليه وسلم كان فقط واسطة لأداء اللفظ.. وليس منتجا له.. وقراءة متأنية متفحصة في كتابات عبد الجبار المعتزلي في كتبه (المجموع) و(المغني) و(شرح الأصول الخمسة) كافية لمن ملك مفاتيح القراءة الكلامية.. الاعتزالية خاصة..!
وقد اختلف المعتزلة في العبارة القرآنية الموجودة الآن في مصاحفنا.. هل هي موافقة لما كتب في اللوح المحفوظ قبل خلق المخلوقات أو لا.. فذهبت طائفة إلى أنه موافق وأن ما بين أيدينا نسخة طبق الأصل لما في اللوح المحفوظ.. وهذا يعني أن العبارة لم تكن خاضعة لا للزمان ولا للمكان.. وأنها عبارة كونية شاملة للعوالم الإنسانية.. وبهذا يتضح خطأ هؤلاء في زعمهم أن المعتزلة هم أصل هذا الطرح، أقصد التاريخية.. وهذا مثال للمحاولات الفاشلة في استجلاب التجارب الفكرية الفاشلة -التي يزعمونها أنها تجارب عقلانية إنسانية- من التراث الإسلامي وإعادة تدويرها واستصلاحها.. أو استنباتها مرة أخرى.. بزعم أنها (طروحات!) عقلانية إنسانية.. وقد خدعوك فزعموا.. والزعم أخ الكذب..! ولذلك أقول لأصحاب هذه المحاولات الفاشلة..
كما قال الخطيب البغدادي رحمه الله في شرف أصحاب الحديث (ص:20-21، دار إحياء السنة النبوية) وهو يصف أهل الحديث: (جعل الله تعالى أهله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة) فلا يغرنكم خاطرة ولا سانحة في أصول الدين وقواعده، إلا ما كان على أصول السلف رضي الله عنهم، وما سوى ذلك فسبل مهلكة. فهم كانوا ولا يزالون أعلم وأهدى.. فبهداهم نقتدي، وبمثل إيمانهم نهتدي، والعقل بعد ذلك في سعة من الفكر.. أصلح الله شؤوننا وشؤونكم، وأرانا الله الحق حقا ورزقنا اتباعه، وأرانا الباطل باطلا ورزقنا اجتنابه.