التفكير والتهريج
ذ. محمد احساين*
هوية بريس – الجمعة 28 فبراير 2014م
سبق للجريدة الإلكتونية “هيسبريس” أن نشرت بتاريخ: 23 دجنبر 2013 رأي العالم رضوان بنشقرون، فيما أثاره ويثيره البعض حول بعض القضايا التي تمس الأحكام الشرعية عندما، أكد أنه “لا مجال في موضوع الإرث لاجتهاد مجتهد، ولا لتدخل متدخل، أيا كانت صفته ومكانته، وهو -أي علم المواريث أو علم الفرائض- مكتمل منضبط بقواعد شرعية لا تقبل تجاوزا ولا تفويتا ولا تطاولا، لأن النصوص المنظمة له قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وإذا كانت النصوص كذلك وجب العمل بها، وحرم مخالفتها أو تعطيلها”.
مبينا أن ذلك من اختصاص العالمين بالشريعة وأصولها وضوابطها، معتبرا أن “الذي يجهل أمور الشرع أحكاما وحِكَماً، وضوابط وحدودا، أولى باجتناب التدخل فيما يجهله”، قبل أن يضيف “أحيانا لا تجدي المعرفة بالقانون إن لم تكن هذه المعرفة مطعمة، وملقحة بثقافة شرعية ضابطة لفكر المرء وأقواله وتصرفاته”.
كما نشرت أخيرا الجريدة نفسها بتاريخ: الأحد 26 يناير 2014 مقالا تحت عنوان: “لشكر يعلن إفلاس حكومة بنكيران “المهزومة” ويستعد لإنقاذ المغرب”، ومما جاء فيه: “عاد لشكر لتصريحاته التي أثارت الكثير من ردود الأفعال، مؤكدا أنه “كان طبيعيا أن تثير مقررات المؤتمر الداعية إلى فتح حوار وطني في موضوع الإرث، وتقنين الإجهاض، ومنع التعدد، وتجريم زواج القاصرات وغيرها من المطالب التي تروم النهوض بالأوضاع الاجتماعية للنساء ردود الفعل السلبية من قوى الجمود والمحافظة، التي لا ترى في النساء إلا أجسادا للمتعة”.
ويضيف المقال “وفي هذا الاتجاه جدد لشكر رفضه التعامل مع المغربيات بالمنطق الذي كانت تعامل به المرأة في قرون الانحطاط، داعيا “المثقفين والعلماء المتنورين إلى الانخراط في مقاومة الردة الثقافية التي تعصف اليوم بكل التراكمات التي تحققت خلال سنوات وقرون من الاجتهاد والإبداع، والتصدي لدعاة التكفير والانغلاق الذين يريدون تحنيط المجتمع والعودة به إلى عصور التخلف والانحطاط”.
وأنا أنهي قراءة المقال أجدني ألقي نظرة على التعليقات، وردود الفعل، فاستوقفني التعليق الذي ورد فيه: “في البداية أنا لست متحزبا ولا أساند أحدا، لكن أنا مع الحق، أقول للشكر وكذلك شباط. كفى من التهريج.. الشعب المغربي استفاق من النوم…” فأثارني مصطلح التهريج، فبدأت في محاولة إبداء الرأي وتفصيل القيل والقال في ما بين التفكير والتهريج من الانفصال.
فمن خلال إلقاء نظرة عما يروج حول تعريف التفكير وتبيان مفهومه أجد أن كل محاولات للتعريف تكاد تجمع على أنه مجموعة العمليات أو المهارات العقلية التى يستخدمها الفرد عند البحث عن إجابة لسؤال أو حل لمشكلة أو بناء معنى أو التوصل إلى نواتج أصيلة لم تكن معروفة له من قبل، وهذه العمليات أو المهارات قابلة للتعلم من خلال معالجة تعليمية معينة؛ حيث يكون التفكير انعكاسا للعلاقات بين الظواهر والأحداث والأشياء فى شكل رمزى لفظى. وهو من مميزات الإنسان باعتباره الحيوان العاقل المفكر، وجزء عضوى وظيفى من بنيته الشخصية، تتبلور فيه ومن خلاله نظام الحاجات والدوافع والانفعالات لدى الفرد واتجاهاته وميوله. وهذا التفكير يمكن أن يكون تفكيرا فعالا إذا ما تحققت فيه شروط: كأن تتبع فيه أساليب ومنهجية سليمة بشكل معقول، وأن تستخدم فيه أفضل المعلومات المتوافرة من حيث دقتها وكفايتها، واعتماد مصادر موثوقة للمعلومات، والاستعداد للمراجعة المتأنية لوجهات النظر المختلفة، والاستعداد لتعديل الموقف، والانفتاح على الأفكار والمدخلات الجديدة، وإصدار الأحكام عند توافر المعطيات والأدلة… وفي غياب هذه الشروط يكون التفكير غير فعال؛ حيث يبنى على مخالطات ومغالطات، أو افتراضات باطلة، أو حجج غير متصلة بالموضوع، ويهدف التضليل وإساءة استخدام الدعاية لتوجيه النقاش، بعيداً عن الموضوع وعن الاهتمام العام والمشاكل الحقيقية التي يعيشها المجتمع، ووضع فرضيات مخالفة للواقع…
فالتفكير إذن عملية أو نشاط ذهني يسعى به الإنسان مستعملاً التذكر والتحليل والمراقبة الذهنية عن طريق ترتيب المعلومات وسبرها، للتوصل إلى قرار أو موقف أو نتيجة.فهو يبلور سلوك الإنسان المفكر نتيجة عدة أمور، كالعاطفة والفكرة والدافع والقدرة. وعلى أساسها يكون سلوك الإنسان سلوكاً مرضياً أو غير مرضي. كما أن الخوف والقلق والتشاؤم والسوداوية والرضا والقناعة والفأل والانبساطية لها أثرها في سلوك المفكر. وإذا كان المفهوم الصحيح للتفكير العلمي شاملا ومتكاملا يتسع لجميع مجالات الحياة وجوانب المعرفة، فإنه يتطلب بعض الضمانات والضوابط ليكون تفكيرا فعالا وإيجابيا باعتبار أن التفكير الايجابي هو بداية الطريق للنجاح، فحين يفكر الإنسان بإيجابية، فإنه يبرمج عقله ليفكر إيجابياً، ويؤدي إلى الأعمال الإيجابية، ويتخذ لذاته طريقة التفكير المنتج والمتبلور في منهج معين لفهم وتحليل وتشخيص الواقع، وفق العلاقة السببية بين متغيرات هذا الواقع؛ حيث يتم التعرف على أسباب المشكلات، كما تتم دراسة الأولويات والبدائل لحل المشكلات، مع انتقاء الأساليب والوسائل الناجعة في العلاج.
ولعل مما ينبغي مراعاته في عملية التفكيرالإيجابي المنتج النظر في المآلات وما تنتهي إليه الأمور؛ مما يساعد كثيراً في معرفة الشيء وحكمه. وقد جاءت هذه الطريقة للتفكير في القرآن الكريم في آيات منها قول الله تبارك وتعالى: “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ” (الأنعام:11)؛ إذ بالنظر إلى المآلات تتضح النتائج والأحكام. وأيضا استشارة أهل الاختصاص، بالرجوع إليهم وسؤالهم، فيما يحتاج إلى ذلك، من أدوات التفكير، وعدم الخوض فيما لا يحسنه المفكر، ولا يعطي نفسه الصلاحية للخوض في أي موضوع، وهو لا يحسنه، فإن قيمة كل امرئ ما يحسنه. ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه، ولعل هذا يساعد في حصر الاحتمالات وسبرها. إضافة إلى التصور والتخيل الجيد من خلال منح الذهن فرصة تصوره وتخيله للشيء، باعتبار أننا نحكم على الأشياء بحسب تصورنا وتخيلنا لها. فإذا أردنا أن نفكر بصورة صحيحة، فلتكن تصوراتنا للأشياء جيدة، ومتكاملة وواضحة. والتزام ضوابط التفكيرفقد نملك أدوات التفكير، ومع ذلك لا نصل إلى معرفة الحق أو إلى فعل الصواب إلا بضبط أدوات التفكير بها، وإلا اختل نظرنا العقلي، وباء تفكيرنا بالفشل، والإيمان بأن للعقل حدوده.
فلا يمكن لأي الخوض في الغيبيات المحذورات ومسائل الشرع. إذ العقل تابع للشرع. فإن للعقل طوراً لا يعدوه كما أن للبصر حداً لا يعدوه! واستحضار مجموعة من أخلاقيات التفكير، كتجنب الحزبية الضيقة، والوصولية والانتهازية، والحسد والكبر، والتعصب بدون دليل للرأي وللآباء، والتماهي مع فكر الآخرأومتابعته بدون نظر، إذ لا يعقل أن يكون المفكر إمعة، يتأثر برأي غيره دون أن ينظر هل هذا الأمر حسن أو غير حسن! فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه: “لا يَكُونُ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً. قَالُوا: وَمَا الإِمَّعَةُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: يَقُولُ: إِنَّمَا أَنَا مَعَ النَّاسِ إِنِ اهْتَدَوا اهْتَدَيْتُ، وَإنْ ضَلُّوا ضَلَلْتُ، أَلا لَيُوَطِّنُ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ عَلَى إِنْ كَفَرَ النَّاسُ أَنْ لا يَكْفُرَ” – رواه البخاري (الفتح 13/318)، ومسلم (النووي 12/3).
وهذا النوع من التفكير هو الذي يحتاجه المجتمع في واقعه المعيش؛ إذ كلما كان تفكير الإنسان منضبطا، واسع الأفق فإن ذلك أحرى وأجدى أن يصيب الحق، وأن يكون صواباً وفي خدمة المجتمع، وعاملا لتقدمه؛ لأن كل مجتمع يسعى الى تحقيق سعادة مواطنيه ويروم تنمية إمكاناته المادية والثقاية والاقتصادية، والحرص على خصوصياته وتوجيهها توجيها ايجابيا، بما يجعلها منفتحة على الآخر، وقابلة للاختلاف معه، دون السقوط في الذوبان في فكر وقيم ذلك الآخر؛ لأن هذا الاختلاف، وصيانة الخصوصية، واحترام الهوية… يؤدي الى سلامة الفكر، وتنوع الأفكار المنتجة، كما وتتيح مجالا لقبولها، كمدخل للتنمية، ومعالجة الإشكالات المجتمعية بكل تلوناتها، وهذا من شيم التفكيرالموضوعي الذي يؤمن بالمنطق، ويخضع لسلطة الحجة والدليل، وينطلق من مقومات المجتمع الذي يعيش فيه، ويعمل من أجله، ويفكر في مشاكله وتحدياته، ويحتكم الى ثوابته وتوافقاته، وهذا ما كنا ولازلنا نلاحظه في الإنتاج الفكري لكثير من المفكرين والعلماء الذين أثروا المكتبة العربية الإسلامية، فقرأنا لمفكرين كبار، فلاسفة، مزجوا بين الرياضيات والفلسفة، بين الفلسفة والفقه، بين الفلسفة وعلم الكلام وعلم الاجتماع والسياسة والفقه وعلم الاجتماع والرياضيات…
ومما ميز تفكيرهم أنهم يخضعون للحق وللنتائج والاستنتاج بكل موضوعية علمية واستعدادهم لقبوله.وما عودة بعضهم عن طريق الضلال والزيغ الفكري الى نور الإيمان والتراجع عن النظريات التي تبث خطأها، إلا دليل على اعترافهم بالحق، وإيمانهم بالحقيقة الموضوعية. وهذا ما حدث مع كثير من علماء الغرب المنصفين حيث قاموا بمراجعة الذات، والموقف من الدين، للإعلان عن الإيمان والدخول في الإسلام، ولم يقدموا على ذلك إلا بعد يقينهم وتيقينهم أن الحق واحد، والباطل أنواع ومذاهب، وعلموا أن الدين يسعى من خلال نصوص الوحي إلى الحق، وبما أن البحث العلمي غرضه الوصول إلى حقيقة الأشياء للوصول إلى الحق، فلا يمكن للحق أن يضاد الحق، كما استنتج وبين ذلك علماؤنا ، ومن هنا كانت تلك العودة إلى الإيمان. والنماذج كثيرة في هذا المجال.
إن المشكلة عند دُعاة الانفتاح والتطوير والتجديد هي (تعظيم العقل)، وسوء الظن بالنقل، ولهذا ردوه أو أوَّلُوه وحرفوه، وما ذلك إلا نتيجة الانبهار بثقافة غير المسلمين وآدابهم وأفكارهم ومناهجهم، وعدم العلْم بالإسلام، والاعتزاز به، والثقة المطلقة بصدقه، ودلالته على الفلاح والهداية في الدنيا والآخرة، وهو من جهة أخرى يدل على ضعف شخصية المنبهر، وهزيمة نفسه، وقصور فكره… ولا يتخيلون التقدم والتنمية والنهضة إلا من خلال التغريب والاقتداء بالغرب، وتجاوز الدين والثقافة الخصوصية. ولنا في فكرنا العربي أمثلة متعددة: فنجد مثلا الأديب طه حسين؛ حيث يقول: “إن سبيل النهضة واضحة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يُعاب” (مستقبل الثقافة في مصر ص:46، القاهرة).
كما يحاول التوجه “الحداثي” الذي يفسر الحداثة باعتبارها تنكرا للدين، وعدم الاعتراف به دستور حياة الإنسان، وضابطا لعلاقاته في هذا الكون، أن يصادر النصوص الشرعية معتمدا على مقولة تاريخيَّة النصِّ القرآني، معتبرا المعاني المعروفة في كتب التفسير في النصوص لَم يعد لها مكان في العصر الحديث، ويراها نصوصا مفتوحة لمناقشة وإعادة النظر من قبل العلماء “المتنورين”.
يقول حسن حنفي: “يُمكن للمسلم المعاصر أن ينكرَ كل الجانب الغيبي في الدِّين، ويكون مسلمًا حقًّا في سُلُوكه” (“قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر” ص:91)، ويقول محمد أركون: “فالقرآن نصٌّ مفتوح على جميع المعاني، ولا يُمكن لأيِّ تفسير أو تأويل أن يغلقه أو يستنفذه بشكلٍ نهائي (“تاريخية الفكر العربي الإسلامي” ص:145)، ويرى أنها لا بُدَّ من الاعتماد على قراءة جديدة للنص، يقول أركون أيضًا: “إن القراءة التي أحلم بها هي قراءة حرة إلى درجة التشرُّد والتسَكُّع في كل الاتجاهات، إنها قراءة تجد فيها كلَّ ذات بشريَّة نفسها”، وبناء على هذا فلا توجد في مخيلتهم حقيقةٌ مُطلقة للمعاني القرآنية، بل هي أمورٌ نسبيَّة، وفي ذلك يقول أركون: “إنَّ القول أن هناك حقيقة إسلامية مثالية وجوهرية مستمرَّة على مدار التاريخ وحتى اليوم ليس إلا وهْمًا أُسْطوريًّا، لا علاقة له بالحقيقة والواقع” (“الفكر الإسلامي نقد واجتهاد” ص:246-247).
وإذا كان هؤلاء يمثلون أهرامات الفكر العربي أسهموا في إثراء المكتبة العربية بخلفياتهم الفلسفية ومنطلقاتهم الإيديولوجية، دون السقوط في الانحلال القيمي، والانسياق وراء التطبيع الارتزاقي، مما جعلهم محل احترام وتقدير من المحب والمتعاطف والمخالف، فإنه عند ما يدخل بعض مريديهم وأشياعهم في مخاطرة الجحود والتنكر للحقيقة، وإعلان التنطع والوفاء الأعمى لمعتقده الإيديولوجي، الذي ورثه عن فترة المراهقة ، ولم يستطع التخلص من هذه المرحلة؛ حيث بقيت متحكمة في فكره ومنطقه اللامنطقي بفعل عوامل متعددة كالحب في إبراز الذات، والميل إلى الشهرة والبحث عن المواقع، وحماية المصالح الخاصة، والخضوع للرأي الشاذ، والتمرد على الأعراف والهوية، والتنكر للحقائق…وهذه كلها من مظاهر المراهقة الفكرية والسياسية. في الوقت الذي يتطلب فيه العمل بإيجابية ممكنة لإنقاد المجتمع من براهن التخلف وأسباب الانحطاط، من خلال عمل المفكر السياسي والاجتماعي والديني والاقتصادي… والمشاركة في تحمل المسؤولية الذاتية من خلال وقفة للتأمل، والتقويم الذاتي للإنسان المفكر في علاقته بنفسه وعلاقتع بخالقه وبغيره من إنسان وحيوان وجماد،و علاقته بمجتمعه.آنذاك يسقط ذاك الإنسان في عملية تفكير تنتفي عنها صفة الإيجابية والفاعلية، والتي قد تؤدي بهم إلى التهريج.
فالملاحظ أن فئة من المفكرين وأشباه المفكرين، يتظاهرون بحمل لواء الدفاع عن قضايا المجتمع، نراهم يسيرون في اتجاه معاكس لأهداف ورغبات ذلك المجتمع؛ بل ويحاولون تقويض البقية الباقية من قيمه وأعرافه. ويبلغ هذا التوجه أقصاه عند إنكار نصوص الوحي، ومخالفة أحكام الشرع وضرب ثوابته بدواعي التفكير الحر، وحرية التعبير؛ مما يسقطهم في عملية التهريج داخل المجتمع وإيقاض الفتنة بين فئاته. ذلك أن حقيقة التهريج أنه (مصدر هَرَّجَ).يطلق على من لَمْ يَتَوَقَّفْ عَنِ التَّهْرِيج أي عَنِ التَّشْوِيشِ، وَإحْدَاثِ الاضْطِرَابِ وَالفَوْضَى.فيقال هرج في الحديث بمعنى مزح وأتى بما يضحك، والمبالغة المصطنعة في التعابير والحركات، أوالاعتماد على تكرار الفاظ غير لائقه بقصد أن تشتهر، ويرددها الناس، والتي في الغالب تصيب المتلقي بالملل والتضجر، بما يحمله مفهوم التهريج من خلط وتجاوز وتجاهل للحدود، وعدم الإيقان بالأَمر، أو شيء تراه في النوم وليس بصادق. (أضغاث أحلام)، فقد روي عن عبد الله بن قيس الأَشعري أَنه قال لعبدالله بن مسعود: أَتعلم الأيام التي ذَكَرَ رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، فيها الهَرْجَ؟ قال: نعم، تكون بين يدي الساعة، يرفع العلم وينزل الجهل ويكون الهَرْجُ، كما يعتبر التهريج وسيلة للتنفيس عن النفس ومعالجة الصدمات والإقصاء، وحاليا هناك من يضعه برنامجا علاجيا، يطلق عليه عادة العلاج بالضحك أو الضحك العلاجي، وهدفه هو التهريج لمعالجة المشاكل النفسية الصعبة، واكتشاف الشخص لذاته وتقبل نفسه وتقبل الآخرين من خلال شخصية المهرج، التي تعطي مساحة حرة للخطأ، أو أداء حركات لا تسمح شخصياتنا العادية بأدائها، تحت شعار: “التهريج هو الحل”.
ولعل الغاية من كل هذا التهريج من خلال إثارة القضايا المتعلقة بقيم المجتمع وهويته ونصوصه الشرعية القطعية، هو التشويش على كل مخلص يحاول وضع لبنة في إصلاح هذا المجتمع، وتقويض المبادرات الإيجابية، وإدخال أفراده في حالة من اليأس والانهزام النفسي والعدمية وإيقاظ الفتنة بينهم. وهذا له أبعاده التربوية والسيكولوجية على أجيالنا الصاعدة، وهي أبعاد تؤدي بها إلى فقدان الثقة بالمجتمع ومؤسساته وما تقدمه من خدمات؛ وقد ينعكس هذا سلبيا على تعامله معها، من خلال تمرده عليها، ابتداء من الأسرة إلى المؤسسات الدستورية… فلا غرابة أن نجد من يتهجم على القرآن الكريم ويريد تحريف نصوصه لتتوافق مع هواه، وتخدم طموحاته، كما نجد من يعلن أمام الملأعدم اقتناعه بالأدلة القرآنية باعتبارها قاصرة وظالمة، في الوقت الذي يعلن فيه ولاءه اللا مشروط للتقارير الأجنبية المصنوعة من طرف جمعيات لها أهدافها غير المعلنة، معترفة ومفتخرة أمام الملأ بالتمويل الذي تتلقاه منها، وهناك من يتجاوز كل ذلك الى الولاء التام للمواثيق الدولية وسموها على كل المبادئ والقيم والقوانين… وهو يعلم الهدف منها ومدى تطبيقها في بلدها الأصلي. ولا غرابة أيضا أن نجد مظاهر الاعتداء على الآباء والأمهات والأقارب وحتى على الوزراء… كما نلحظ كثرة جرائم الاغتصاب والاعتداء على الدين والنفس والعقل والمال والعرض… بفعل ما أ شيع من مفهوم للحرية الفردية والتشجيع على السلوكيات المخلة بالحياء والاستعفاف…
إن المجتمع اليوم في حاجة إلى تجميع الطاقات ومحاولة التوسع في دوائر الخير، وإثارة وتنمية الجوانب الإيجابية، وتقديم النماذج الخيرة القدوة في المواقع المتعددة، والعمل من داخل المجتمع لا من خارجه؛ لأن العمل من خارج الحضارة وخارج المجتمع سوف يؤدي إلى القطيعة والمحاصرة والتخلف والعجز، حتى ولو حقق بعض الحماية الموقوتة، وهذا مدخل من مداخل البناء ومحاربة الفساد، رغم اختلاف الآراء الذي يجب أن يكون اختلاف تنوع، وعملية طبيعية تفرضها سنة التدافع، باعتبار أن المدافعة سبيل للنمو، وشحذ للطاقات، وتجميع للقدرات، وترقية للمواهب، واكتشاف للسنن، وتطوير للملكات، وإدراك للنواميس الفاعلة في الحياة، بل هي سمة الحياة الدنيا وسبيل استمرار التاريخ البشري على الأرض. آنذاك يمكن القول بأن الاختلاف في النظر والتوجيه والتأطير والتفكيرالإيجابي يؤدي دوره في هذا البناء؛ لأن التفكير السليم والمنضبط بضوابطه الموضوعية والذاتية يكسب صاحبه المصداقية وأهلية التأطير الفكري لأفراد المجتمع، وينتج فكرا تنمويا ناضجا، يساعد على إصلاح المجتمع، ويقوي لحمته، ويبني اقتصاده، ويسهم في تنشئة أجياله… فالمجتمع المغربي مجتمع إسلامي مسلم معتز بثقافته وهويته، متمسك بدينه رغم كثرة معاول الهدم فيه، لكن الخير فيه سيبقى أبد الآبدين، وكأن الله سبحانه استجاب لدعاء الصحابي الجليل عقبة بن عامر (ت 58هـ) حول القيروان من بلاد المغرب عندما شارك في فتح إفريقية حيث قال: “اللهم املأها علما وفقها، واعمرها بالمطيعين والعابدين، واجعلها عزا لدينك وذلا لمن كفر بك، وأعز بها الإسلام، وامنعها من جبابر الأرض”، إن المجتمع اليوم يحتاج الى التفكير الإيجابي المنتج بدل الهرولة نحو التغريب والتمييع والتثبيط والتدريج والتهريج.
ــــــــــــــــــــــــ
* مؤطر تربوي وباحث في التربية الإسلامية