همسة في أذن علماني
د. رشيد نافع
هوية بريس – الثلاثاء 04 فبراير 2014م
إن الصراع بين الحق والباطل حقيقة أزلية معروفة عبر التاريخ، وهو سنة يعرفها كل متدبر وتالٍ لآيات الذكر الحكيم، ويجدها في المواجهة بين الأنبياء وأعدائهم من الكافرين برسالتهم، ويتكرر بصور مماثلة عبر العصور بين الدعاة والمصلحين ومناوئيهم حينما يقفون بكل تبجح أمام الحق وأهله، رافضين جملة وتفصيلاً ما يدعو الدعاة إليه من حق وما يطالبون به من تحكيم لشريعة الله.
فالعلمانية بخيلها ورجلها تقف بكل صلف ضد أي توجه إسلامي يقوم في أي بلد مسلم مثيرة الشبهات ضده والإساءات المتوالية لكل منتمٍ له، بدعاوى أن أولئك رجعيون ومتطرفون وإرهابيون؛ لهدم هذه الاتجاهات أمام الشعوب، وتخويفها منها بالكذب.
إن العلمانية ليست كما يشاع مجرد فصل الدين عن الدولة، بل هي في نهاية الأمر وحقيقته: فصل الدين عن الحياة، ليتصرف الحاكمون بأمرهم على إشاعة الباطل وتدجين الأمة على قبول الهوان والتبعية للأعداء بتقنين الباطل وحكم الطاغوت.
ومن العجب أن يتحدث نفر من المنسوبين للإسلام بكل سذاجة وبورع بارد حينما يدعوننا ألا نتحدث عن خطر العلمانية، وألا نفضح العلمانيين، وألا نتهمهم بالانحراف الفكري والعقدي لأن الوقت غير مناسب وأنهم أصحاب القرار ممكن تحصل منهم الإذاية.
إن العلمانيين لا يقفون عند حدّ الكذب والخداع، بل يضيفون إليهما السفه والادعاء…، والذين يفسدون أشنع الفساد ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدا في كل زمان، يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم، فيتعذر على أولئك أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يستند إلى أسس شرعية.
إن ظهور الإسلام هو بداية غيظ ورعب لأعداء هذا الدين وخصوم المنتمين له في كل حين، فهو يؤذيهم ويخيفهم؛ لأنه من القوة والمتانة بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغٍ، ويكرهه كل مفسد.. لما فيه من حق أبلج ومنهج قويم، فهو مضاد للباطل والبغي والفساد، ومن ثم لا يطيقه المبطلون، لذلك يرصدون لأهله، ليفتنوهم عنه.
كيف لا نتهمهم بكل ذلك وأهدافهم أصبحت مكشوفة للجميع؟
وكيف لا نفضحهم وأفكارهم الرافضة للدين بانت لكل ذي عينين؟
وكيف لا نحذر الناس من شرورهم وتلك هي مواقفهم واضحة من الإسلام وعلمائه ودعاته والمنتسبين إليه؟
أين الحرية الشخصية التي تضمنتها دساتيرهم إياها ذرّاً للرماد في العيون؟
أين حقوق الشعوب في تعلم ما تدين به ؟ بل أين مظاهر الإسلام حتى الشكلية منها؟!
لقد أكد كثير من علماء الإسلام أن حقيقة العلمانية هي رفض للدين أن يكون حاكماً، بتنحية الإسلام عن الحياة في كل الأمور؛ والآن تقاتل العلمانية لمنع تحكيم الإسلام وعودته من جديد حتى بالوسائل الديمقراطية التي يتشدقون بها ليل نهار.
إننا إذا جئنا نتحدث عن عظمة هذا الدين وشمولية هذه الشريعة الغرَّاء ومضامينها فإننا نتحدث عن بحر لا ساحل له، فهو يحتوي على كنوز لا حصر لها، والأمر أعظم من ذلك فعلاً، لكن هنا اختصارا سأشير إلى شهادتين لصحة القضية.
الأولى: شهادة الخالق العظيم الذي لا تخفى عليه خافية، وهو ينبئ عن عظمة هذا الدرس؛ قال -جلَّ شأنه-: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
الثانية: شهادة الغربيين والمؤتمرات العالمية حول الشريعة وصلاحيتها وشموليتها، والصواب ما شهد به الأعداء، يقول الدكتور “إيزكو إنساباتو”: “إن الشريعة الإسلامية تفوق في كثير من بحوثها الشرائع الأوروبية، هي التي تعطي للعالم أرسخ الشرائع بتاتًا”.
يقول الأستاذ “شبرل” عميد كلية الحقوق في فيينا في مؤتمر الحقوق سنة 1927م: “إن البشرية لتفخر بانتساب رجل كمحمد -صلى الله عليه وسلم- إليها، إذ إنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أن يأتي بتشريع سنكون -الأوروبيين- أسعد ما يكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة”.
يقول المؤرخ الانجليزي “ويلز” في كتابه معالم تاريخ الإنسانية: “إن أوروبا مدينة الإسلام بالجانب الأكبر من قوانينها الإدارية والتجارية”.
يقول الفيلسوف العالمي “برناردشو”: “إنني دائمًا أحترم الدين الإسلامي غاية الاحترام؛ لما فيه من القوة والحيوية، فهو وحده الدين الذي يظهر لي أنه يملك القوة المحولة، ويتمشى مع مصلحة البشر في كل زمان”.
أما المؤتمرات والمحافل الدولية فمن شهادتها:
في مدينة لاهاي انعقد عام 1937م مؤتمر دولي للقانون المقارن دعي إليه مندوبون من الأزهر من كبار العلماء، وقد سجَّل المؤتمر في نهايته:
“اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا من مصادر التشريع العام، وأنها حية قابلة للتطور، وأنها شرع قائم بذاته ليس مأخوذًا عن غيره”.
وفي سنة 1950م عقد مؤتمر بكلية الحقوق بباريس تحت اسم “أسبوع الفقه الإسلامي”، اشترك فيه جماعة من الحقوقيين العرب ومن المحامين الفرنسيين، وقد دارت المحاضرات حول إثبات الملكية والاستملاك للمصلحة العامة، والمسؤولية الجنائية ونظرية الربا في الإسلام، وتأثير المذاهب الإسلامية الاجتهادية على بعضها، وكانت المحاضرات باللغة الفرنسية، ويفتح النقاش بعد كل محاضرة، وفي خلال بعض المناقشات وقف نقيب سابق للمحامين في باريس فقال: “أنا لا أعرف كيف أوفق بين مَنْ كان يحكي جمود الفقه الإسلامي وعدم صلاحه أساسًا تشريعيًا يفي بحاجات المجتمع العصري، وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها، مما يثبت خلاف ذلك تمامًا ببراهين النصوص والمبادئ”. ثم خرج المؤتمر بنقاط منها:
“أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية، وأن الفقه الإسلامي تمكن أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة” (“شريعة الإسلام” للقرضاوي 97-101).
إننا حينما نسوق مثل هذه الأمثلة والشهادات الغربية وغيرها نريد أن نؤكد بشهادة الأعداء والخصوم، وأن ما عندنا من الشريعة والثروة الفقهية وهذا الدين الذي اختاره لنا الله وللعالمين، وأن عندنا ما نفخر ونعتز به، ويجب أن يكون انتماؤنا إليه انتماءً عقائديًا قناعيًا ثابتًا، فنجهر بذلك ونرفع الصوت به أنه دين رب العالمين.
فأين الشريعة الغرَّاء في واقعنا وحكوماتنا؟!
فأين هذا الدين من أولئك الذي يعرضون الإسلام لبيع مخيف ينطوي على الرجعية والتخلف؟!
وأين هذا من أولئك الذين فصلوا الإسلام عن الحياة والحكم بحجج ليس لها أساس من الصحة؟!
إن الإسلام يجب أن يحكم وأن يسود الحياة ليتحقق المعنى الذي أنزل من أجله في إقامة الحياة والعدل والمساواة والسعادة، إنه نورٌ يضيء العالمين لمن أخذ به (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِين يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ).
إن المرء ليعجب أشدّ العجب من جهل الغربيين وأذيال المستعربين من العلمانيين من بني جلدتنا وغيرهم الذين يصفون الإسلام والصحوة الإسلامية بالإرهاب والإسلام السياسي، ليخيفوا الغرب ومناطق النفوذ فيه من صحوة الإسلام القائمة والقادمة.
لماذا يضع الغربيون وأتباعهم من العلمانيين الحاقدين على الدين أيديهم في أيدي اليهود والنصارى وغيرهما لمحاربة الإسلام المتمثل في الصحوة الإسلامية والحركات الإسلامية التي تمثل طلائع الإسلام الحاملين له اليوم، وتجريدهم حتى من أبسط حقوقهم؟!
ماذا تقول على أولئك المتسلطين الذين يتفقون مع الإسرائيليين وغيرهم ضد حركة الإسلام والمجتمع الإسلامي بكل جرأة، يضعون أنفسهم في معسكر العداء للدين والصحوة، بل ويدعون جهارا ونهارا إلى التطبيع والاعتراف باليهود.
إنه واجب علينا أن ننكر ذلك كله وأن نفخر بديننا الحنيف، ونعمل على حمله وتبليغه والدعوة إلى تحكيمه في مناحي الحياة كلها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ للمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
وختاما أطرح هذا التساؤل:
أين في دعوات العلمانيين ما يختص بنظامٍ اقتصاديّ محددٍ، ثبتت جدواه في علاج الفقر والجهل والتخلف، الذي عانينا منه، ولا نزال، عقودا عديدة، باسم العلمانية ومحاربة الشريعة؟
لعل أحدا من العلمانيين، أن يتلقف مقالي هذا، فيعرضُ وجهة نظرهم، ويدلي بجوابهم، فنحن لا نحجر على رأي ولا نصادر قولاً، إلا ما كان فيه استهزاء بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وشريعة الإسلام الخالدة.