يُصْلِحُونَ ما أفْسَدَ الناس..
الخطبة السياسية.. الخطبة الثانية: يُصْلِحُونَ ما أفْسَدَ الناس..
د. عادل رفوش
هوية بريس – الثلاثاء 25 مارس 2014
أيها الإخوة المصلحون:
الإصلاح في الإسلام لا يفرق بين العقيدة والسياسة؛ ولعل بعضكم تفاجأ حين علم أن الإمام ابن خزيمة ألّف “كتاب السياسة” كما ألف “كتاب التوحيد”.
ولا عجب؛ فإنه حال السلف الصالح المصلح، ومن سار على دربهم من علماءنا ومشايخنا، الذين حملوا واجب الإصلاح بأمانة لا تُخِلّ ولا تطغى..
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16].
{فَإِنَّمَا عَلَيْه مَا حُمِّل وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور:54].
{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}[النساء:148].
{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}[الشورى:39].
{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الشورى:41، 42].
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}[البقرة:270].
وفي المسند والسنن: “من قتل (أو قاتل) دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد“.
ومن جميل أبواب البخاري قوله: “ظَهْرُ المؤمن حِمىً إلا في حد أو حَقٍّ” (كتاب الحدود)
وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً؛ ما أحب أن لي به حمر النَّعَم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت؛ تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يعز ظالم مظلوماً“.
قال سبحانه: “ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا“.
وفي المسند والسنن: “لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم“.
وقال إمامنا مالك رحمه الله: “ما تعمد الإمام من جور فجار به على الناس فإنه يُقَادُ منه، وقد قاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وعمر من أنفسهم”. (المدونة 4/519).
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[هود:116، 117].
وقد بينا بصائر هذه الآية في مناسبات وذكرنا فقه تغيير المنكرات وحديث أضعف الإيمان بما يسر كل معتصم بمنهج السلف الصالح المصلح؛ فلا نطيل بإعادته…
فإن من غربة الدين وأهله؛ لزومَ صلاحهم في أنفسهم: “يَصْلُحُون إذا فَسَد الناس“.
ووجوب إصلاحهم الحياةَ: “يُصْلِحُونَ ما أفْسَدَ الناس“.
وهذا هو إصلاحُ الصادق المصدوق: إصلاح مدافعةٍ ومساجلةٍ وتوكل على الله تعالى.
وليس الإصلاح المخروق: إما تنسيفاً لسنن الله سبحانه أو تطفيفاً عند الأخذ بها؛ كما شرحناه قَبْلاً في “حديث السفينة“:
فإن الذين أرادوا الخرق بالأسفل تحقيقاً لمصلحة النفس بتوفير الماء دون إذاية جارٍ ولا تضييع وقت ولا تكلف جهد؛ لقد أرادوا تفادي مفاسد محققة وتحصيل مصالح معتبرة؛ ولكن دون موازنة فاحصةٍ عادلةٍ؛ مع “أنَّ القانون في السفينة هو قانون العاقبة”.
ولا يظنن ظان أن النظر في العاقبة يلزم منه الخضوع للجبابرة الظالمين والركون إلى قبيح مواقفهم؛ قال ربنا سبحانه عمن دافعوا ظلم فرعون وواجهوا استبداده:
{قالوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50].
{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
وقال تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [الأعراف:129]،{وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
فلا حرية في عمل يفسد السفينة؛ “فأصغَرُ خرْقٍ مسرعٌ إلى أوسع قبرٍ”؛ فكيف يسكت المصلحون حَقّاً؟؟
وقد مثّل النبي صلى الله عليه وسلم نظرة المخرقين للسفينة الغافلين عن العاقبة -كما يقول الرافعي- “عاطفة شريفة ولكنها سافلة، وحمية ملتهبة ولكنها باردة، ورحمة خالصة ولكنها مهلكة؛ ولن تجد كهذا التمثيل في تصوير البلادة الاجتماعية والغفلة الفلسفية لأناس هم عند أنفسهم أمثلة الجد والعمل والحكمة؛ فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهؤلاء من ألف وثلاثمائة سنة: أنتم المصلحون إصلاحا مخروقاً”.
قلت: ولله در أبي عبد الله البخاري؛ أخرج الحديث في كتاب الشركات، وبيّنا شيئا من فقهه في “العمل الإصلاحي” و”تقرير المصير المشترك”؛ في موضعٍ آخر…
{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}[الإسراء:34].
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[محمد:38].
{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26].
“ولا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله (ظاهرين على الحق) لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس“.
وعند الحاكم والبيهقي بسند حسن: “من استعمل رجلا من عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين“.
وفي الصحيحين أنه صلى عليه ربي وسلم رد على خالد قوله: “وكم من مصل يقول في لسانه ما ليس في قلبه“؛
فقال: “إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم“.
بل قال علي رضي الله عنها عن الخوارج -الذين هم كلاب النار-: “لا تسبوهم ولكن إن خرجوا على إمام عادل فقاتلوهم، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم؛ فإن لهم بذلك مقالاً” رواه الطبري في التهذيب وابن أبي شيبة بسند صحيح..
وقد قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة:83].
قال ابن عباس: “فلو سلم علي فرعون لرددت ولو قال لي جزاك الله خيرا لقلت وجازاك“.
وفي المسند بسند حسن من حديث معقل بن يسار مرفوعا: “لا يلبث الجور بعدي إلا قليلا حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله؛ حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره؛ ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل؛ فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله؛ حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره“.
“ولا يزال الله يغرس في هذا الدين غَرساً يستعملهم في طاعته“.
فهذه “خُطْبَةٌ” في خَطْبٍ أَلَمَّ، وكَلِماتٌ عن وضعٍ أمتنُ من الأطم، لم أرد لِنُجعتها أن تبعد عن “مشكاةِ الوحي”، حتى لا نتهم بالصَّدَرِ عن سواه، أو الرغبةِ في غير خِيَرتِهِ تحكيماً وتسليماً؛ كيف لا وهو -كما يصف الجاحظ: “الأعم نفعا، والأقصد لفظاً، والأعدل وزناً، والأجمل مذهباً، والأكرم مطلباً، والأحسن موقعاً، والأسهل مخرجاً، والأفصحُ معنىً، والأبين فحوى، والأحمد نائلةً وعاقبةً“.
ورحم الله الرافعي إذ تخيل البيان النبوي يتكلم عن نفسه قائلا:
“إني أصنع أمَّةً لها تاريخُ الأرضِ من بعدُ؛ فأنا أُقْبِلُ من هنا ومن هناك، وأذهب من هناك ومن هنا، مع القلوب ومع النفوس ومع الحقائق؛ لا مع الكلام والناس والوقت.
إن هاهنا دنيا الصحراء؛ ستلد الدنيا المتحضرة التي من ذريتها أوروبا وأمريكا؛ فالقرآنُ والحديث يعملان في حياة أهلِ الأرضِ بنورٍ متممٍ لما يعمله نورُ الشمسِ والقمرِ.
وقد كان المسلمون يغزون الدنيا بأسلحةٍ ظاهرها أسلحة المقاتلين، ولكنها في معانيها أسلحةُ الأطباء، وكانوا يحملون الكتاب والسنة، ثمَّ مضوا إلى سبيلهم وبقي الكلامُ من بعدهم غازياً محارباً في العالم كله؛ حربَ تغييرٍ وتحويلٍ إلى أن يدخل الإسلام ما دخل عليه الليلُ..”.
ثم قال رحمه الله:
“فيجيء الإسلام في قوة أخلاقه كشباب الفجر، يبعَثُ حياةَ النورِ الإنساني بَعْثاً جديداً، وهذا هو رأينا في مستقبل الإسلام: لا بد من انحلال أوروبا وأمريكا، كما يصفر النهار ثم يختلط ثم يظلم ثم تطلب الطبيعة نورها الحيَّ من بعْدُ.. -هذا هو الوحي وهذا هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم-؛ لِسانٌ وراءه قَلْبٌ، وراءه نورٌ، وراءهُ اللهُ جلَّ جَلَالُهُ…”اهـ بتصرف…
والله الموفق وهو تعالى أعلى وأعلم.
(قوموا إلى “إصلاحكم” يرحمكم الله).