حَسَدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيَه
ربيع بن المدني السملالي
هوية بريس – الأربعاء 26 مارس 2014
الحَسَدُ داءٌ عُضالٌ ومَرَضٌ فتّاك ابتُلي به كثير من النّاس، ليسَ في هذا الزمان فحسب، بل في سائر الأزمان، داءٌ إذا حلّ بالقلوب فإنّه يأتي على أخضرها ويابسها، صاحبهُ من أتعس وأبأس خلقِ الله على الإطلاق، عذابُه مُستميت، وتفكيره خبيث، وعقيدتهُ هزيلة كنفسيته الأمّارة بالسّوء، خاصمَ قضاءَ الله وقدرَه، واتّهم الباري عزّ وجلّ في عدله، وأساء الأدب مع الشّرع المطهّر، وخالف الأنبياء والمرسلين وعبادَ الله الصّالحين، وشابه إبليس اللّعين..
هذا الحاسِدُ يتمنى في كلّ لحظة وحين زوالَ كُلّ نعمة أنعم الله بها على أحد من عباده، لا يهدأ له بال ولا يقرّ له قرار، فهو عدو لأناس وخصم لآخرين، لا لشيءٍ ذي بال إلا لأنهم يتمتّعون بأشياءَ ليس له منها إلا التّمني والتّشهي والحسدُ..
(ولله درّ الحسَد ما أعدلَه بدأ بصاحبه فقتله)..
والحاسدُ لا يملك دواءً ناجعاً لقلبه إلا ذلك اللسانَ السّليطَ الطويلَ الذي يسلق به المحسودَ.. كلما واتته الفرصة اهتبلَها لذمه وازدرائه واحتقاره وتنقّصه والكلام في عرضه والنّيل من كرامته..
حَسَدُوا الفتى إذ لم ينالوا سعيَه — فالنّاسُ أعداءٌ له وخصومُ
كضرائر الحسناء قُلن لوجهها — حـسـدًا وبـغـيا إنّـه لـذميـمُ
ورذيلة الحسَدِ قَديمةٌ على الأرض قِدَمَ الإنسان نفسه. ما إن تكتملُ خصائصُ العظَمَة في نفْس، أو تتكاثر مواهبُ الله لدى إنسان حتّى ترى كلّ محدود أو منقوص يضيقُ بما رأى، ويطوي جوانحَه على غَضَبٍ مكتوم، ويعيشُ منغّصا لا يريحه إلاّ زوال النّعمة، وانطفاء العظمة، وتحقّق الإخفاق. كما يقول المفكّرُ الإسلامي محمد الغزالي.
قد جعلَ الله لكلّ ذنبٍ عقوبةً مُستقلّةً يتألّم بها المذنبُ عند حلول أجلها، فالشّاربُ للخمر يتألّم عند حلول المرض، والمقامرُ يتألّمُ يومَ نزول الفقر، والسّارقُ يتألّم يوم قطع يده، أمّا الحاسدُ فعقوبته دائمة، لا تفارقه ساعة واحدة. اهـ بتصرّف من كتاب النّظرات للمنفلوطي.
وبالحسد تتكون السيئات والموبقات التي تهلك الرّجلَ إذا ما حلّت بساحته، كالغيبة والنّميمة، لأنّ الحاسد يغتاب وينمّ باستمرار لعله يُسقط محسودَه من أعين النّاس المعجبين به…
((وسوفَ يبقى هذا الحاسدُ في حُرقة دائمة حتى يموتَ أو تذهبَ نِعَمُ النّاس عنهم. كلّ يُصالح إلا الحاسدُ فالصّلحُ معه أن تتخلّى عن نعم الله وتتنازل عن مواهبك، وتلغي خصائصك، ومناقبك، فإن فعلتَ ذلكَ فلعلّه يرضى على مضض، نعوذ بالله من شرّ حاسد إذا حسد، فإنّه يصبح كالثعبان الأسود السّام لا يقرّ قراره حتّى يفرغَ سُمّه في جسم بريء)). كما يقول القرني في كتابه (لا تحزن).
يقول ربّنا عزّ وجلّ في كتابه الكريم: {أم يَحسُدونَ النّاسَ على ما آتاهم الله من فضله} [النساء:54].
(اليهود) تتّقد في قلوبهم نارُ الحسدِ والكمدِ، إذا رأوا نعمةً من نعم الله تصيبُ عبداً من عباد الله! فهم يتحرّقون غيظاً وكمدًا أن ساقَ الله إلى (محمّد) هذا الفضلَ العظيمَ، ووضع في يده تلك النّعمة السّابغة، حين اصطفاه لرسالته، وأنزل عليه كتابه الكريم.. فمالهم -قاتلهم الله- يحسدون النّاسَ على ما آتاهم الله من فضله. كما يقول الأديب عبد الكريم الخطيب في تفسيره.
يقولُ ابنُ المقفع: ليَكُن ممّا تصرفُ به الأذى والعذاب عن نفسك ألا تكون حسُوداً. فإنّ الحسدَ خُلُقٌ لئيمٌ. ومن لؤمه أنّه موكّلٌ بالأدنى فالأدنى من الأقارب والأكفاء والمعارف والخلطاء والإخوان. اهـ
قلتُ: كثير من الحاقدين الحاسدين يجدون اللّذة في تتبع زلاّت وهنات وهفوات الذين يفوقونهم صلاحا أو علما أو ثقافة أو غير ذلك..
يقول ديل كارنيجي في كتابه الماتع (دع القلق وابدأ الحياة): كثير من النّاس يجدون تشفيّا في اتّهام شخص يفوقهم ثقافة أو مكانة أو نجاحا، مثال ذلك: تسلّمت رسالة من سيّدة تصبّ جامَ نقمتها على الجنرال (وليم بوث) مؤسس (جيش الخلاص).
وكنتُ قبل ذلك أذعتُ حديثا في الرّاديو أمتدحُ فيه الرّجل، وأثني على جهُوده.
وقد كتبت إليّ هذه السّيّدة تقول: إنّ الجنرال (بوث) اختلسَ ثمانية ملايين دولار من المساعدات التي جمعها للفقراء والمساكين.
والحقّ أنّ التهمة سخيفةٌ، وهذه المرأة ما كانت تستَهدفُ الواقعَ، وإنّما كانت تبغي النّيلَ من رجل عظيم، أعظم منها بمراحل.
وقد ألقيتُ برسالتها في سلّة المهملات، وحمدتُ الله على أنّي لستُ زوجاً لهذه المرأة. اهـ
وصدق شوبنهاور حين قال: (ذو النّفوس الدّنيئة يجدون المتعة في البحث عن أخطاء رجل عظيم).
قلتُ: نعم صدق والله وهذا هو الحسَد على الحقيقة عفانا الله وإيّاك أيها القارئ الكريم…
خلاصَةُ القول:
دواءُ الحسد أن يسلُكَ الحاسِدُ سبيلَ المحسود، ليبلغَ مبلَغَه من تلك النّعمة التي يحسُده عليها، ولا أحسبُ أنّه ينفِقُ من وقته ومجهوده في هذه السّبيل أكثر مما ينفق من ذلك الغضّ من شأنِ محسُودِه، والنّيلِ منه، فإن كان يحسُده على المال، فلينظر أيّ طريق سلك إليه فليَسلكه، وإن كان يحسده على العلم فليتعلّم أو الأدب فليتأدّب، فإن بلغَ من ذلك مأربه فذاك، وإلاّ فحسْبُه أنّه ملأ فراغَ حيَاته بشؤون لولاها لقضاها بين الغيض الفاتك، والكمد القاتل. كما يقولُ الأديب الرّائع المنفلوطي.
وأرجو من الحاسد أن يتدبّر قول الشّاعر فلعلّه المقصود به:
يا ناطحَ الجبل العالي ليَكْلِمَه — أشفق على الرّأس لا تشفق على الجبلِ
وأنت أيها المحسود فلا تبَالِ بالحاسد وتعوذ بالله من شرّه، ولا تنسَ أذكارَ الصّباح والمساء، لكي لا تُصابَ بعينه القبيحة، وتحديقه اللّئيم، فإنّ العينَ حقّ كما أخبر بذلك المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. والحديث في صحيح البخاري.
وليكن منك على ذُكْرٍ قولُ السّيّد أحمد بن إبراهيم الهاشمي -رحمه الله- ((أنّ أكثرَ ما يذهبُ إليه العامّة من الغلو والمبالغة في تكبير أمرِ العين وتهويله مبنيّ على الأوهام والأباطيل))..