الأخرسون.. إلا القرضاوي ومن معه.. (إلى علماء الانقلاب..)
د. عادل رفوش
هوية بريس – الثلاثاء 06 غشت 2013م
تموج الدنيا وتتصاهر الأحداث وتنصهر جرَّاءها الأفكار، وقد ظهر الكلم والألم والقلم، وتعالت صيحات البررة، وغالبتها أصوات السحرة.. وبين هذا وذاك يبقى لأهل الذكر الناطقين باسم الله الرحمن الرحيم وقعٌ في النفوس، وأن الله يبلغ عنهم -وهم المبلغون عنه- صدقَهُم- من باب: {أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] فكلمتهم بإذن الله أتقى وأنقى وأبقى في الأعقاب والأعصاب والأحقاب إلى يوم الدين..
ومن نظر باستبصارٍ في الأودية التي تسيل بأقدارٍ من أفواهِ المتكلمين، -واللهُ سبحانه وحده يعلم المفسد من المصلح، وقد رفعَ عنا العنتَ في تحقُّقِ أشباهِ ذلك- عَلِمَ بيقينِ المعذرةِ إلى الله تعالى أن ما عدا الشيخ القرضاوي المصري -وقد جدَّدَ مراجعاتٍ في صفحاتِ حياته بشجاعةٍ قلَّ نظيرها، قبل أن يتزعم التجديد في تاريخ أمتنا الحاضر مناصرةً لقضايانا العادلة-، ومعه -ثبتنا الله وإياه- مَنْ شايعَ الحقَّ ونصر المظلومَ وناوأ الظلمَ، من علماء ودعاة وعقلاء وهم الأكثرون حقيقة، وإن كان صوتهم خافتا تحت وطأة القاهرين من الذين غلبوا على أمرهم في أوطانهم، فاتخذوا عليهم بنيانا من الحصار الإعلامي، والإقصاء القسري تضييقا وتخويفا وتشنيعا.
وإنَّ مِنْ أسوإ ما يجابهون به، كيما ينخرطوا في دوَّامة لَيِّ الألسِنَةِ صَعَراً بخُدود النصوص، -خَطَلاً قَصَدُوا- جَبَهَاتُ مَؤَسَّسَاتٍ رَسَّمَتِ الدينَ ولم تنصره إلا قليلا، واستأثروا بالفتوى فلم نحس لهم ركزاً، واحتكروا العلمَ ولم يعملوا به إلا نزرا-وهم في الأغلب ليسوا من أهله وإن كانوا ذوي شهاداتٍ اتخذت على حين غَفَلات.
فئامٌ من حملة العلم روايةً لا رعايةً، فهم بمثابة “الحمار يحمل أسفارا“، أو هم أحفاد ابن باعوراء: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 175، 176].
وطائفة منهم غير قليلة ميَّالون مع الرياح، وكلما فاجأهم أمر من الأمن أو الخوف قالوا:
{إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70]!
و”فوق جهدك لا تلام”!!!
أقاموا العلم معلوماتِ سردٍ | بلا أربٍ إلى شَمَمِ القُصُودِ |
فإن العلْمَ إصلاحٌ وهَدْيٌ | وليْسَ بالاِسْتِنَادِ إلى عَمُودِ |
مطامعُ للمناصِبِ والكَراسي | وشَخْصِيَةٌ تُهَزْهَزُ بالثَّرِيدِ |
أقول هذا مستعيذاً وأمامي في نوازل عصرنا شواهد جمةً، على انبلاع الألسن في اندلاع الأبطن، سَرْحاً من المحيطِ إلى الخليجِ:
ودونك شيخ الأزهر والعسكر مثلاً، ويتلوه في اللثغات واللدغات: المفتي جمعة صاحب الإنارة والإثارة، مَنْ عَزَلَ وِلِيَّهُ الشَّرْعِيَّ الرئيس المنتخب مرسي، بكَذَبات ِالصور الهليودية الخادعة، وبالأرقام المنتفخة دَجَلاً على الرياضيات والهندسة وعلوم المساحات، وبالتطفيف في الموازين تسويةً بين الضحية والجلاد والظالم والمظلوم والمحق والمغتصب ثم يمعنُ المفتي المفتون فيلتمس الاستدلال بأقوال الجويني!!! وكأن الظلمة العابثين الغاصبين؛ الذين استغلوا عمامته يأبهون لجوينيٍّ أو حويني!!
وكأن الإمام الجويني ليس هو القائل من بين نصوص كثيرة:
“وقد قررنا بكل عبرةٍ أن في الذهاب إلى خلعه أو انخلاعه بكل عثرة رفضَ الإمامة ونقضَها واستئصال فائدتها ورفع عائدتها وإسقاط الثقة بها واستحثات الناس على سلِّ الأيدي عن ربقة الطاعة”اهـ (الغياثي ص:104 ف 148).
ثم قال: “ولا خلاف أن الإمام لو طرأ عليه عرضٌ أو عراه مرضٌ؛ امتنع الرأيُ به؛ لم نقضِ بانخلاعه، ومن شبب في ذلك بخلافٍ كان منسلا عن وفاق المسلمين انسلال الشعرة من العجين”اهـ (نفس المصدر).
إنهم كراكيز تعددت أدوارهم في التاريخ المرير لأمة الإسلام، تحييرا للعامة وتشييعا للظلمة، ثم لا يعدمون -وهم يهدمون- حيلة يسمونها حجةً، يجلبون لها ما تناثر من قواعد أو صح من دليل، وهم يعلمون أن الحجج تعادلٌ وترجيحٌ، وأن الأصول مع الأصول وأن أصول الاستثناء المستثنيات، وأن الإعمال كما يحتمل الإحجام احتياطا، فإنه يوجب الإقدام أصالةً، إحقاقا للحق وإظهاراً للدين.
بل هذا هو الأصل لتكون كلمة الله الأعلى هي العليا.. والكلام في هذا طويل، غير مصارحين لأمتهم بأن حق الله أوجب الحقوق، وأن مسمى المفاسد شرعا ليس كما يتخيلون دائما ويخيلون، فزعا إلى لُغَةٍ أبطلها القرآن الكريم في مرض: “نخشى أن تصيبنا دائرة“، وفي مياعة: “إن بيوتنا عورة“، وفي تخاشع الباردين: “ايذن لي ولا تفتني“.
متناسين “أن الله هو الدهر” “وهو”مالك الملك”، وأنه “كل يوم هو في شأن“، وأن عند الله مكرهم وإن كان مكرهم -الكُبَّارُ- لتزول منه الجبال.
وأن للمغامرة رجاءَ إحدى الحسنيينِ من الله مكانٌ مكينٌ في الشريعة، يجعل المجتهد يدرك لذَّةَ صعوبةِ الإقدام كما يغَصُّ بالاسترواحِ لمذلةِ الإحجام، واقترِئْ إنْ شئتَ قوله سبحانه:
{وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال: 42]؛ حتى يبقى لقضاء الله في عبيده ما يريده منهم ابتلاء واجتباءً، “فيعلم الصادقين ويعلم الكذبين” وحتى يفضل المجاهدين لحق الله وبه على القاعدين درجات وأجرا عظيما، وأن المبطئين باحتياطهم الجبان “في الفتنة سقطوا“، في كلماتِ حقٍّ أريد بها باطل، إمعانا في ألسنة السَّلْقِ الحِداد،، وتقليبا للوقائع، وقد قال الحق سبحانه: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 48].
وأنى لهم تلك الموازين ولم يزلزلوا “حتى يقول الرسول والذين آمنوا متى نصر الله“؟
ومصالحهم المجتلبة مردودة مرذولة، بنص الرحمن الذي قال لنبي المرحمة، وقد فزع لوحي من سبقت رحمته غضبه؛ في أسارى بدر فسَمَّى مصلحته عليه أفضل الصلاة والسلام مع رِدْءِ أبي بكر فيها: “عَرَضَ الدنيا“.
وسماها “أَخْذاً” تنئية بشبهها أن يصدر ممن هو دون المصطفى والصديق؛ فيُدَّعَى فيها النظر الأصيل والتقوى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيم} [الأنفال: 67، 68].
وكان الرأي لعمر الفاروق فجاء سيد المتقين بها وجلا مبشرا.
وإنه لمن معين التقوى أن نستقيم لمن استقام لنا، ومن الخور أن ينحرف عليك المنحرفون ثم أنت لا تدفع الظلم عن نفسك!
ولله دره!! ولست ميالا لشعره كثيرا أعني أبا القاسم الشابي التونسي، ولكن تعجبني نفثات منه إلى حد الانبهار بالسهل الممتنع في منافحاته؛ ومنه قوله:
لا عدْلَ إلا إنْ تعادلتِ القوى | وتصادمَ الإرهابُ بالإرهاب |
وإن كنا لا نختار إلا السلمية والصدور العارية والمصاحف العالية والمصالح الوطنية، وقد قامت الشواهد اليقينية على أن هؤلاء الانقلابيين وأشباههم من أعداء الفضيلة، لا يؤمنون بالمبادئ إلاَّ حين تخْدُمُهم، ولا يدافعون إلا على أنفسهم ولاءً لأسيادهم، وبيعاً للشعوبِ والأوطان؛ يغالبون الشريعةَ والشرعيةَ، ويزخرفون القول بجنرالات الإعلام؛ الذين يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون، تلبيسا على العامة وانتهازا لفرصة الخوف عند قوم، والترددِ عند آخرين؛ فيجلبون بخيلهم ورجلهم من كل حدب وصوب، ويولدون الشبهات من كل فج عميق.
وينسلون عبر الأثير رجالا وركبانا، حتى إذا حققوا مطمعهم في الظهور والغلبة، لن يرقبوا في مؤمن إلاًّ ولا ذمة “يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون“، “قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر“..
جِراحُ المُسْلِمِينَ لَهَا ازْدِيَادُ | فَبَعْدَ الشام، مِصْرُ بها اشْتدادُ |
لكِ الرحمنُ يا “مرسي” هنيئاً | فقدْ عرَّيْتَهُمْ وبَدَا الفسادُ |
لقدْ حَكَمُوا بِطُغْيانٍ دُهُوراً | ولَحْظَتُك انْقِلابٌ وانْتِقَادُ |
شِعَارُهُمُ: سَنَحْكُمُكُمْ!! وإلاَّ | قَتَلْنَاكُمْ!! ولا عدلٌ يُرَادُ |
هُمُ الإرهابُ والإفسادُ حَقّاً | وفي إعْلامِهِمْ حرْبٌ تُكَادُ |
لمصرَ اليومَ جيشٌ واقتصادٌ | وسوِّيَتِ المشاكلُ والبِلادُ |
بيومٍ واحدٍ صارتْ جِناناً | وقبْل سويعةٍ كان الكسادُ |
لقدْ سقطَ القناعُ فلا حقوقٌ | سواءً قُدْتُمُ أوْ إنْ تُقَادُوا |
صناديقُ الدَّمَقْرَطَةِ احْتيَالٌ | ويَحْمِي الحَقَّ في الأبدِ الجِهَاد |
ألا فانطقوا يا حُرّاسَ الفضيلة، أينَ أنتم أيها الموقعون عن الله مولاكم الحق؟!!
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25].