سبل إنقاذ العقلية الإسلامية من سراب العلمانية
د. رشيد نافع
هوية بريس – الأربعاء 15 يناير 2014م
إن العلمانية في البلاد الإسلامية ظاهرة موجودة لا يمكن إنكارها، ولكنها لم تشكل في الإسلام إلا قشرة رقيقة جداً لا تلبث طويلاً حتى تيبس ثم تتساقط متناثرة، إنها لم تنفذ ولن تنفذ أبداً إلى جوهر الإسلام وحقيقته، لأن الإسلام بطبيعته يستعصي على العلمنة.
وقد أثبت خلال القرنين الماضيين أنه ليس كالمسيحية في الرضوخ للعلمنة، ذلك لأن ثوابته ومرتكزاته لا تقبل العبث مهما جهد العابثون، والسبب هو أنها قائمة على معجزة خالدة رَسَمت حدود هذه الثوابت والمرتكزات رسماً واضحاً لا لبس فيه فجاءت كمثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها وستظل دائماً شاهدة على زيف المزيفين، وإرجاف المرجفين.
ولكن مع هذا فإن المشكلات التي نجمت عن مسار العلمنة وإن لم تمس جوهر الإسلام ولكنها أحدثت اضطراباً في أوساط المسلمين وفرقت في صفوفهم، وأبرز هذه المخاطر هو استيلاء التقليد والتغرب على عقول ثلة من النخبة المفكرة، حتى أصبحت هذه العقول في تبعية فكرية وحضارية تهدد مستقبل الأمة الحضاري.
إن استعصاء الإسلام على العلمنة أمر أدهش باحثي علم الاجتماع فهذا العالم الإنجليزي “إرنست غلنر” يقول: “إن النظرية الاجتماعية التي تقول: إن المجتمع الصناعي والعلمي الحديث يُقوِّض الإيمان الديني -مقولة العلمنة- صالحة على العموم، لكن عالم الإسلام استثناء مدهش وتام جداً من هذا!! إنه لم تتم أي علمنة في عالم الإسلام، إن سيطرة الإسلام على المؤمنين به قوية، وهي أقوى مما كانت من مائة سنة مضت، إن الإسلام مقاوم للعلمنة في ظل مختلف النظم الراديكالية والتقليدية والتي تقف بين النوعين… والإصلاح الذاتي استجابة لدواعي الحداثة في عالم الإسلام يمكن أن يتم باسم الإيمان المحلي، وليس على حساب الإيمان”.
والآن كيف يمكن إنقاذ العقلية الإسلامية من تيار العلمانية ومقولاته السرابية؟
أولاً: لابد من الارتقاء بالخطاب الإسلامي إلى المستوى المواكب للذوق المعاصر وأنا هنا أتحدث عن صياغة الخطاب ولغة الخطاب وليس عن مضمونه، ذلك لأن الإعلام بثورته الراهنة قد طرح مفاهيم وصيغ جديدة للخطاب، وأصبحت المصطلحات والتراكيب واللغات التقليدية مملة للعقلية الحديثة، وترتاح للصياغات الجديدة، وتأنس حتى بالمصطلحات الجديدة، وإن لم تكن قد استقرت على معنى واضح.
نحن هنا في معركة خطابية، بل لست مبالغاً إن قلت إننا في ضجيج خطابي صارخ والرابح هو من يمتلك الأدوات التي تمكنه من استلاب الأسماع والقلوب واجتلاب الأنظار.
إننا بإزاء هذه الحالة لسنا في معركة مضمون وإنما في معركة صياغة ودعاية والصياغة من أربح المهن، والدعاية من أجدى وسائل الربح.
إن الخطاب العلماني اليوم يحاول بوسائل مختلفة، وبمصطلحاته وتراكيبه الجديدة أن يبهر الجماهير، وأن يوحي لها بأن لديه الكثير، وأنه يمتلك مفاتيح النهضة والسعادة بينما الخطاب الإسلامي بضائعه ثمينة جداً ولكنه لم يحسن حتى الآن عرضها بطريقة أجمل
ثانياً: كما أنه من المهم جداً تعرية الأطروحات العلمانية، والكشف أولاً عن جذورها ومظاهر الاجترار والتسول المشتملة عليها، ثم بيان تناقضها في حد ذاتها، ومصادمتها لجوهر الرسالة الإسلامية، ولكن كثيراً من الإسلاميين يرفضون حتى قراءة الكتابات العلمانية فضلاً عن الرد عليها ويعدون ذلك من قبيل تضييع الوقت واستنفاد الجهد، غير أن هذا الموقف إذا كان صحيحاً في الأزمان السابقة فإنه لا يصح في هذا الزمن لأن الإعلام يروج بشدة للأطروحات العلمانية وتوصف بأنها مشاريع تجديدية أو اجتهادات تنويرية، أو قراءات معاصرة ولا يمكن أن يكون العلاج أو الوقاية بإغماض العين..
فلا بد من مواجهة كل ما يطرح في الساحة الإعلامية بما يتلاءم معه من الرد والدحض والبيان.
ثالثاً: لا يكفي نقض المشاريع العلمانية وبيان تهافتها بل لا بد من إبراز البدائل الإسلامية ولا بد من تمثل الحل الإسلامي وصياغته برؤى معاصرة جديدة تلبي تطلع العقل الإنساني إلى مزيد من المعرفة، وتلبي طموح العقل إلى التنوع والثراء في نموذجه الإسلامي.
ولا يمكن إبراز الفقر والخيبة في النموذج العلماني إلا إذا قورن ذلك بما ينجزه علماء الإسلام من مشاريع فكرية ونماذج إصلاحية.
رابعاً: المشاريع الفكرية، والنماذج الإصلاحية الإسلامية هي صياغات تجديدية تستلهم الوحي قرآناً وسنة بشكل مستمر ومتجدد دون أن تغفل عن الحراك الواقعي. التجديد في الإسلام يعني أن يعمل المجتهد في النص والواقع معاً ليخرج بمعادلة المواءمة بلا إفراط ولا تفريط، بحيث يظل الوحي هو الذي يمتلك زمام الواقع ويظل الواقع مستنيراً ومسترشداً بالنص حتى لا يضل في تيه الأهواء.
ولا يفهمن أحد من ذلك أن حكومة النص للواقع هي حكومة إمبريالية أو أحادية الرؤية، فالأمر ليس كذلك لأنه “ما جعل عليكم في الدين من حرج “و ” إن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً ” فالنص يمتلك قدرات هائلة لإمداد الواقع بالمشروعية ولكنه في نفس الوقت -وهنا تكمن عظمته- يمتلك أيضاً قدرات رائعة في حفظ نفسه من تحريف المحرفين وفي حفظ الواقع من ترويج المبطلين.
خامساً: لا يمكن أن يحظى التجديد بقبول الأمة بل ولا يمكن أن يكون ذو جدوى وصلاحية إلا إذا كان انطلاقه من الوحيين القرآن والسنة، ولا يمكن لهذه الانطلاقة أن تحقق المراد إلا إذا كانت انطلاقة حقيقية تعيد للوحي مهمة التصحيح التاريخي والدفع الحضاري، ولذلك حقاً لا بد من إعادة قراءة القرآن بل مرات ومرات قال تعالى: “ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر“، ولا بد من تفعيل دور القرآن الكريم في صياغة الحضارة من جديد.
سادساً: إن إعادة قراءة القرآن تعني أن ننفي عنه عبث العابثين وخرافات القصاص وتراكمات البشر وإسقاطات العصور والأزمنة، فالقرآن الكريم فوق التاريخ وفوق الزمان والمكان لأنه الحاكم عليهما.
سابعاً: إن الدعوة إلى إعادة قراءة القرآن والعودة إلى صفاء القرآن وجوهر الوحي ليس المراد منها ما يريده الخطاب العلماني من تفريغ للدين من محتواه، وتطويع لآياته، وتشويه لغاياته لأننا نؤكد هنا على دور الوحي الثاني –السنة- في البيان وإعادة الفهم والتنزيل الجديد، فالسنة هي العاصم من الشطط في الانحراف وخطر الانجراف.
إن السنة هي النموذج التطبيقي المثالي للقرآن الكريم، ولا بد من النظر إليها دائماً على أنها أحد المعايير والضوابط الأساسية في فهم القرآن الكريم، وإذا ما شعر المجتهد أنه يناقض السنة فليعلم أنه يرتقي مرتقىً صعباً وعليه أن يتحسس مواقع قدميه.
ثامنا: العمل الفردي لا يجدي نفعاً على مستوى النهوض الشامل، لذا فنحن بحاجة إلى العمل الجماعي، والعمل الفريقي وهذا النوع من العمل من الضروري أن يشيع في حياتنا تنظيراً وسلوكاً وأن نتعلم العمل في إطار الفرق المتخصصة، وأن نربي أنفسنا على الشعور بالمسؤولية الحضارية، ونعمق فيما بيننا روح الفريق والتعاون والتكامل.
لقد علمنا الإسلام أن المرء ضعيف بنفسه قوي بأخيه، وأن يد الله مع الجماعة، وأن نركن إلى السواد الأعظم، وعمق فينا ديننا هذه الروح الجماعية عبر الصلوات في الجماعة والجمعة والأعياد، وشحن الإحساس الجماعي بشاحن عظيم جداً هو الصيام وآثاره إلى حد يعجز التعبير عن وصفه في شعائر الحج ومواقفه المختلفة.
ومع ذلك فإن الأمة الإسلامية اليوم في حالة يرثى لها إذا ما نُظر إلى فرقتها، وتمزقها، الأمة التي أُمرت بالاعتصام بحبل الله “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا” تعيش اليوم حالة من الشتات والضياع والتيه.
نحتاج اليوم إلى مؤسسات تنظم العمل الجماعي وتدفع به إلى أقصى حدود الإمكان، وتربي الأجيال على إمكانية التكامل والتعاون والتخلص من الأثرة والأنانية.
لنتأمل في هذا الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأجمله وأكمله إلا موضع لبنة فيه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون ويقولون لو وضعت هذه اللبنة. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين“، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعد نفسه لبنة في بناء النبوة، ولم يعد نفسه البناء كله ولم يجعل نفسه ركيزة البناء الأساسية، إنه صلى الله عليه وسلم يعترف للآخرين بفضلهم في إقامة البناء، والبناء كل متكامل مع الآخرين، واللبنات المتراصة والمتكاملة والمتماسكة هي التي تشكل البناء، وهكذا لم يستأثر النبي صلى الله عليه وسلم بمزايا إضافية على حساب إخوانه من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.
أين هذا من أخلاق العلماء والدعاة اليوم؟
إننا يسيطر علينا هاجس التفرد وتأسرنا عقلية المنقذ، وكل عالم وكل داعية يريد أن يكون أوحد عصره وفريد دهره، ولا يقبل أن يكون نسيجاً مشتركاً في جسد الدعوة.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد فما يوجد بين العلماء من مشاحنات ومنافسات ينعكس على التلاميذ وطلاب العم بل وحتى على عامة الناس والوسط الشعبي فتتكون تكتلات متناحرة ومتحفزة للخصام، ومهيأة للكراهية والعداوة.
وفي وسط هذه الصورة القاتمة يمكن أن ينجح الخطاب العلماني حين يظهر على أنه الخطاب البديل المتماسك الرزين المتآلف فيكسب الأنصار والجماهير اليائسة من الوسط المشايخي المتخاصم، والناقمة على تلك الحال العدائية المتردية بين رموز التيار الديني وجماهير التدين.
الخلاصة: أن الحل لأزمة العلمنة التي تجتاح المجتمعات الإسلامية تبدأ أولا من تحصين الذات بحصون متينة، وتناول الجرعة الوقائية التي يمنحها الإسلام لمعتنقيه، لأن الدفاع أو الهجوم لا يجدي إذا كانت حصوننا مهددة من الداخل، لا يكفي أن نبين أمراض الآخرين ونحن مرضى، فلا بد أن نعالج أنفسنا وحين نتعافى نبدأ بتأسيس مراكز للوقاية واللقاح وحينئذ نكون على استعداد لمواجهة المشروع العلماني الذي نعتقد أنه تخريبي وتدميري ويخدم مصالح أعدائنا بالدرجة الأولى.