وقفات مع كتابات ومقالات في الممارسة السياسية والأنظمة المعاصرة (ح7)
ذوالفقار بلعويدي
هوية بريس – الخميس 20 مارس 2014
تحرير محل النزاع
من خلال ما تَمّ تنقيحه في المقالات السابقة، صار لزاما أن يكون القارئ الكريم قد تحقق من محل الخلاف الذي بيني وبين الأخ الشيخ حماد القباج، والذي لا يتعلق بأصل المشاركة السياسية كما حاول دائما وجاهدا تصوير الأمر في ذهن القارئ وتسويقه إليه، وذلك بإطلاقه القول عند عرضه الخلاف الذي بينه وبين بعض إخوانه السلفيين في ذلك الأمر؛ مثل قوله: «موقف السلفيين من المشاركة السياسية..»(1)، وكقوله «وكثيرا ما كنت أشرح للإخوة فوائد المشاركة السياسية…»(2) إلى غيرها من الإطلاقات كقوله: «العمل السياسي»، وقوله: «التدبير السياسي» و«الإصلاح السياسي» وغيرها من الإطلاقات، مما يوهم القارئ أن المخالف له يفرق بين الدين والدولة!؟ أو أنه لا يعتقد أن السياسة من الدين!؟ أو أنه لا يقرر أنه لا دين دون سياسة!؟
وفي نفس السياق جاء مقاله الأخير الذي هو بعنوان «العلماء والإصلاح السياسي»(3) تأكيداً منه لهذا الإيهام، وبالأخص عند محاولته تشخيص الواقع السياسي في العالم العربي عند قوله: “إن أحداث ما سمي بالربيع العربي؛ أكدت بأن السياسة في العالم العربي والإسلامي في أمس الحاجة إلى إصلاح يدنو بها من كمالات السياسة الشرعية”(4)، بهذا التعبير وبهذه البراءة فالسياسة في العالم العربي عند الأخ القباج (في أمس الحاجة إلى إصلاح يدنو بها من كمالات السياسة الشرعية) وكأن واقعنا السياسي في عالمنا العربي قائم سياسيا على مبدأ العبودية لله، إلا أنه يعاني من معايب هنا ونقائص هناك تحتاج من المصلحين إلى تعديلات وإصلاحات وشيء من الترميمات ترقى به إلى مستوى الكمال. وهذا التشخيص لسياسة عالمنا العربي هو تشخيص غير واقعي لا ينجم مثله إلا عن قصور في التصور.
أقول أن نقطة الخلاف بيننا هي أولا: ليست حول العمل السياسي بذاته، وثانيا هي: حول نوع العمل السياسي في مجتمع نظامه السياسي لا يقوم على قاعدة حكم الشرع وإنما على قاعدة حكم الشعب.
وحكم العمل السياسي في مثل هذا الوضع يختلف عن حكم العمل السياسي في مجتمع يقوم على قاعدة حكم الشرع، فالعمل السياسي ليس له حكما واحدا، وإنما حكمه يختلف بحسب نوعه وبحسب ارتباطه بمبدأ النظام السياسي الذي ينسب إليه.
السلفيون والإصلاح السياسي بين الانكماش والانغماس
والسياسة عندما يراد بها نظام الحكم الذي تنتظم به البلاد، وما يشتمل عليه من أحكام كلية والتي تسمى اليوم باللسان العصري المواد الدستورية. هي من هذه الحيثية تتنوع بتنوع المرجعية التي يستند إليها النظام. ومن ثم يكون النظام إما إسلاميا بحيث المرجعية والسيادة فيه تكون للشريعة، وإما ديمقراطيا وهو الذي تكون السيادة فيه للشعب، وإما ديكتاتوريا وهو الذي تكون المرجعية فيه للحاكم، أو ثيوقراطيا بحيث المرجعية والسيادة فيه تكون لرجال الدين.
وإنه في الوضع الذي تكون المرجعية فيه لغير الإسلام والسيادة فيه لغير الشرع، لا ينبغي أن ينفق جهد المصلحين في قضايا جزئية أو أمور فرعية قبل تقرير ألوهية الله وحده سبحانه في الخلق والأمر؛ لأن الأمر، والحالة هاته، يتعلق بالمبادئ الكلية والقواعد العامة، يتعلق الأمر هنا بالمرجعية التي تنتج عنها الجزئيات، وتسن عنها الفروع. ولهذا، فإنه إذا كان النظام يقوم على أساس عدم الاستمداد من شريعة الله، كان لزاما على المصلحين الموحدين العمل على تكريس مبدأ الألوهية في العبادة والتشريع لتغيير المرجعية أولا، وليس على إصلاح قضايا وتفريعات جزئية، فإن هذا يأتي تبعا. ولقد قيل: “إصلاح الفرع مع فساد الأصل حماقة وجنون“.
نعم، قد نتفق مع الأخ الشيخ حماد القباج في قوله: (أن المجتمع الذي يتفشى فيه الشرك؛ ينجو من الهلاك العام إذا غلب على أهله الإصلاح السياسي الذي يدافع الظلم والاستبداد ومصادرة الحقوق) مستشهدا لذلك بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117](5).
لكن ليس في الآية الكريمة ما يفيد أن للمصلحين الموحدين موافقة أهل الشرك في شركهم ومشاركتهم فيه ولو ظاهراً على أنه واقع محتوم وقدر مقدور لا محالة لهم منه وليس لهم دونه خيار لأجل الانخراط في الإصلاح السياسي المزعوم، وهو الأمر الذي دعا إليه الشيخ حماد القباج إخوانه السلفيين بدعوى الموازنة بين الصالح والأصلح والفاسد والأفسد فينغمسوا في النظام الديمقراطي، إذ قرر، فيما نقله عن محمد بن عبد واحد كامل ومؤيدا له: (إذا لم يكن ثمة خيار ثالث بين الديمقراطية والاستبداد؛ يسوغ الأخذ بالديمقراطية لاجتناب شر الشرين وللتوسل بها إلى تحصيل المصالح الكبيرة،)… (لكنه يوازن بينها وبين غيرها مما يفرضه علينا الواقع)،… (وإنما نختار أهون الشرين، ونأخذ بأقل المفسدتين حيث لم يمكن دفعهما…) وأيضا (فإذا كنا لا محالة سنختار بين هذين الأمرين؛ فالديمقراطية أخف ضررا حالا ومآلا…»(6).
وإذا عدنا إلى الآية الكريمة التي استشهد بها الأخ الشيخ حماد القباج على ما ذهب إليه وأصله لا نجد فيها ما يفيد جواز التوسل بنظام جاهلي لدفع نظام جاهلي آخر، كدعوى التوسل مثلا بالنظام الديمقراطي على دفع النظام الاستبدادي. ولا فيها ما يفيد موازنة الموحدين بين جاهليات زمانهم على أن منها ما هو أهون ضررا من غيرها. وذلك نحو موازنة الأخ الشيخ القباج بين جاهلية العلمانية الديمقراطية وجاهلية العلمانية الديكتاتورية.
فضلا عن هذا كله، فإن الآية الكريمة ليس فيها ما يفيد تحاكم المصلحين الموحدين لإقامة العدل ودفع الظلم إلى مبادئ ومرجعية مشركي زمانهم، حتى نستدل بها على الانغماس في الإصلاح السياسي الذي يفضي إلى تحاكم المصلحين الموحدين في زماننا اليوم إلى مبدأ حكم الشعب أو مبدأ الأكثرية الذي هو قاعدة التحاكم عند الديمقراطيين. فغاية ما تفيده الآية هو أن العمل على إقامة العدل ودفع الظلم ينجي من الهلاك العام وإن صادف شركا أو كفرا بين الناس، وليس فيها ما يفيد قبول الإصلاح على أساس التحاكم إلى غير شرع الله.
وإلا فليقل لنا الأخ الشيخ القباج… ألم يكن أنبياء الله في زمانهم مصلحون؟؟؟
ألم تكن وظيفة الأنبياء عليهم السلام هي الإصلاح، وقد كانت لأقوامهم أنظمتهم الوضعية تقوم على مبدأ رفض الاهتداء بشريعة الله؟
فهل هؤلاء الأنبياء عليهم السلام انخرطوا وانغمسوا وشاركوا أهل جاهليتهم في جاهليتهم، بدعوى أخف الضررين وأقل المفسدتين؟؟؟
أم أنهم رفضوا الباطل وصدعوا بالحق وواجهوا أقوامهم بأن لا تكون دينونتهم لغير الله، وأن لا يكون تشريعهم قائم على غير مبدأ إن الحكم إلا لله؟
وإلا ففيم وقفوا عليهم السلام في وجه أبطش أهل الأرض في زمانهم؟
وقف هود عليه السلام في وجه عاد.
ووقف صالح عليه السلام في وجه ثمود.
ووقف موسى عليه السلام والسحرة في وجه فرعون.
ووقف إبراهيم عليه السلام في وجه النمرود وقومه.
ووقف محمد عليه السلام في وجه قريش وفارس والروم واليهود والنصارى والمشركين والمجوس والناس أجمعين.
في ظل هذه الحقيقة المطردة، والتي تدل على منهاج دعوة الأنبياء عليهم السلام، يبدو أن الدخول في عمل سياسي لا يتم الإصلاح بواسطته إلا على غير مبدأ حكم الشرع مخاطرة وسوء تقدير، لا يقدم عليه عاقل بصير.
إن خلافنا مع الأخ الشيخ حماد القباج ليس حول الحكم على النظام السياسي الديمقراطي؛ أظن أن كفر هذا أظهر من أن يذكر وكذلك عنده.
ولا هو خلاف بيننا حول الحكم على أعيان المسلمين حكاما ومحكومين مع غياب المرجعية الإسلامية في تشريع القوانين، فهذا أمر متعلق بإقامة الحجة وما تستلزمه من تحقيق شروط وانتفاء موانع أصلها العلماء وأجمعوا عليها، والتي من بينها عدم تأويل أو ورود شبهة أو جهل أو خطأ، وهذا أيضا كذلك عنده.
ولا هو خلاف بيننا حول جواز تولي المسلم الولاية عامة كانت أو خاصة في بلاد لا يحكم بشرع الله ولا ينتظم بأحكام الإسلام وإن اشتملت هذه الولاية على مخالفات شرعية.
وإنما خلافنا هو حول دعوى الإصلاح السياسي من السياسي الإسلامي في إطار التزامه بمبادئ النظام الديمقراطي الذي يقوم على مبدأ السيادة لغير الله والتحاكم إلى الأكثرية، وذلك من خلال ولايات من وظائفها ومهامها التشريع من دون الله.
هذا، عندما يكون المراد بالسياسة الكلام عن نظام الحكم الذي تنتظم به البلاد. والديمقراطيون في هذا الحال إن كنا نحب لهم الخير، فهم في أمس الحاجة أن نكون صرحاء معهم، وأن نبين لهم أن الإسلام ليس هو الديمقراطية، وأنه خير منها، وأنه غير قابل للامتزاج بها. ولا نقول لهم أن الإسلام يشبه الديمقراطية، أو أن الديمقراطية لا تحتاج من الإسلام إلا إلى إصلاحات خفيفة. إنهم في أمس الحاجة أن يعرفوا رأينا بصراحة في ديمقراطيتهم؛ فإن الإسلام من عند الله، أما ديمقراطيتهم فهي من صنع البشر. فهم في حاجة أن نردهم إلى الإسلام. ونحن لسنا في حاجة أن نرد إلى ديمقراطيتهم، كما أنه ليس في الحقيقة ما يطلق عليه المهزومون «الإسلام الديمقراطي»، لأنه ليس تمت وسط بين الإسلام والديمقراطية، فالقضية إما حكم الله وشريعته وهذا هو الإسلام، وإما حكم الشعب وأهواؤه وهذه هي الديمقراطية.
هذه هي الحقيقة. أما التهرب من مواجهة الديمقراطيين ومصارحتهم بالكلمة الحاسمة مع الانخراط معهم في شراك ديمقراطيتهم فهذا ليس من المدافعة في شيء ولكنه العجز والاستكانة. مما دفع المنكمشين من بعض إخواننا السلفيين، إلى التذرع بذريعة الاكتفاء بالاشتغال بالتعليم والتعلم. ودفع المنغمسين منهم في وحل الديمقراطية، باستبدال الذي هو أدنى من مسيرات ومظاهرات ووقفات واعتصامات وصياحات الرعاع وهتافات العامة بالذي هو خير، وهو صدع أهل العلم والفضل بالحق.
ظنا منهم أن ما تذرعوا به جميعا يشفع لهم عند الله في تركهم الشعيرة المفروضة والحلقة المفقودة والتي هي فريضة الصدع بالحق. وإن الأمة في زماننا لهي أحوج ما تكون إلى عالم لا يخشى أحدا من الناس، ولا يسكت عن حق وجب نشره، ولا يبالي بسطوة دولة ولا بهوى عامة، يفتي بما دل عليه الشرع، رضي من رضي وسخط من سخط. كما كانت سيرة أنبيائنا مع أممهم، وسيرة من ورث عنهم من علمائنا مع أقوامهم، حكاما كانوا أو محكومين؛ أمثال الإمام مالك، والإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، والإمام العز بن عبد السلام، والإمام البخاري،… وغيرهم كثير من الذين أكدوا أن لسان العالم الصدق ليعمل ما لا يعمله صراخ آلاف الحناجر وعويلها.
هذا عندما يكون المراد بالسياسة نظام الحكم الذي تنتظم به البلاد. أما عندما يراد بالسياسة تدبير الشأن العام للدولة فهذا شأن آخر نرجئ الحديث عنه إلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــ
(1) “مقالات في السياسة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة”، جريدة السبيل، العدد:148.
(2) مقالات في السياسة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة”، جريدة السبيل، العدد:150.
(3) الجريدة الإلكترونية “هوية بريس”، نشر السبت 8 مارس 2014م.
(4) المرجع السابق.
(5) المرجع السابق.
(6) “الاستبصار والتؤدة” (ص 82-83-84).