أن تكون متدينا هذا الزمان
ذ. أحمد اللويزة
هوية بريس – الأربعاء 19 مارس 2014
إنها منتهى الغربة في زمن الغربة، تلك التي يعيشها المتدينون في هذا الزمان، أولئك الذين رغبوا في التزام شرع الله،وأرادوا أن يكون هواهم تبعا لما جاء به دين الله الذي أوحاه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تكون حياتهم تتوافق مع ما يريده خالقهم ومولاهم، أولئك الذين تحرروا من الأهواء في زمن تغولت فيه الأهواء، وتجردوا عن الشهوات في زمن طغت فيه الشهوات، فكثر صرعاها وزاد عبيدها، وتاه عشاقها في دروب الضلال والانحراف.
غربة الدين والتدين تلك التي يعشها من ابتغى رضى الله بسخط الناس، ولم يرغب في رضا الناس بسخط الله، الذين جعلوا القرآن والسنة حكما وفيصلا في شؤون حياتهم يأتمرون بأمرهما وينتهون بنهيهما، وهم في قمة السعادة حين يخضعون لسلطان الله، ولم تخضع رقابهم لنزغات الشيطان ولم يقعوا في شراكه، فسلمهم الله من الغواية، وحبب إليهم الايمان وزينه في قلوبهم، كره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
أن تكون غريبا في هذا الزمان ليس من السهولة بمكان، وأن تصبر على الغربة أصعب مما كان، فالشعور بالغربة بسبب التدين وسام شرف لا تساويه أوسمة الدنيا بأسرها. لكن المهم هو الحرص على ذلك الوسام من الضياع؟ إنه وسام طوبى من الله الكريم لأهل الغربة في هذا الزمان، فنعما به.
أن يصير الدين وأهل التدين غرباء فذاك ما نعيشه اليوم بمختلف المظاهر والتجليات، وكلما اجتهد المرء في التزامه بالدين الصحيح، ولازم البيضاء ليلها كنهارها، إلا واشتد عليه وطأ غربته، غريب بين القريب والبعيد، غريب بين أهله وقبيلته، بين أصدقائه وجيرانه، بين شركائه في عمله ووظفته… بل غريب حتى بين من يحسبون أنفسهم أنهم على شيء من الالتزام، بل إنه يشعر بتلك الغربة حتى مع نفسه؛ حين يلتفت يمينا ويسارا فيرى الجحافل قد سارت في طريق، واختار هو طريقا غيره، فتراوده الأمارة بالسوء ما لك ولهذا الانعزال؟ أكلهم على خطأ وأنت على صواب؟ ولولا تثبيت الله لاستهواه ضلال الكثير. لكنه رام طريق الحق، وأيقن أنه أمة وحده.
المتدين الغريب اليوم لا يعيش إحساس الغربة بين قومه فحسب، ولا ينظر إليه من حوله على أنه غريب عن عالمهم الذي يعج بمخالفة شرع الله، بل إنه يتعرض للاستفزاز والتضييق، والإهانة والتحقير، وهلم جرا… لأنه يشعر الآخرين بالذنب فيفكرون في الانتقام، ويسلكون مذهب من قال: أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون، يسخر منه الكاتب والمبدع والفنان والإعلامي والسياسي والمشرع والحقوقي والقانوني والخواص والعوام…، يستعظمون اختياره لأصعب اختيار، ويستنكرون انفراده عن ركب القطيع المقود بعصا الشهوة والغريزة والهوى.
يتفننون في وصفه بأقذع الأوصاف لعله يهين أو يستكين، يضيقون عليه فرص العيش، وموارد الرزق، وسبيل الحياة، استحوذوا على كل متنفس ينسل منه ليضمن لقمة العيش، أو لحظة استجمام أو راحة بال، ضاق عليه المكان والزمان بمظاهر الخنا والانحلال، مرة بالتصريح ومرة بالتلميح، يرسلون إليه رسائل إما أن تكون معنا أو لا مكان لك بيننا، وصدق من قال: ودت الزانية لوّ أن النساء كلهن زواني.
غاية القبح والنذالة.
مهما ضاقت المنافذ، واشتدت الأزمات واستحكمت حلقاتها فالفارج الله، هذا هو يقين الغريب في الله، فيمضي لا يلتفت لنباح ولا عويل، ولا يهزه عذب الكلام الغاوي، ولا يغريه بريق الضلالة اللامع، يسير إلى الله وكله ثقة لأنه يمشي في النور ومن حوله الظلمات. لئن حقد عليه الحاقدون لأنه لم يكن مثلهم، فهو يشفق عليهم لأنهم ما استطاعوا أن يكونوا مثله.
المسلم الغريب اليوم رجل سعيد بغربته، منتش بها حد الوله، يعيش سعادة ما أدركها المنتكسون والمتحللون من شرع الله، كلما اشتدت غربته كلما زادت سعادته، ودغدغ مشاعره الإحساس بالغربة في العالمين، مهما حاول الكارهون أن يشعروه بالحرمان من لذات المعاصي، وكلما اجتهدوا في إيلامه بأوصاف التشدد والرجعية والتخلف والتعقد إلا وازداد سرورا وحبورا، ولكم أفقد المنهزم المتغلب لذة النصر بابتسامة ساخرة فجن جنونه، وطاشت العقول، فهم بين نارين؛ نار الغواية والضلال، ونار الحقد والحسد على غرباء الزمان.
فطوبى لكم أيها الغرباء.
ومن لم يجد في التزامه غربة فليراجع التزامه.
ومن لم يجد لذة وسعادة في غربته فليحذر فإن شباك الانتكاس قد نصبت له.
فهذا ميزان الاستقامة في زمن الفتن والشهوات والشبهات.
فللالتزام ضريبة، عاقبتها فلاح الدنيا والآخرة.
فمزيدا من الصبر أيها القابضون على الجمر.