فهم خاطئ لآيات التعدد
د. رشيد نافع
هوية بريس – الأربعاء 29 يناير 2014م
هناك صيحات كثيرة وهائجة في طول البلاد الإسلامية وعرضها، تطالب بمنع التعدد، أو تقييده، والمنادون بذلك بعيدون كل البعد عن فهم النصوص الشرعية وتطبيقها، فيا ليت عندهم العقل الناضج، والتفكير الصحيح، ليناقشوا القضايا على ضوء الواقع والمصلحة، والظروف الاجتماعية في ضوء النصوص الشرعية، بل ليتهم إذا لم يفعلوا ذلك أصبحوا منصفين، وتجردوا عن الهوى، والتعصب، والعاطفة، فلو فعلوا هذا أو ذاك لَمَا قلبوا الحقائق، ولما وقفوا من التعدد موقف الحاقد المتربص، ولَمَا تطاولوا على شريعة الله دون حياء أو خجل، وهؤلاء الذين ينادون بالتضييق على التعدد وحصاره، يريدون أن يضيفوا إلى النصوص شيئا جديدا، وكأنها شحيحة أو قاصرة على وضع نظام التعدد بصورة تنا سب كل زمان ومكان.
بل قالوا: لا ينبغي أن يباح تعدد الزوجات إلا إذا كان له مبرر، وقد أوغل بعض هؤلاء فقيدوا مبررات التعدد بأمرين لا ثالث لهما وهما:
1. مرض الزوجة مرضا مزمنا لا يرجى برؤه.
2. عقم الزوجة، بشرط أن يثبت ذلك طبيا وأن يمضي عليه ثلاث سنوات فأكثر.
نقول لهؤلاء: إن هذا التقييد لا أصل له في شرع الله، بل هو من وضع البشر، والويل كل الويل لمن يحكم رأيه وهواه ويقدمهما على حكم الله ويلزم الناس بذلك.
ولذا فشرع الله أحكم لأنه نزل من عند الله، الذي يعلم ما يصلح البشر في حالهم ومآلهم، ويكفي لهؤلاء المنادين بالتقييد أن كثيرا من الغربيين بدأوا ينادون بالتعدد كحل ناجع، وحاسم لمشكلة الأخلاق عندهم، والتي بدأت تستفحل خصوصا بعد أن تزايد عدد الأولاد غير الشرعيين بصورة مذهلة.
وقد دلّ الكتاب والسنة وإجماع الأمة على جواز التعدد، وأن للرجل أن يجمع في عصمته أكثر من زوجة، كما دل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن القدر الجائز في ذلك أربع نسوة فقط، وليس للرجل أن يجمع في عصمته أكثر من هذا العدد، قال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: «فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره. قال الشافعي: وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة، وهذا الذي قاله الشافعي رحمه الله مجمع عليه بين العلماء» تفسير ابن كثير (1/450).
وقال الإمام القرطبي المالكي بعد أن أبطل قول من أجاز أكثر من أربع: «وهذا كله جهل باللسان والسنة ومخالفة لإجماع الأمة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع» تفسير القرطبي (5/17).
وقال العلامة ابن العربي: «قد توهم قوم من الجهال أن هذه الآية تبيح للرجل تسع نسوة، وعضدوا جهالتهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان تحته تسع نسوة، وقد كان تحت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من تسع، وإنما مات عن تسع وله في النكاح وفي غيره خصائص ليست لأحد» أحكام القرآن لابن العربي (ص:312).
وعند النظر نجد أن تشريع التعدد جاء في كتاب الله تعالى في آيتين في سورة النساء هما، قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا» (النساء:3)، وقوله تعالى: «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا» (النساء:129)، إن هاتين الآيتين تفيدان بمجموعهما حسب ما فهمه عامة المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا الأحكام التالية:
1. إباحة التعدد الزوجات حتى الأربع، فلفظ “فانكحوا“، وإن كان لفظ أمر إلا أنه هنا للإباحة لا الإيجاب وعلى ذلك جمهور أهل العلم وهو ما نص عليه عامة المفسرين، ولا عبرة لمن ذهب من أهل الأهواء إلى الزيادة على الأربع، فليس لهم مستند من كتاب، ولا سنة، بل ولا فهم سليم لبلاغة القرآن، وإدراك صحيح لأساليب البيان العربي.
قال الإمام القرطبي في تفسيره بعد أن فند هذه الآراء وأبطلها: «قال ذلك من بُعد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف الأمة، وهذا كله جهل باللسان، والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع» تفسير القرطبي (5/17).
2. أن التعدد مشروط بالعدل بين الزوجات فمن لم يتأكد من قدرته على العدل لم يجز له أن يتزوج بأكثر من واحدة، لكن لو خالف وتزوج فزواجه صحيح، لكنه آثـم.
3. أفادت الآية الأولى -ضمنا- اشتراط القدرة على الإنفاق على الزوجة الثانية وأولادها، ذلك في قوله تعالى: «ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا»، ألا تكثر عيالكم. تفسير القرطبي (5/21).
4. أفادت الآية الثانية، أن العدل في الحبّ بين النساء غير مستطاع، وأن على الزوج ألا يميل عن الأولى كل الميل، فيذرها كالمعلقة، لا هي ذات زوج ولا هي مطلقة، بل عليه أن يعاملها بالحسنى، ويتودد إليها لعله بذلك يكسب قلبها، فتصلح حاله معها، وقد ألمح إلى ذلك صفوة الخلق صلى الله عليه وسلم، حيث اعتذر إلى ربه بأن هذا غاية ما يستطيعه، وطلب منه سبحانه عدم المؤاخذة بما لا يستطيعه البشر، “اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك” رواه الأربعة، وصححه ابن حبان والحاكم، وضعفه بعضهم.
وقد زعم بعض من لا علم لهم بالكتاب والسنة واللسان العربي، أن القرآن يمنع التعدد في الآيتين ذاتهما اللتين ذكرتا التعدد وهما الآيتين: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا»، «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا» من سورة النساء، قالوا لأن الآية الأولى «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا» تشترط إباحة التعدد بالعدل بين الزوجات، والآية الثانية «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا» تقطع باستحالة العدل بين الزوجات، فكأن التعدد مشروط بما يستحيل إمكانه فهو ممنوع! وهذه دعوى ساقطة فارغة من أصلها ويكفي للرد عليها أن نتبين ما يأتي:
1. أن العدل المشروط في الآية الأولى، هو العدل الذي يمكن للزوج أن يفعله، والعدل المادي، في المطعم، والمشرب، والمسكن، والملبس، والمبيت، والعدل المقطوع بعدم استطاعته في الآية الثانية، هو العدل المعنوي، وهو ميل القلب وما يتبعه، وبهذا يتبين أن العدل في الثانية غير العدل في الأولى، فلا بد من العدل في الأولى، وأم العدل في الثانية فقد رفع الله عن المعدد الحرج بعدم استطاعته.
2. الآية الثانية صريحة في المراد بالعدل، وهو الذي لا يستطيعه المسلم، وهو ميل القلب، من الحب وما يتبعه ولذا قال الله تعالى: «فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ».
3. لو كان الأمر كما زعم هؤلاء لما كان قوله تعالى قوله تعالى: «فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ»، معنى ولا أدى إلى غرض، بل يمنع التعدد من أصله، ولا يبيحه بشرط.
4. من الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم، عدد زوجاته، وأذن لمن أسلم وتحته أكثر من أربع أن يبقي أربعا، ويفارق الباقي، فهل فعله هذا غير صحيح، وهو المفسر لكتاب الله، المشرع للأمة؟ إن من قال بهذا القول يخشى عليه، يقول السباعي: ولا أعتقد أن عاقلا يزعم أن الصحابة والتابعين وجماهير المسلمين خلال أربعة عشر قرنا لم يفهموا هاتين الآيتين حق الفهم، وأن الله ادخر هذا الفهم، إن قال أحد مثل هذا فقد حكم بنفسه على عقله” (“المرأة بين الفقه والقانون” ص:101)، يتبع.. في حلقات قادمة، ولعل الوقت يتسع إن شاء الله لمزيد من البيان، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.