عن التكفير وعن ملابسات الإقدام عليه كلمة؟
د. محمد وراضي
هوية بريس – الثلاثاء 11 فبراير 2014م
إن استدعاء الإمام أبي النعيم لاستنطاقه، دون استدعاء غريمه الاشتراكي قبله، تجسيد ممنهج للعداء المستفحل تجاه كل داعية للاحتكام إلى الشرع الإلهي -مع التبجح بكون دولتنا دولة الحق والقانون- وهذا ما حاولت توضيحه في مقالي الأسبق تحت عنوان: “ما حكم من خطأوا الله وانتهكوا حرمات رسوله”؟ مع التأكيد على أنني من خصوم التكفير في الظروف التي عرفها المغرب ولا يزال، منذ وقوعه ضحية الاستعمار الغربي مطلع القرن العشرين الذي ولى.
فقد اكتفيت لوصف ما جرى ويجري بسوق قوله عز وجل: “أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون“. بحيث تكون دائرة المشمولين بالغضب الرباني أوسع مما يتصور من كفر واحدا هنا، وواحدا هناك! بعيدا عن فهم السياق التاريخي الذي بدونه تغيب فرص إيقاف زحفين: زحف المستهزئين بالدين الساخرين منه، وزحف المتراصين في الصفوف لصد حملات المهاجمين!
فبداية زحف المستهزئين به، تميزت بإلغاء الاحتكام قسرا إلى التشريع الذي يقوم على الدين. فكان أن فسح المجال أمام تفعيل قوانين وضعية في بلد، لقرون طويلة كانت شؤون دوله المتعاقبة على حكمه، إنما تدار بالقوانين المستمدة من الكتاب والسنة والاجتهاد. هذه التي تتكامل مع المسلمات النظرية والأعمال التطبيقية، إلى حد أن الفصل بينها إقدام مرفوض على تشويه منظومة متماسكة لا تقبل التجزئة! فالقناعات النظرية لا بد أن تنسجم مع الممارسات التعبدية، والممارسات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والمالية، والأخلاقية، والثقافية، والحضارية.
والإحساس الصادق بخطر تمزيق وحدة الدين الشاملة، عبر عنه السلفيون المعاصرون أصدق تعبير على عهد الاستعمار بالذات. إذ لولاهم ما ظهرت الحركة الوطنية الأولى في زمن قياسي، أثار حينها دهشة المحتلين. فكان أن حاولوا إطفاء الشعلة التي أوقدها السلفيون الأحرار في صدور الجماهير. وذلك بإصدار مسمى الظهير البربري!
لكن السلفيين تعرضوا لابتزاز العلمانيين المغاربة الذين قطفوا -بناء على المكر والخيانة والخداع الممنهج- ثمار العمل الوطني الشعبي كما سوف نرى! يعني أن التكفير -إن حدث- فإنه لا ينبغي أن يفهم خارج السياق الذي نحن بصدد تقديم مزيد من التوضيحات عنه. سياق واقعي محسوس، طبعته مصادرة حق العلماء في التعبير عن طموحات الشعب المغربي بخصوص العودة إلى الأصول والمنابع في صور مبتكرة، يراعى فيها فقهان: فقد الدين وفقه الواقع كأساسين بدونهما لم تكن الدول الإسلامية على مر العصور، لتنعم بالاستقلال والحرية التي تترجمها منجزات المسلمين في كافة الميادين.
فيكون لزاما علينا -كمنفتحين على العصر، وكعارفين بالوضع العالمي- أن نوضح للجيل الحالي كيف أن العلماء حاضرون على الدوام في صنع القرارات السياسية الكبرى، منذ أن تم توحيد المغاربة تحت راية الشهادتين كركن أول لديننا الحنيف. إنهم كانوا يشكلون العمود الفقري لما يعرف بـ”أهل الحل والعقد”. إذ لا بيعة لملك تتم. إن لم تحمل توقيعهم كشرط من شروط القبول به كمبايع له.
لقد أخبرنا الكاتب المحترم: إدريس الكتاني في مؤلفه القيم “المغرب المسلم ضد اللادينية” (مطبوع عام 1958م) كيف أنه انفصل عن حزب الشورى والاستقلال لأنه تبنى اللائكية. إذ فور انتهاء مؤتمر إيكس-ليبان بتاريخ 22 غشت 1955م -حيث نوقشت مسألة حصول بلدنا على استقلاله- صرح عبد القادر ابن جلون بأن حزب الشورى والاستقلال ” حزب لا ديني” (لايكي).
إلا أن الكاتب الذي أكن له كامل التقدير، وقع في أخطاء، لا أملك غير القول بأنها جد وخيمة. فعنده أن كلا من رئيس الجمهورية التونسية الراحل: حبيب بورقيبة، ومحمد علال الفاسي، يرفضان العلمانية. وهذا الحكم منه غير دقيق بالمرة. فزندقة الرئيس التونسي تزكم الأنوف! ومن أراد الوقوف عليها فليراجع كتاب “المزدكية هي أصل الاشتراكية” لمؤلفه: عبد اللطيف بن علي السلطاني. فقد ساق فيه ما خاطب به الرئيس التونسي الخرف تلة من المدرسين المجتمعين بمناسبة انعقاد “الملتقى الدولي حول الثقافة الذاتية والوعي القومي” في شهر مارس من عام 1974م حيث قال: “إن الرسول (هكذا) كان إنسانا بسيطا يسافر كثيرا عبر الصحراء، ويستمع إلى الخرافات السائدة التي نقلها إلى القرآن! وأن المسلمين وصلوا إلى تأليه محمد، فهم دائما يكررون (محمد ص)! الله يصلي على محمد! وهذا تأليه لمحمد! والفطر في رمضان عمدا وبدون عذر شرعي مقبول، إذا كانت في الفطر مصلحة الدولة! ثم إن الرسول محمدا أقر العرب على الشرك”!!!
أما محمد علال الفاسي كسلفي مفترض، فقد ناقض هويته هذه من زوايا عدة: زاوية الزعم بأن جده يتكلم من قبره (ينظر كتاب: التاريخ المفترى عليه للمؤرخ الراحل عبد الكريم الفيلالي). فزاوية كتابه “التصوف الإسلامي في المغرب”. والذي أعده للطبع عام 1998م عبد الرحمان بن العربي الحرشي. إذ في الكتاب من الأضاليل والأباطيل، ما ينفر منه الإسلام المجرد من “المبتدعات” أيما نفور! ثم من زاوية يمثلها عمله في ظل مسار علماني مفروض كوزير وكأستاذ وكناشط سياسي. مع الإشارة الفورية إلى الحالة المزرية التي وجد نفسه عليها يوم انقلاب الصخيرات على الحسن الثاني عام 1971م. فقد أجبر الزعيم الاستقلالي على الانبطاح الذي لفت نظر أحد الضباط! فلم يكن منه غير السخرية من مشهد قلما يجود به الزمان! لكن صاحبنا – من حسن حظه – نجا من الموت المحقق. فكان أن أطلق ساقيه للريح، فارا مع الفارين حافي القدمين!
إننا إذن كنتيجة أمام وضع جرت فيه الإساءة القاسية إلى الدين ولا تزال تجري! فقد صادر الاستعمار تفعيله -ونحن لا نتكلم عن الفراغ وفي الفراغ- وجاهد السلفيون للحفاظ عليه وعلى الخصوصيات المغربية الضاربة في القدم؟ فأحكم المحتلون حولهم الأطواق! ثم تعرضوا بعد الاستقلال لأسوأ ما تعرضوا له والاحتلال قائم! ليصل الأمر بتلامذة الاستعمار إلى اعتبار من حدا حدوهم ظلاميين! بل وإلى القيام بمحاولات علنية أمام سمع الدولة وبصرها، لمصادرة ما تبقى من الأحكام الشرعية؟ وهو ما غض الاستعمار بصره عنها؟ ثم يطلب من أئمة المساجد بفعل الضغط السلطوي والحزبي والظلم المستشري، أن يكفوا عن مضايقة اليمينيين واليساريين من الأحزاب اللائكية المسندة من طرف حكامنا بالقوة المادية والمعنوية. فقد دأبت الدولة منذ سنوات على مدها بالملايين لكونها تؤدي وظيفة تأطير الجماهير حسب ادعاء الطرفين المتحالفين!!!
إن معنا إذن دلائل قاطعة على أن الأحزاب السياسية قبل الاستقلال وبعده، لم تنتفض في وجه العلمانية بحكم أنها سوف تفرض فرضا لا محالة على الشعب بالقوة! بينما الروح الدينية والوطنية والديمقراطية المنشودة، كانت تستدعي العودة إلى الشعب لاستفتائه بخصوص الإبقاء أو عدم الإبقاء على فلسفة الاستعمار في الحكم؟ وبما أن المتهافتين على غنائم ما بعد الاستقلال، ألغوا استفتاء الأمة بخصوص مسقبلها، تأكد لدينا أن الوضع الذي عليه الآن حال الدين، إنما تسأل عنه أمام الله وأمام الشعب المغربي كافة الجهات، التي تسلمت زمام الأمور من يد الاستعمار؟ تمثلت في دولة المحزن، أو تمثلت في الأحزاب والمثقفين الواعين بخبايا الأمور. لكنهم – للأسف الشديد – أخفوا ما هم على معرفة به عن سبق إصرار وعن قصد لا غبار عليه! معتقدين أنهم الأجدر برسم خريطة طريق المستقبل المغربي؟؟؟
في هذا السياق الموضوعي الذي لم نبتكره، أسس محمد الخامس بظهير مسمى “المجلس الوطني الاستشاري” في شهر غشت من عام 1956م. والذي جاء في فصله الأول “يؤسس المجلس الاستشاري لدى جلالتنا ليمثل الرأي العام الوطني في الظروف الراهنة، تمثيلا واسعا بقدر الإمكان”. وقد استمر العمل به ثلاث سنوت. من تاريخ تأسيسه إلى عام 1959م.
وكان من أبرز الممثلين الحزبيين فيه: عشرة من حزب الاستقلال. وستة من حزب الشورى والاستقلال. ولم يمثل العلماء فيه غير أربعة. بينما وضع المكي الناصري ضمن شخصيات حرة في المجلس! والحال أنه واحد من كبار علماء المغرب المعاصرين. ومن ضمن مؤلفاته المواكبة لعملية التحرر من الاستعمار الغاشم “إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة من مناهضة الطرقية إلى مقاومة الاحتلال”.
ولنا بخصوص “المجلس الوطني الاستشاري” بعد اطلاعنا على جوانب مما جرت مناقشته بين أعضائه البالغ عددهم 76 عضوا عدة ملاحظات:
1- إنه مجلس معين لا منتخب. والفرق بينهما واضح. كالفرق بين الدستور الممنوح والدستور الذي وضعه مختارون من طرف الأمة.
2- مارس نشاطه تحت إشراف رئيسه الاستقلالي الراحل: المهدي بنبركة. دون أن يتساءل أي عضو من أعضائه عما إذا كان من حق الحكام الإبقاء على اللائكية، بعيدا عن استفتاء الشعب كي يختار النهج الذي يريده في السلطة: نهج علماني دخيل؟ أم نهج إسلامي أصيل؟
3- فصح أن الممثلين المفترضين للشعب المغربي في المجلس المعين، اتفقوا على نبذ الشرع الإلهي كاستجابة منهم لنداء الاستعماريين! فإن قال ص: “إن أمتي لا تجتمع على ضلالة. فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم”. وبما أن 76 عضوا ممن يتألف منهم المجلس لا يشكلون السواد الأعظم (أي الأغلبية الساحقة من الشعب المغربي)، فإن تواطؤهم أو إجماعهم الصامت على أن الاحتكام إلى الشرع الإلهي تجاوزه الزمن. يلزم المغاربة جميعهم محاكمتهم لاعتمادهم رأي الأقلية في نوع النظام المعتمد لتسيير شؤون الدولة العامة! كما تلزم المغاربة مخاطبتهم بقول الله الذي نعيده: “أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض. فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون”.
4- أتيحت لأعضاء المجلس المذكور فرص لا تعوض. فثلاث سنوات من الحوار الملغوم، كانت ستسفر عن وضع دستور يقلب النظام المغربي الموروث رأسا على عقب. أقصد أنه كان سيصبح مبكرا ملكية دستورية على غرار الملكيات في الغرب الأوربي. لكن الأعضاء الستة والسبعين، حال دونهم وتنفيذ هذه الفكرة عارضان: نظرتهم الأبوية إلى الراحل محمد الخامس، وتلهفهم إلى الجاه والسلطة والمال! فصح أن محاكمتهم تاريخيا تعتمد على حجج دامغة، في مقدمتها الوضع الراهن الذي لا زلنا نحكم فيه بدستور ممنوح، بالرغم من الحراك الشعبي ليوم 20 فبراير 2011م. والذي استعرت فيه المواجهة بين الظالمين والمظلومين! إذ لو أدخلت الأحزاب المغربية العلمانية -فور حصولنا على الاستقلال- الشعب المغربي في حسابها لما تجرأ احد اليوم على تكفير أحد!!!
وعلى لسان أبي النعيم، وكتعاطف معه في محنته، أوجه الأسئلة الآتية إلى كل من يهمهم الأمر إن كانوا صادقين: هل تؤمنون بالله؟ وإذا كنتم تؤمنون به، فهل تعتقدون بأنه قادر على أن يضع للناس تشريعا يصلح لحكم حياتهم؟ وإذا كنتم تعتقدون قدرته على ذلك، فهل تعتقدون أن الله وضع مثل هذا التشريع؟ وإذا كان قد وضع مثل هذا التشريع، فهل نحن ملزمون بالتحاكم إليه والأخذ به؟ وإن كنا ملزمين بذلك، فهل يجوز لنا أن نأخذ منه ما نشاء ونترك منه ما نشاء (كحال أعضاء المجلس الوطني الاستشاري)؟ وهل يتوقف تطبيق الشرع على رضا الشعوب أو على رضا الحكام؟ وإذا رفضنا الأخذ بالشريعة الإلهية، فهل نكون مسلمين؟
ونذكر هنا كيف أن معضلتنا بعد رحيل محمد الخامس رحمه الله، تتمثل في وجود مشروعيتين قائمتين في شخص واحد بنص الدستور الأول الممنوح! على عكس ما عليه قادة العرب والمسلمين! فقد فسر لي الراحل الدكتور عبد الكريم الخطيب عن طيب خاطر، دافعه إلى اقتراح التنصيص على إمارة المؤمنين في أول دستور مغربي. فعنده أن المد الشيوعي والاشتراكي يهدد الأساس الذي قامت عليه الدولة المغربية منذ قرون. ولن يقف في وجهه غير الإعلان عن كون الملك، هو في الوقت ذاته أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، دون أن يذهب بعيدا – كما قلت له – في قراءة عواقب ما اقترحه وجرى تنفيذه! يعني أننا الآن كمغاربة مجبرون على التحرك بين مشروعيتين: مشروعية تاريخية أصيلة، ومشروعية طارئة مستوردة غازية! هذه الأخيرة بذلت -كما اتضح لنا- ولا تزال تبذل كافة جهودها في شخص ممثليها -ومنهم من تم تكفيره- لإقبار الأولى إلى الأبد!!!
وحتى إن أخبرنا وزير الأوقاف في خرجة من خرجاته الإعلامية الفضفاضة، بأن الأئمة نواب أمير المؤمنين، فإن هؤلاء عاجزون عن الوفاء بشروط النيابة أو الوكالة!!! إنهم مقيدون محاصرون!!! فصح أنهم لا يرضون أن يدانوا بقدر ما يتطلعون إلى التحرر من طغيان وزارة لا يشرف عليها عالم! وإنما يشرف عليها مؤرخ طرقي بودشيشي، هو نفسه ملزم بالحضور -إن نحن نتحدث عن دولة الحق والقانون- أمام الوكيل العام لاستفساره حول نوع الدين الذي يتولى تدبير شأنه، بمعية أعضاء المجلس العلمي الأعلى من جهة، وبمعية أعضاء المجالس العلمية الموجودة في جميع الأقاليم أو في جميع جهات المملكة من جهة أخرى! إنه دين حظي فيه الطرقيون والقبوريون الظلاميون باحترام لم يحظ به المتسننون من علماء الأمة كأبي النعيم، وباقي نظرائه ومسانديه!!!
www.islamthinking.blog.com