الإرادة الحضارية ودورها في الإقلاع الاقتصادي
عبد الرحمن مغزلي
هوية بريس – الإثنين 20 يناير 2014م
تميز النصف الأخير من القرن الماضي بتحرر شعوب العالم الثالث تحررا سياسيا، مكنها من نيل استقلال رمزي على المستوى السيادي. إلا أن الأحبولة الاستعمارية ورطت سكان النصف الجنوبي في حتمية التبعية الاقتصادية حتى بعد الاستقلال، ما جعل مناطق دول الجنوب يرون في الاختيارات الاقتصادية المطروحة خياران يتوزعان على ما ذهب إليه معسكرا الشرق والغرب الشماليين، مما جعل الناس في تناف تام بين الهوية الحضارية والتركة الاستعمارية.
لم يسلم المغرب أيضا باعتباره دولة متخلفة حضاريا إذا ما قورن بالدول المتقدمة (التي استطاعت أن تجيب على حاجياتها بابتكار وسائل إنتاج تعبر عن ثقافتها) من هذين الاختيارين، فجنح بفعل التخدير الفرنسي وطوعا من دون إدراك إلى الرأسمالية القائمة على قانوني السعي إلى المنفعة الشخصية ومنافسة الآخرين، إذ أن الإنسان إذا سعى إلى تحقيق مصالحه سعى الآخرون إلى تحقيق مصالحهم ولهذا وجب على الدولة أن تطلق الحريات الاقتصادية إلى أقصى حد ممكن، وهذا يقود طبعا إلى الكثير من المظالم والمفاسد. وهو ما يعبر عنه بالقول الشهير: “دعه يعمل.. دعه يمر”.
ولكن وبعد مرور أزيد من نصف قرن نرى بوضوح اضطرابات اجتماعية أدت بنا إلى انحرافات ثقافية جعلت من الطبيعي أن نرى بعضنا يجري وراء إسقاط البيئة الغربية على المجتمع المغربي كالذي يريد تقسيم المجتمع الواحد بدعوى النزعة العرقية أو اللغوية أو كالذين يدعون إلى المساواة التقنية بين الجنسين دون الغوص في مدلولها الثقافي وحمولتها الحضارية.. في محاولة ذاك الشارد الذي فقد صلته بعالمه الأصيل، فصار أميل إلى تقليد الحاجيات منه إلى تقليد أدوات الإنتاج، وصرنا بذلك مجتمعا ارتبطت حاجياته بما تعرضه الأسواق.
ولا يصطدم المغربي بفلسفة وروح الرأسمالية فحسب، بل أيضا بشروطها وقوانينها التي تقتضي استثمار المال بوصفه الوسيلة الوحيدة لدفع عجلة الاقتصاد مما يدفع لعملية تجميع الأموال وتركيزها في الأبناك، لتقوم هذه الأخيرة بعد ذلك بتوزيعها وتوظيفها على أساس الفائدة. وإذا بالمسلم الشارد يختار الغوص في محاولة تخليص الرأسمالية من الربا لأنه محرم في شريعة الإسلام، في محاولة منه لتخليص الجسد من روحه وفصل الوعاء عن الماء دون مراعاة أن صاحب المنهج الليبرالي انطلق من مبدأ استثمار المال، وهذا ذاته ما يحتاج المراجعة.
وبعد خيبة الأمل يتجه المجتمع نحو المنهج الآخر (الشيوعية) أو الاشتراكية بمعنى أخف، وهنا أيضا سرعان ما يصطدم بما يتعارض مع هويته من تحديد الملكية الفردية أو إلغائها دون الانتباه إلى أن أسباب نجاح هذا المنهج أو ذاك يتمثل بالأساس في طبيعة البيئة التي نشأ فيها المذهب نفسه، والتي تعتبر الفكرة الماركسية عقيدة شرقا وتشجيع الحريات الفردية عقيدة غربا.
فأصبحنا بهذا سياسيا رهيني مؤسسات مالية دولية تحدد سعر الفوسفاط وتتحكم في توجيه الإنتاج مما يزيد من العجز على مستوى التوازنات المكرواقتصادية ويدفعنا بالتالي إلى الاستدانة الخارجية لتغطية هذا العجر.
لذلك فدور الفقهاء وأهل الاختصاص هو الاهتمام بشروط الإقلاع الاقتصادي أكثر من شروط استمرار الحياة الاقتصادية وإن كلف الأمر تعطيل بعض المصالح الفردية من أجل الاقتصاد الوطني، كي لا نقرن النظرة الاقتصادية بانتظار المال من الخارج، حتى إذا أتى يكون ورطة سياسية، وإن لم يأت علقنا عليه تأخر قيام النهضة.
ولو سبرنا أغوار جذور الاقتصاد الناجح لوصلنا إلى نتيجة أن الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك أو تشييد مصنع فحسب، بل هو قبل كل ذلك تشييد الإنسان وتقويم سلوكه بما يجعله موفقا في اختيار ما يحتاجه من مناهج -سواء بحث عنها في ما هو موجود أو أنشأها مما هو مفقود- تنسجم مع ما يخالج كيانه ويحترم هويته وثقافته، ليصل إلى الإرادة الحضارية التي تحقق له الإمكان المادي في الإقلاع الاقتصادي.
نرى هذه الظاهرة في عالمنا المعاصر، وكيف لدولة محطمة مثل ألمانيا بعد الحرب تحقق المعجزة وتعيد الإعمار باستعمال نوع من النيوليبرالية القائم على اقتصاد السوق الاجتماعي في تناغم تام بين الحاجيات الألمانية وسبل توفيرها. كما نراها أيضا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم حيث انطلقت الأمة حينها من نقطة اللاشيء الاقتصادي والإمكان البسيط جدا والمحدود المتزامن مع التدفق العالي في الإرادة الحضارية وقوة الإيمان كأنها قادرة على تحقيق كل شيء من لا شيء، وإذا بها فعلا تنفذ كل خططها في كل المجالات.
وبالتالي فكما يقول المفكر مالك بن نبي في كتابه “المسلم في عالم الاقتصاد”: “العلاقة النسبية بين الإمكان الحضاري والإرادة الحضارية هي علاقة سببية، تضع الإرادة في رتبة السبب بالنسبة للإمكان”.
لذلك فمجتمعنا اليوم متى تكونت لديه إرادة واضحة للتخلص من التخلف والإقلاع الاقتصادي، سيجد نظريا أن اختياراته ليست بالضرورة محدودة في الاستثمار المالي المرتبط أساسا بالخارج لأنه صاحب المذهب، وأنه يستطيع اللجوء مرحليا إلى نوع آخر من الاستثمار، وهو الاستثمار البشري أو الاستثمار الاجتماعي (مالك بن نبي) على أساس الآية الكريمة: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” [الرعد:11]، لأن الإرادة تصنع الإمكان، على قاعدة اجتماعية تجعل الخبز لكل مواطن والعمل على كل قادر، في جو من التضامن الاجتماعي دافعه الإرادة الحضارية ومبتغاه تحقيق الاكتفاء الذاتي دون الارتهان إلى المدد الخارجي الذي يتحول إلى تحكم سياسي.
كما أن الإرادة الحضارية ترتكز بالأساس على بواعث أخلاقية تجعل من معادلة الحقوق والواجبات ترجح كفة الواجبات على الحقوق والإنتاج على الاستهلاك. ونرى هذه الركيزة جلية في المسكين الذي جاء يطلب لقمة العيش (وهي من حقه، يعطيها له المجتمع في إطار الزكاة)؛ فيتكرر العطاء كلما تكرر الطلب، ليأتي التوجيه النبوي الرشيد: “…إن اليد العليا خير من اليد السفلى“، في إشارة واضحة منه إلى تشجيع الإنتاج والبذل. لأن رجحان الإنتاج على الاستهلاك يقود المجتمع إلى فائض في الإنتاج وارتفاع في مؤشر النمو الاقتصادي، ويكون بذلك المجتمع ناميا، غير راكد إذا ما تساوت معادلة الإنتاج والاستهلاك، أو منهارا في حالة المجتمعات المستهلكة المعتمدة على الإمداد الخارجي.
إن الغرب الذي تكتل مرة من أجل الزحف الصليبي وأخرى من أجل الزحف الاستعماري، ها هو اليوم يواصل زحفه من أجل إرساء دعائم وجوده سياسيا عبر إحكام القبضة الاقتصادية. لذلك وجبت الدعوة بأن يحرك المجتمع آلته الفكرية في تناغم مع ضميره المجتمعي وهويته الثقافية بمختلف روافدها من أجل الوصول إلى الإرادة الحضارية التي تحقق له الإقلاع الاقتصادي باعتباره مفتاح النهضة.