وقفة تأملية في حقيقة إتراف العلمانية
محمد بوقنطار
هوية بريس – السبت 18 يناير 2014م
إن سؤالنا عمن هو المسؤول عن انتشار ظواهر الاغتصاب وزنا المحارم والشذوذ والمثلية وقطع الطريق ولصوصية المال العام وسرقة المال الخاص وتغول ظاهرة الانتحار والأمراض الجنسية الفتاكة من إيدز وزهري وأوجاع أخرى لم تكن معروفة في أسلافنا..
وكذا استفحال ظاهرة الأمهات العازبات وارتفاع نسب الطلاق والتفكك الأسروي، وكذا الأرقام الضخمة التي تحكي عن حالة الإدمان واستهلاك المخدرات بكل أنواعها في صفوف شرائح عريضة من المجتمع، وكذا الإقبال بشراهة على الربا بنوعيه وظاهرة العري والسفور والبغاء، هو سؤال لا نبحث من خلاله في ماهية هذا المسؤول والتفصيل في كوامن السبب في شخصيته الاعتبارية ومسؤوليته المعنوية.
فإن هذا ظاهر جلي بيّن، وإنما هو سؤال نريد أن نخلص من خلاله إلى الوقوف مع فكرة لطالما اعتمدها الكثير من العلمانيين كحاضنة واقعية ومسلك نظري له ثقله في تمرير خطابهم الاستئصالي، وهي فكرة اعتبار أن الواقع الموبوء الذي وصلت إليه نسب المعصية هو واقع صحي اختاره المجتمع في جو متقدم من الكسب في مدنية الحرية والحداثة والمشاعية وما تعاقب بعد هذا الاختيار في إطار نظرية النشوء والارتقاء من إلحاد وتمرد على الهوية وانقلاب على الثابت والمقدس، واعتماد هذه القراءة والركون إلى مسلماتها المدخولة دون تسجيل أي قيد واستدراك، فيه ما فيه من تخوين ورمي بالنفاق لكل صوت إصلاحي متفائل غير عادم لخصيصة خيرية الأمة وسلامة بنيانها وحقيقة أن التصدع لم يستوعب أركانها المحفوظة.
وهب أننا سلمنا بهذا الواقع، فهل تسليمنا هذا يمنع من القول بأن مقارفة المجتمع لكل هذه المعاصي والموبقات هو فعل لا ينفك عن إحساس هذا المجتمع بكل أطيافه بضابط -أن الناذر لا حكم له- بسلبية هذا السلوك والاتفاق على أن هذه الأفعال هي شذ وانحراف عن الجادة يليها ما يليها ولابد من توبة وإنابة وحسرة وندم، وهو أمر تصدقه التجربة ويصادقه الواقع، وينسف وينسخ ما تسوّق له الأطراف العلمانية من قبيل أن هذا السلوك المشين هو تعاطي حداثي تحرري يمارس في إطار ما تنعم به المنظومة الكونية من تسام وغلبة على القيد الديني ومكرهة المقدس فعلا وتركا.
وهي فكرة ورغم ما يضخ فيها من تدليس وتلبيس وتنميق ونفخ في حجمها ودفع لحمولتها إلى الواجهة، تبقى نشازا غير مستساغ ترد كيده وكدحه حقيقة أن التدين ومظاهر الالتزام في بلادنا كما في البلاد الإسلامية صار حالة عامة يؤثث جوانب كمّها وكيفها العامي والمثقف والمنتسب للحركة الإسلامية ومن هو خارج طيف الانتساب، ولعلها حقيقة لا ينكر وجودها المبارك وموجها المتعارك إلا معاند جاحد يريد أن يحجب هذا الواقع والتغيير الكبير الذي نراه بعين الإيمان صحوة إسلامية عظيمة بينما يراه هو وقبيله رجعية وشذا إلى الوراء وإيثارا للظلامية على حساب غسق نورانيتهم المزعومة وحداثيتهم المحمومة.
إن الأحداث الأخيرة التي دشنتها سخائم الإتراف العلماني بخرجاتها الباغية ودعواتها المتعالية الطاغية، لتشرح بوضوح حالة فقدان التوازن واستنفاذ شحنات الصبر المصطنع التي يشهدها المعترك العلماني، حالة قرر معها هذا الفصيل اللاديني بعد طول نفاق ومداهنة أن ينتقل إلى مرحلة متقدمة من أطوار المواجهة، جاعلا حربه سافرة غير مقنعة ليس ضد التيارات الإسلامية فإنها مرحلة باتت متجاوزة في أجندة تحركه وتحرره، بل مع وضد الإسلام نفسه.
ولعل في هذه المواجهة وميزة كونها أشاحت عن وجهها البشع أصباغ التنكر وأقنعة التخفي وأسمال التدثر، الكثير من الإيجابيات التي وصلت إليها بعد طول استدراج وشكلت الصورة القميئة التي من شأنها أن تعطي الانطباع الحقيقي وتخلق التقييم السليم لدى الشعوب المسلمة لعلاقة هؤلاء المسلمين بغير إسلام، وإن شئت فقل هؤلاء الذين سماهم سيد الخلق بدعاة على أبواب جهنم بهذا الدين ولاء وبراءة واتصالا وانفصالا.
ولذلك فإن مقارنة بسيطة بين اعتبار العلمانية في ثوب القناع ومرحلة التواري والمداهنة مجرد تفكير حر ونتاج ذهني واستنارة عقلية وهدي علمي يبغي في غير اصطدام بالثابت والقطعي خلق إصلاح اجتماعي وثورة فكرية تنفخ الروح في محرك الاجتهاد الديني الذي عطلته عقلية التقليد، وبين اعتبارها بشواهد الصوت والصورة والمسطور والمسبور إلحاد وكفر وردة ومحاربة للدين وتمرد على الفطرة السوية والأخلاق المرعية قدرا وشرعا، مقارنة كفيلة بأن تخلق وتراكم عند جمهور الأمة هامشا لا بأس به من القناعات والمنبهات الواضحة الدلالة والصوب في حقيقة العلمانية ومعشر العلمانيين ومشروعهم الانقلابي والانسلاخي عن ثوابت الأمة ومقدساتها.
ولذلك فإن ما نملكه من يقينيات واطراد نواميس في باب وعد الله لعباده الصالحين يجعلنا لا نحسب كل هذه الخرجات المارقة والتجاوزات الخارقة شرا لنا، بل هي محض خير إذا ما تدبرناها من زاوية ما سلف ذكره، واستدركنا في يقظة حتى لا يطول علينا الأمد فننسى على ضرورة تخزين صور هذا المروق والاحتفاظ به حيا في باحات نواصينا على أمل تحيين ذكراه وتفعيلها في وجدان الأمة في الوقت المناسب.
ذلك الوقت الذي يكون فيه العلماني الكائد الحاقد خافضا جناح الذل لابسا قناعه يتغشى بيوت الله وبيوتنا وأزقتنا الضيقة متسورا محراب حياتنا البسيطة، طمعا في كسب أصواتنا التي تعطيه حصانة وتمثيلا ووكالة نيابية مفوضة، يقتحم بها عقبة مقدسنا وينقلب على المعلوم من ديننا بالضرورة، ويرمينا بعد هذا بالرجعية والظلامية والجهالة والأمية، ليمرر بضاعته المزجاة وسلعته الكفرية تحت ظل سحابة تنميق الكلام وسجع المصطلحات الفلسفية التي استغفلتنا ردها من الزمن باسم المطلق والنسبي والمتغير في إطار مناخ تسلطي يكون فيه السمو للعبث الكوني على الشرعي النقلي الذي لن يكون إلا إسلامنا العظيم وهداياته الغالية.
وعلينا أن نتنبه في غير استغراب ونحن نواجه دعوى القوم من بني الجلدة إلى حقيقة مفادها أن العلمانيين وهم يتباكون تحت ذريعة تغيّر الزمان والمكان والأحوال، رافعين نعش كبيرة “تاريخية النص” وتهمة تجاوز مناسبته وقدرته على احتواء المتغير والجديد، هم في تباكيهم هذا يحلون لأنفسهم ما يحرمونه على غيرهم، إذ بديلهم في واقعنا لم يكن إلا ترسانة من القوانين الكبرى والمبادئ العامة المطلقة الثابتة المستبدة والمهيمنة في تسلط نار وحديد.
ولا يجب أن يفهم من كلامنا هذا أننا طأطأنا الهامة لنظرة العلمانيين الملتبسة إلى الإسلام واعتباره بكثير من العموم والغموض والإيحاء الفلسفي الذي يخندق النص في إطار المطلق مع ما تحمله هذه الكلمة من إسقاطات فاسدة تربط في “مثلبة الأفيونية” بين الوضع الإسلامي المتميز والوضع المسيحي الكنسي المحرف المنحرف.
فالإسلام كان ولا يزال متميزا بنظامه الكامل ومنهجه الشامل وأحكامه المستوعبة في مرونة للمطلق والنسبي والثابت والمتغير، في غير ثنائية تقابلية تحمل في جوفها الأضداد المتصارعة كما يصور ذلك المحفل العلماني ويسوق له رواد العلمانية في جرأة وجراءة، يقدمون بين يديها عربون مظلومية وسبق دعوى إلى اعتبار الإسلام ظالما للمرأة والإنسانية، في مقابل إلباس العلمانيين والعلمانية ثوب الضحية التي يتهددها الظلاميون والتكفيريون، وهو وضع لا نحتاج معه إلى أن نذكر بحاجة المحلي للإقليمي في إطار ما يستحقه الأول من شفقة وعطف ومؤازرة، وما ينتظره الثاني من إشارات ضوئية خضراء تشرعن له عملية العبور لتصفية حسابه مع معضلة الإرهاب وبؤر الإرهابيين.