وقفة تساؤل مع العلمانية
د. رشيد نافع
هوية بريس – الثلاثاء 18 مارس 2014
الحمد لله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد بن عبد الله الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وعلى آله وأصحابه، ومن نهج نهجهم وسلك سبيلهم إلي يوم الدين.
أما بعد:
“العلمانية كما لا يخفى مذهب جديد، وحركة فاسدة تهدف إلى فصل الدين عن الدولة، والانكباب على الدنيا، والانشغال بشهواتها وملذاتها، وجعلها هي الهدف الوحيد في هذه الحياة، ونسيان الدار الآخرة والغفلة عنها، وعدم الالتفات إلى الأعمال الأخروية أو الاهتمام بها، وقد يصدق على العلماني قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ) رواه البخاري (2887).
وقد دخل في هذا الوصف كل من عاب شيئاً من تعاليم الإسلام قولا وفعلا، فمن حَكَّم القوانين وألغى الأحكام الشرعية فهو علماني، ومن أباح المحرمات كالزنى والخمور والأغاني والمعاملات الربوية واعتقد أن منعها ضرر على الناس، وَتَحَجُّرٌ لشيء فيه مصلحة نفسية، فهو علماني، ومن منع أو أنكر إقامة الحدود وادعى أن إقامتها تنافي المرونة، وأن فيها بشاعة وشناعة، فقد دخل في العلمانية.
وهذا التيار الذي نحن بصدد الحديث عنه، هو تيار “العلمانية” ذلك المصطلح الغربي الذي يوحي ظاهره أن طريقة الحياة التي يدعو إليها تعتمد على العلم وتتخذه سنداً لها ليخدع الناس بصواب الفكرة واستقامتها. حتى انطلى الأمر على بعض السذج وأدعياء العلم فقبلوا المذهب منبهرين بشعاره، وقد أوصلهم ذلك إلى البعد عن الدين بعداً واضحاً.
ولي مع العلمانية وقفة واحدة لا غير
وهي: هل العالم الإسلامي اليوم في حاجة إلى العلمانية؟
مما لا يصح أن يختلف فيه اثنان أن العالم الإسلامي ليس بحاجة إلى العلمانية بجميع صورها وأشكالها، وذلك لأمور كثيرة، من أهمها:
1- كمال الدين الإسلامي: وقد شهد بذلك أصدق القائلين ورب العالمين، عالم الغيب والشهادة، فقد قال في كتابه الكريم:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك” قطعة من حديث رواه ابن ماجة وصححه الألباني
فالإسلام دين كامل ونعمة تامة رضيه الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد اتضح بما لا شك فيه حتى عند أعداء الإسلام أن هذا الدين هو الدين الصحيح والمنهج السليم لسعادة البشرية وتحقيق آمالهم في الحياة السعيدة والأمن والأمان، قال الفيلسوف “برناردشو”: إني أعتقد أن رجلاً كمحمد لو تسلَّم زمام الحكم المطلق في العالم أجمع لتم له النجاح في حكمه، ولقاده إلى الخير، ولحلَّ مشاكله على وجه يكفل للعالم السلام والسعادة المنشودة”.
وقد جربه المسلمون حينما كانوا يطبقونه قولاً وعملاً، فكانوا سادة العالم والمنقذين للبشرية من الجهل والخرافات والظلم والتوجه الحق لعبادة فاطر السماوات والأرض ونبذ عبادة من عداه، ولهذا ولغيره فإنه لا يوجد أدنى مبرر لأي مسلم أن يُعرض عنه ويتخذ العلمانية اللادينية الجاهلية عقيدة ومنهجاً له إلا مَن سفه نفسه، ومن المؤسف أن يتكاثر السفهاء ممّن ينتمون إلى الإسلام للتهافت على موائد العلمانية القذرة وأن يزجوا بأنفسهم في الظلمات بعد أن وصلوا إلى النور وأن ينحدروا إلى الهاوية بعد أن وصلوا إلى قمة الأمان، وكأنهم لم يسمعوا بأنين أصحاب الحضارات الجاهلية والظلم الفادح الذي يتجرعون غصصه والخوف الشديد الذي يعيشونه، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً، وكأنهم لم ينتفعوا بما جرَّبه غيرهم من طلب العز بغير الإسلام وما وصلوا إليه من الذل والحقارة.
ومن كمال الإسلام أنه لم يدع أي أمر يحتاج الناس إليه إلا وبينَّه أتم بيان وأوضح حكم سواء أكان ذلك في الاعتقادات أو في المعاملات، ويطول الكلام لو أردنا أن نستقصي أمثلة ذلك، بل يحتاج إلى دراسة خاصة، كما يلاحظ القارئ الكريم من خلال جهود علماء المسلمين قديما وحديثاً في بيانهم لكل ذلك على هدى من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تجد ذلك الشمول في الإسلام لجميع جوانب الحياة عقيدة وسلوكاً في كل ما يتعلق بحياة الناس الدينية والدنيوية، وعلى سبيل المثال انظر بيانه للشرك وأقسامه، والتوحيد وأقسامه، وتثبيت المراقبة الذاتية في قلب كل مسلم، والحث على الإخلاص في كل شأن وحسن المعاملة وتثبيت الفضائل والتنفير عن الرذائل والأحكام الصالحة لكل زمان ومكان، والتكافل الاجتماعي الحقيقي والمساواة بين الناس.
فلم يخلُ أي جانب من جوانب الأعمال القلبية والحسية من وقوف الإسلام عنده وبيانه بصورة واضحة ترغيباً وترهيباً.
تجد فيه التنفير عن الرياء والغلظة والحسد والنفاق والكبر وسوء الظن والكذب والبهتان والغيبة والنميمة وشهادة الزور والغش وقذف المحصنات الغافلات وظلم النفس وظلم الآخرين وعدم الرفق بالإنسان أو الحيوان وتحريم غمط الناس وإخلاف الوعد.. إلى آخر الصفات فتنشأ في النفس المراقبة الذاتية لله تعالى التي ينتج عنها الإخلاص الذي هو مصدر كل خير وينتج عنها الخوف من الله تعالى، بينما هذه الصفات مفقودة في العلمانية، وفاقد الشيء لا يعطيه.
ولهذا نجد أن الجرائم في العالم العلماني منتشرة بشكل مخيف دون أن تجد لها الأحكام الرادعة في غياب الخوف من الله تعالى وعدم مراقبته، فلا تجد فيها الدعوة إلى التواصل والتراحم والعطف على الضعفاء والمساكين وصلة الرحم وحسن الجوار والمعاملة بالتي هي أحسن، كما يظهر فيها النقص الواضح في قضايا المعاملات سواء كانت في البيوع أو النواحي الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية وسائر المعاملات، فلا يوجد ذلك الإحساس الطيب بين الفرد ونفسه وبينه وبين قرابته، وبينه وبين سائر المجتمع، وعلى هذا فإننا نقول وبكل تأكيد واطمئنان أنه لا توجد أي حاجة أو مبرر للالتفات إلى الجاهلية العلمانية وقوانينها البشرية القائمة على التناقض والاضطراب، بل ليس فيها ما يغري بها عند أصحاب العقول والهمم الرفيعة طلاب الحق والمعرفة.
2- لأنها لا تتفق مع الإسلام، وقد سبق الردّ على من زعم وجود التوافق بينهما.
3- ولأنها لا تصل إلى بلد إلا وأنتجت من الشقاء والفوضى في الحكم والأخلاق والقيم وسائر السلوك ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
4- ولقد ثبت فشلها في إسعاد المجتمعات التي ابتُليت بها، فلماذا يجربها من ليس في حاجة إلى شيء من تعاليمها، ولماذا يدخل نفسه في شقاء لا مبرر له، والعاقل من اتعظ بغيره.
5- ولأن المسلم لا يجوز له الشك في صحة تعاليم الإسلام الحنيف، ولا أن يفضل القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية.
6- ولأن وجودها في أوربا وفي سائر المجتمعات الجاهلية كان له ما يبرره لفساد الحال فيها كما تقدم في مقال سابق، بخلاف الأوطان الإسلامية التي أشرقت تعاليم الإسلام بها.
7- ولأن عقيدة الإسلام واضحة تمام الوضوح في بيان أمر الألوهية والنبوات وكل ما يتعلق بأمر البشر والتشريع، فالله تعالى واحد لا شريك له {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3-4] والأنبياء بشر أرسلهم الله ليسوا بأبناء الله تعالى ولا شركاء له، والبشر كلهم عبيد لله تعالى {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا} [النساء:172]، والتشريع كله لله تعالى الذي لا محاباة فيه ولا مجاملة لأحد على حساب أحد كما هو حال القوانين الوضعية.
8- ليس في الإسلام حجر على أي شخص أن يتصل بربه مباشرة وبلا واسطة، إذ الكل عبيد له سبحانه، أقربهم إليه أتقاهم له، بخلاف ما كانت عليه الكنيسة إذ لا وصول فيها إلى الله تعالى إلا من خلال رجال الدين الرهبان والقسس الذين هم نواب عن المسيح الرب ويمثلونه -بزعمهم- مما أثار ثائرة المفكرين الغيورين على مستقبل حياتهم وحياة أبنائهم.
9- ليس في الإسلام رجال دين “وهذا مصطلح علماني” ورجال دنيا، أو رجال تشريع وقانون، أو رجال طبقات مسخرة، وغير ذلك من أوضاع الجاهلية، فالناس في الإسلام كلهم في درجة واحدة في الأصل والتكليف لا يتفاضلون إلا بعلمهم وعملهم الصالح، فلا مزية بينهم إلا في هذا الميدان، وبالتالي فلا يوجد فيه ما يبرر وجود تلك العداوات والعنصريات التي توجد في النظم الجاهلية العنصرية.
10- الإسلام يحترم العلم ويحث على طلبه بكل الوسائل كما يحترم العلماء ويثني عليهم {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر:28]، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، وميدان العلم في الإسلام فسيح يشمل كل جوانب المعرفة، سواء ما يتعلق منها بالدين ومعرفته أو بالأمور الدنيوية ومعرفتها من طب وزراعة وتجارة وصناعة وغير ذلك، بينما في الديانة النصرانية لا علم إلا ما أشار إليه الكتاب المقدس، ولا حق إلا ما تفوَّه به رجال الدين مهما كان الأمر، ومن هنا كان العلم عند المسلمين يدعو إلى الإيمان، بخلاف ما عند النصارى ورجال العلمانية المحاربين للدين باسم العلم.
ومن الغريب أن تجد في العالم الغربي اللاديني أن الذين ينادون بالعلمانية اللادينية هم أنفسهم الذين يساعدون الاتجاه الديني عند النصارى في دعم التنصير والاستشراق، وهم الذين يمدون الكنائس بالأموال السخية في سبيل نشر الفكر الغربي، بينما العلمانية في البلاد الإسلامية أُريد لها أن تقوم على قطع كل صلة للمسلم بدينه، إذ كانت القسمة هكذا إما أن تكون شخصاً علمانياً مثقفاً متطوراً، وإما أن تكون دينياً جامداً متخلفاً، ومن هنا نشأ بُغضُ الدين الإسلامي في قلوب الحمقى ممن ركن إلى هذه الخدع الإجرامية الغربية النصرانية، فلماذا لم يظهر هذا التمايز اليوم بصراحة في الغرب النصراني الذي تسلل إلى زعامته كبار المنصرين، والذي اتخذ من التنصير والاستشراق ستارا كثيفاً بسط نفوذه في العالم الإسلامي؟
لماذا أصبح المندهشون من الحضارة الغربية وهم ينتسبون إلى الإسلام يستحي أحدهم أن يقول أنا متطور ومثقف ومسلم في آن واحد، وديني هو الدين الذي دعا إلى العلم وعزَّز القائمين عليه وأكرمهم غاية الإكرام؟
وفي كل ما تقدم وغيره عظة لكل عاقل، إذ يزداد المؤمن إيماناً بدينه وبنبيه صلى الله عليه وسلم، ويعرف أهداف العلمانية وما تسعى إليه من حرب الإسلام والمسلمين وسائر السلوك الحسن.
والحمد لله رب العالمين.