سرقة ملف “دانييل”
نبيل غزال
هوية بريس – الخميس 08 غشت 2013م
قرار العفو عن المجرم الإسباني “دانييل كالفان” الذي اغتصب 11 طفلا مغربيا كان قرارا صادما للعديد من مكونات المجتمع المغربي بشتى أطيافه، ما خلف موجة عارمة من الاحتجاجات العفوية اندلعت في عدد من مدن المملكة.
وهي احتجاجات قوبلت -كما كان متوقعا- بالاستخدام المفرط للقوة من طرف أجهزة الأمن، ولم يكن الأمر يتطلب كل هذا القمع الذي زاد من حدة المواجهة؛ لأن المتظاهرين لم يخرجوا في مسيرات تتطلب ترخيصا مسبقا من الجهات المعنية، وإنما كان الحادث تجمهرا سلميا، لا يخلُّ بالأمن العمومي، وهو أمر يسمح به القانون كما هو منصوص عليه.
فلا يمكن وصف الوحشية والقسوة التي تعاملت بها قوات الأمن ضد المحتجين؛ ودرجات الغيظ والحنق لدى أفراد الشرطة وهم يضربون بكل ما أتوا من قوة محتجين سلميين عزل؛ عبروا عن رأيهم كما يخول لهم الدستور ذلك.
فلم يخرج هؤلاء المحتجين إلا للتنديد بقرار العفو الذي لم يستسغه المجتمع؛ على اعتبار أن المجرم الإسباني الذي شمله العفو الملكي مدان بتهمة الاعتداء الجنسي وهتك عرض 11 طفلا قاصرا (إناثا وذكورا) تتراوح أعمارهم ما بين 2 و15 سنة وتصويرهم في وضعيات شاذة؛ والجريمة لا تحتاج إلى كثير تعليق، فخرج الناس تحت هول الصدمة إلى الشارع -دون تأطير حزبي أو جمعوي أو دعوي- للتنديد بقرار عفو مسَّ أحكام القضاء؛ وجرحَ كبرياء المغاربة والأسر التي طال فلذات أكبادها اغتصاب وحش وجاسوس إسباني يدعى “دانييل”.
ومع تصاعد موجات الاحتجاج واستمرارها خرج القصر الملكي -في سابقة لم يُشهد لها مثيلٌ في المغرب- ببلاغين لم تفصل بينهما سوى 24 ساعة، الأول يوضح أن الملك محمد السادس لم يتم إخباره بالجرائم التي ارتكبها الإسباني “دانييل” وأمرِه بفتح تحقيق لتحديد الخلل والمسؤولين عن “إطلاق السراح المؤسف هذا“، والثاني يُلغي العفو تماما عن المجرم.
وبعد يوم واحد فقط تم إعفاء حفيظ بنهاشم من مهامه في المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، لتحمله المسؤولية المباشرة في هذا الملف.
وفـُتح نقاش واسع عقب ذلك حول مسطرة العفو؛ ومن يحق له الاستفادة منه ومن لا يحق له ذلك؛ على اعتبار أن جريمة اغتصاب الأطفال؛ وإن كانت تثير الاشمئزاز؛ فهي لا تقل خطورة عن جرائم أخرى يشملها قرار العفو، كالسطو؛ والاتجار في المخدرات وتهريبها..
فقد ينفق الآباء سني عمرهم في تربية أبنائهم وإحاطتهم بالرعاية والاهتمام، وفي لحظة ما؛ ومكان ما؛ من الممكن أن يسقط أحد هؤلاء الأبناء ضحية إدمان مخدرات تقدَّم لهم على باب المؤسسة التعليمة أو غيرها؛ فتتغير حياتهم رأسا على عقب؛ وتتحول حياة ومسار الأسرة بأكملها إلى جحيم.
وما يثير الانتباه في هذا الملف سعي بعض الأطراف؛ كما جرت بهم العادة؛ إلى استغلال هذه المحطة لأهداف أيديولوجية وسياسية ضيقة لا يمكن وصفها إلا بالدناءة والخسة، لأنها تتاجر بعرض أطفال أبرياء، وأكثر من هذا فهي تتاجر بمعاناتهم.
وقد أقدم بعض المتدخلين في هذا الموضوع على مهاجمة العلماء والحركات الإسلامية بكونها لم تشارك في مسيرات الاحتجاج ونهجتسياسة الانبطاح؛ وأن هذا الفصيل لا يهتم إلا بالملفات الخارجية (مصر-سوريا) ولا تهمهم معاناة أبناء الوطن..
وكأن القوم قد أحاطوا علما بكل الوقفات الاحتجاجية التي نظمت تنديدا بالقرار؛ وتوصلوا باستمارات تحدد عدد المشاركين وأعمارها وانتماءاتهم الدينية والفكرية والحزبية!
فالوقفات الاحتجاجية العفوية قد شاركت فيها جميع الأطياف، ونال كل طرف حصته من التعنيف اللفظي والجسدي، وتم احتجاز بعض المنتمين إلى الحركات الإسلامية لأكثر من ثلاث ساعات بهدف التحقيق معهم، وسحبت منهم كل الصور وأدلة الإثبات التي توثق حوادث الاعتداء والتعنيف، وسقط بعضهم مدرجا في دمائه وهو يكرر كلمة التوحيد بعد أن انهالت عليه “زرواطة” المخزن، ومنهم أيضا من لا يزال إلى الآن راقدا على سرير المستشفى يتلقى العلاج.
فليس هذا موطن المزايدات ولا الحسابات الأيديولوجية الضيقة، وتسجيل النقاط على الخصوم؛ وإلا فإن سجون الجلاد بنهاشم ملآى بأحياء للمعتقلين الإسلاميين، ولم نسمع يوما في سجنه بحي للمعتقلين العلمانيين.
فالأمر واضح وبيِّن في هذا المجال؛ لا ننتظر من أحد أن يعطينا دروسا حوله أو يزايد علينا فيه؛ خاصة من بعض الأحزاب الفاشلة التي لم تستطع إلى حد الساعة إثبات وجودها أو إقناع الرأي العام بمشروعها.
ويبقى الأمر المهم الآن هو أن واقعة العفو الملكي عن المجرم الإسباني “دانييل” جعلت الظروف ناضجة لإعادة النظر في القانون المنظم للعفو الملكي الذي يعود إلى سنة 1958م، وأن لجنة العفو يجب عليها أن تأخذ بعين الاعتبار أن حق العفو في الجنايات التي تهم الأشخاص من اغتصاب وقتل وجرح وسطو وقذف.. يرجع إلى أسر الضحايا وذويهم؛ ولا يحق لأحد أن يتخذ القرار نيابة عنهم، كما يتعين في حقها وهي تعد من سيشمله قرار العفو أن تنفتح على جميع أبناء الشعب المغربي، والكف عن إقصاء معتقلي الرأي والإسلاميين عموما من العفو، خاصة بعد رحيل جلادهم بنهاشم الذي كانت مواقفه العدائية اتجاه الإسلاميين واضحة.