إمارة المؤمنين والشعبذة السياسية
ذ. إبراهيم الطالب*
هوية بريس – الخميس 16 يناير 2014م
لا زالت قضية تكفير إدريس لشگر تتوالى فصولها، فالأمين العام للاتحاد الاشتراكي مع رفاقه يحاولون الاستفادة ما أمكنهم من قضية التكفير بممارسة سياسة ابتزازية غبية في عدة اتجاهات داخل الحزب وخارجه.
فداخل الحزب يحاول لشگر لملمة صفوف الاتحاد، الذي يهدده استفحال خطر انشطاره يوما بعد يوم، خصوصا بعد تنامي معارضة كل من تياري الزايدي واليازغي، وذلك بافتعال الصراع الإيديولوجي مع التيارات الإسلامية وخصوصا حزب العدالة والتنمية، حيث يحاول الأمين العام القفز على معضلات حزبه الداخلية المتمثلة في ضعف تمثيله لأتباع حزب الوردة، وفقدان الأمل لديهم في إصلاح شأنهم الداخلي بعد تقلده لقيادة الحزب، والإفلاس السياسي والاجتماعي والثقافي للنخبة الاشتراكية.
فبدل أن يهتم بمشاكله نراه يحاول عبثا ضخ دماء جديدة في شرايين الحزب المترهلة، لكنها للأسف دماء فاسدة ستعجل باستكمال عملية تعفن الوردة بعد طول ذبولها.
لشگر بكل الغباء السياسي الموجود يحاول توجيه الضغوط الداخلية نحو الخارج، بالركوب على قضية تكفيره، واعتمادها سلاحا في تصفية حساباته السياسية مع حزب العدالة والتنمية، حيث حَمَّل المكتبُ السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في بلاغه إثر اجتماعه يوم 11 يناير 2014، المسؤوليةَ “لكل الذين أطلقوا حملة التكفير وحرضوا عليها، وعلى رأسهم قادة حركة التوحيد والإصلاح، الذين أدلوا بتصريحات، منذ الوهلة الأولى، لا تختلف في كنهها عن خطابات غلاة التكفيريين” اهـ.
كما نص البلاغ على قرار الحزب مراسلة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، بخصوص بعض أئمة المساجد الذين شاركوا في ما اعتبره “حملة التكفير في خطب صلاة الجمعة”، مؤكدا أن “المساجد هي بيوت الله، ومصاريفها تؤدى من أموال دافعي الضرائب، ومن ممتلكات الشعب، ولا يمكن أن تكون مقرا لحزب سياسي أو لحركة دعوية”.
كل هذه المهاترات السياسية لا تهمنا، لو أنها لم تمس ديننا وعقيدتنا ووجودنا كمغاربة مسلمين، لأننا نعتبرها من قبيل الدجل الفكري والشعبذة السياسية.
وتعريف الشعبذة كما في المصباح المنير: “لعب يرى الإنسانُ منه ما ليس له حقيقة..”.
وليس من قبيل الصدف أن سياسيينا يسمون السياسة باللعبة، كما لا ينكر أحد أن لشگر من أهم اللاعبين السياسيين في هذه المرحلة؛ خصوصا بعد زواج المتعة المخالف لمذهب البلاد؛ والذي زُفت فيه الوردة العانس إلى الميزان الذي لحقه اختلال عقلي حاد منذ أصيب بالحمى الشباطية.
وما دام لشگر قد اختار ممارسة الشعبذة في أمور تتعلق بأسس ديننا وعقيدتنا، فإننا سنحاول في هذا المقال توضيح حقيقة ما يريد أن يرينا من خلال شعبذته أنه هو الحقيقة، ثم نجلي الحقيقة واضحة كما هي بمعزل عن تخييلات السياسي المشعبذ.
فبالرجوع إلى تصريحات لشگر ورفاقه، ونص البلاغ المذكور آنفا، يحاول السياسي “المحنك” أن يُصوِّر لنا أن الأمر يتعلق بعملية استغلال للمساجد من طرف حزب العدالة والتنمية وجناحه الدعوي “التوحيد والإصلاح” في حملة سياسية ضد لشگر وحزبه التقدمي ونسائه الحداثيات، وأنه ما دامت المساجد -كما هو نص البلاغ- “هي بيوت الله، ومصاريفها تؤدى من أموال دافعي الضرائب ومن ممتلكات الشعب”، فلا “يمكن أن تكون مقرا لحزب سياسي أو حركة دعوية”.
إذاً، المطلوب من المغاربة أن يفهموا أن وزير الأوقاف متواطئ مع رئيس الحكومة ومع الإسلاميين ضد الحداثيين التقدميين، الذين يناضلون من أجل رفع كل مظاهر التمييز بين الرجل والمرأة، كما هو منصوص عليه في المواثيق الدولية، وما دام ذلك كذلك، فإن المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي قرر مراسلة الوزير كي يعاقب كل الأئمة والخطباء الذين انتقدوا مطالب حزبه بتجريم التعدد والمساواة في الإرث لأنهم يقحمون المساجد في قضايا سياسية، خدمة لحزب العدالة والتنمية.
وبالتالي فإن الحزب الاشتراكي -كما جاء في بلاغه- يحمِّل المسؤولية “للدولة، لحماية دور العبادة من الفتنة، والحرص على سلامة المواطنين من الخطاب الظلامي، في مؤسسات، من المفترض أنها تابعة للوزارة المذكورة، ومن واجبها احترام القانون والدستور والتزاماتها تجاه المجتمع”.
أليس هذا عجيبا في حق وزير أقفل 67 مقرا لجمعيات مدنية تنظم العشرات من دور القرآن؟
الشعبذة نفسها حاول أن يمارسها الاتحادي محمد المرابط بضعة أيام قبل تصريحات لشگر، وذلك خلال مداخلته في الندوة التي نظمها حزبه بمقره، تحت عنوان: “الدين والمجتمع”، وبكل جرأة أصر على تقديمه بصفته مندوبا لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مدعيا أن هناك (تحولا كبيرا وقع في التوجه الرسمي في مجال الهوية، يتمثل في الانتقال من الترويج للمشروع المجتمعي الحداثي إلى التقارب مع “الأصوليين”.. وتوقف -أي المرابط- عند بعض المحطات التي قال إنها تؤكد هذا التحول، مشيرا إلى انخراط كل من وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمجلس العلمي الأعلى، في الدفع نحو هذا التحول)(1).
ومن تلك المحطات -حسب مندوب الشؤون الإسلامية الاتحادي بتطوان!!!-(البيان الشهير الذي كان المجلس العلمي الأعلى قد أصدره ردا على مقترح تفكيك الفصل 19 من الدستور السابق، إلى حقلي المُلك والإمارة، والدعوة إلى سمو المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ووصف هذا البيان بـ”السياسي” معتبرا أن المجلس مارس عبره الوصاية “على أمير المؤمنين والأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية، وتمثلت فيه الإمارة العظمى من منطلق السياسة الشرعية للكتابات الأصولية، وليس من منطلق تراكم الكتابات السياسية في تراثنا السياسي)(2).
سلوك الاتحاديين لسبيل الدجل الفكري والشعبذة السياسية المقصود منه إيهام الخاصة والعامة أن هناك مؤامرة على إمارة المؤمنين، وأن هذه الأخيرة تعيش تحت وصاية وزير الأوقاف الذي يطوع مفاهيم الدستور لتنزيله وفق ما تشتهيه القوى الأصولية ضدا على القوى الحداثية.
فمن يا ترى سيصدق هذه النكتة؟
لكن مع ذلك، إذا أخذنا هذه النكتة على محمل التفسيرات السياسية للنكت، نستنتج أن التترس بمحاربة الأصولية والركوب على إمارة المؤمنين صار منهجا لدى العلمانيين الحداثيين، حيث خرج إدريس لشگر مرة ثانية، بحر هذا الأسبوع، خلال الاحتفال المشترك بين الوردة والميزان بذكرى تقديم وثيقة الاستقلال، متباكيا على علماء الحركة الوطنية الذين -حسب رأيه- “لم ينصبوا أنفسهم أوصياء على الشأن الديني أو أفتوا بالحلال والحرام في السياسة أو كفروا الناس واتهموهم بالردة. أما اليوم، فنحن أمام أشخاص مغمورين، لم يثبتوا أي باع لا في العلم ولا في الفكر ولا في السياسة، لكنهم تقمصوا شخصية الدعاة، واتخذوا المظهر والزي الرسمي لهم، وكأنهم يمثلون في مسلسل تاريخي، ونصبوا أنفسهم قيمين على الدين الإسلامي، متجاوزين بذلك حتى ما توافقنا عليه في الدستور من مؤسسات، وأهمها إمارة المؤمنين”(3).
فمن يا ترى يتجاوز المؤسسات الدستورية، ومن يتطاول على إمارة المؤمنين؟
ربما تم التوافق على أن تكون إمارة المؤمنين في خدمة الحداثيين ومفاهيمهم العلمانية وفهمهم اللاديني للإسلام في غفلة من الشعب المغربي المسلم وهو لا يدري؟
أم أن اختراقهم لمؤسسات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (مندوب تطوان الاتحادي محمد المرابط نموذجا)، واستيلاءهم على أهم مؤسسات التكوين في العلوم الشرعية (دار الحديث الحسنية بيد الاتحادي الخمليشي) جعلهم يظنون أن بالإمكان فرض القراءة العلمانية للإسلام، وتزوير التاريخ المغربي الحديث الذي يشهد أن العلماء السلفيين بالخصوص كانوا هم رواد الحركة الوطنية الذين حملوا راية الجهاد ضد الغازي العلماني الفرنسي الذي يريد الحداثيون، من أمثال لشگر والمرابط، إخضاعنا لثقافته وسياساته؟
فإذا أزلنا أثر الدجل الفكري المغلف بالكلام حول المساواة والحقوق والتقدمية والحداثة، وأبطلنا فعل الشعبذة التي توهم الناس أن الدين يستغل من طرف الأصوليين، وأن الإسلام لا يقبل المزج بين الدين والسياسة، وغير ذلك من الأغاليط الحداثية التي تعمل على مركسة التاريخ والشريعة، وتحتال بكل خبث متستر تحت عباءة القراءة الجديدة المتنورة للإسلام، قراءة تعتمد التمييز العلماني بين جوهر الدين ونصوص الشريعة، وتُحكِّم التاريخانية على نصوص القرآن والسنة لتحبس فهمهما في مرحلة النبوة، ولتعطي للدين تفسيرا يستجيب لشروط العلمانية المفروضة على العالم الإسلامي من طرف الغرب الإمبريالي.
فبعيدا عن كل هذه الأغاليط، تظهر لنا الحقيقة واضحة جلية مؤكدة أن الحداثيين متخوفون من تنامي النفوذ الروحي للتيارات الإسلامية، المتزامن مع تنامي انتشار التدين في كل الطبقات الاجتماعية، تدين واع يغلب عليه الامتثال لأحكام الشريعة الإسلامية في كل مناحي الحياة، تدين يتعارض بشكل كلي مع مفهوم الدين لدى الحداثيين، ويتناقض كل التناقض مع الاختزال العلماني للإسلام في جانبه التعبدي “الفرداني”.
فالمغاربة أصبحوا من الوعي بحيث لم يعد في الإمكان الضحك عليهم بالكلام المنمق والأسلوب المزوق، ولا إغراؤهم بالنضال من أجل الخبز والشغل على حساب الهوية والدين.
ثم ما معنى هذا التباكي على إمارة المؤمنين؟
وهل هناك مفهوم لإمارة المؤمنين في أي قراءة للحداثة في العالم؟
أكيد أن مفهوم إمارة المؤمنين هو من المفاهيم الأصيلة في السياسة الشرعية وقد ظهر في بداية خلافة الفاروق عمر رضي الله عنه، ومن صون المغاربة لهذا المفهوم وإجلالهم له، لم يُبح الملك الهمام المجاهد يوسف بن تاشفين لنفسه أن يتلقب به لكي لا ينازع الخليفة العباسي آنذاك فيه واكتفى بلقب أمير المسلمين، ثم بعد ذلك اتخذ سلاطين المغرب هذا اللقب، فاستمر مفهومه في الحكم عبر الدول والحكومات إلى أن ضمَّنه الكُتاب الفرنسيون الذين استكتبهم الحسن الثاني دستورَ 1962.
إذًا فمفهوم إمارة المؤمنين يمتح من المفهوم الإسلامي للدولة وليس من المفهوم الحداثي، لذا على أهل الشعبذة أن يفهموا أن حماية الملة والدين إذا كان الدستور قد أناطها بإمارة المؤمنين فإن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وكذا المجالس العلمية بخطبائهما وأئمتهما كلهم معنيون بحماية الملة والدين.
وإذا اعتبرنا مطلب تجريم التعدد والمساواة بين الجنسين في الإرث هو من التعدي السافر على الملة والدين، فالسؤال: لماذا لم تقم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بممارسة وظيفتها في حماية الإسلام، حتى طمع لشگر وحزبه في الوزارة وقرر مراسلة وزير الأوقاف بخصوص الخطباء الذين انتقدوه على احتشام؟
وأين المجلس العلمي الأعلى؟
وأين علماء المجالس العلمية؟
لِمَ لمْ نسمع لهم حسا، ولم نقرأ لهم بيانا؟
فما السبب يا ترى؟
وهل يفسر سكوت المؤسسات الدستورية المعنية بحماية الملة والدين بمثابة رضوخ للتغلغل العلماني في الوزارة الوصية، أم هو تجنب لظهور الدولة بمظهر المنتهك لحرية التعبير، المنتقد للحداثة أمام حلفائها الغربيين؟
كيف ما كان الجواب، المهم أن تحييد المؤسسات الرسمية من الحرب العلمانية للإسلام في المغرب، يعطي الانطباع أنه يوجد هناك من المتنفذين من يهمه أن يفهم المغاربة أن إمارة المؤمنين توقفت عن العمل “من منطلق السياسة الشرعية في الكتابات الأصولية”، وأصبحت تشتغل “من منطلق تراكم الكتابات السياسية في تراثنا السياسي” على حد مفهوم المخالفة لكلام المندوب المرابط، أي بمعنى أن مفهوم إمارة المؤمنين قد طوع لصالح المفهوم العلماني للدولة الحديثة الذي يفترض العلمانيون أنه لا بد أن يكون مناقضا على الدوام لمفهوم الدولة الإسلامية.
فإن كان هذا صحيحا، فما أعظم الخطر الذي ينتظر المغرب والمغاربة!!!
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مدير أسبوعية السبيل.
(1) أخبار اليوم، العدد:1244، بتاريخ: 17 دجنبر 2013
(2) المصدر نفسه.
(3) الاتحاد الاشتراكي، العدد:10600، بتاريخ: 13 يناير 2014.