بين «أزول» و«السلام» أية علاقة؟
د. محمد وراضي
هوية بريس – الإثنين 31 مارس 2014
أثير مؤخرا هذا الموضوع، فكان أن اتصل بي صديق حميم يطلب رأيي فيه، فاستمهلته كعادتي لأن السرعة في الردود من آفات بعض العلماء، والمفكرين، والمثقفين. قال علي بن أبي طالب: “من أخلاق الجاهل الإجابة قبل أن يسمع، والمعارضة قبل أن يفهم، والحكم بما لا يعلم”.
ورأيي فيما أثير حوله الجدل ولا يزال، ألخصه في الآتي:
1- نشأت أمازيغيا قحا بالجنوب المغربي، وحفظت القرآن وأنا دون سن البلوغ بثمان سنوات. ولم أتعلم اللغة الدارجة بأحد دواوير هوارة إلا حين أدركت من عمري ثلاثة عشرة سنة. وحتى إن حملت القرآن في صغري، فإن حملي له لم يفدني إلا في التمتع بولائم تقام في المسجد مرة، وفي منزل أحدهم مرة، وفي باحة أضرحة الصالحين مرة، وعندما يقام مسمى “أدوال” مرة! بغض النظر عما أحصل عليه من نقود وأنا أساهم في بيع البركة لطلابها.
2- طوال حياتي، بعد أن تعلمت الدارجة المغربية، وقبل أن أتعلمها، لم أسمع قط بكلمة “أزول”. فكان أن سمعت بها مؤخرا، والضجة “الفيسبوكية” تتضاعف بمناسبة الهجوم المكثف على شخص دعوي صادق قابلته مرتين عام 1982م، بعد أن كنت أواظب على اقتناء مجلة “الفرقان” التي كان مديرا لها إلى حين توقفها عن الصدور.
إن الشيخ محمد زحل كرجل ناضل وجاهد لإعلاء كلمة الله، لا يستحق التعرض للسخرية ولا الهجمة الشرسة من طرف من هم بمثابة أحفاده! إنه لم يمارس غير حقه في الاختلاف الذي هو حق طبيعي، وديني، وعقلي، وقانوني، ودستوري. وكل ما هو مطلوب، إدلاء المدعي والمعارض بما لديهما من براهين لغاية تأييد أطروحتيهما. إذ الإدلاء بالبراهين -كما قلت وأكرر- من ضمن أعز ما يطلب!
3- أذكر هنا للتاريخ، كيف أن أستاذنا الراحل محمد عزيز الحبابي -وهو يستعد لإلقاء محاضرة بكلية الآداب- تنحنح أمام الميكرفون للتأكد من كونه جاهزا للاستعمال. ولما استعصى عليه إصلاحه، تولى أحد العمال البسطاء معالجة الخلل الذي أصابه. فكان أول ما افتتح به أستاذنا المحاضرة قوله تعالى: “وفوق كل ذي علم عليم” إدانة منه صريحة للغرور والتعالي، لأنه كما قيل “يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر”.
4- نحن مع أستاذنا في الدفاع عما ورد في الذكر الحكيم. إننا مصرون باستمرار على الاستزادة من المعارف. وعلى إضافة الجديد إلى القديم الذي نحن على علم به. قال ص: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”. والعلم بحر لا ساحل له! فقد حاولت صباح اليوم الموالي لليلة التي تلقيت فيها إشكالية “أزول” الاتصال بصديق أمازيغي قديم، لأطلب منه تزويدي بمعلومات حول ما تهمني معرفته. إنما دون جدوى. فقررت أن أدلي في الموضوع برأي حاولت جهدي تعضيده بما يمكن من أدلة نقلية، وبأخرى عقلية، وبأخرى تجريبية.
5- علينا إذن قبل كل شيء وبعده، مناقشة كلمة “أزول”. هل هي أمازيغية الجذور؟ وما مصدرها؟ ومن أي منطقة من مناطق التواجد الأمازيغي كانت ولا تزال تتداول؟ ولماذا لم نسمع بها قبل الآن، وكأنها قد استيقظت من النوم؟ أو تولى منظرون أمازيغيون وضعها أو دفعها إلى الواجهة لاستعمالها بعد أن علاها الغبار لقرون، لا لسنوات، أو حتى لعقود؟
6- إننا لا نناقش الكلمة انطلاقا من الدين، حتى ولو تم إدراجها ضمن قضاياه من طرف البعض، وإنما نناقشها انطلاقا من العقل والتجربة قبل غيرهما. فالعقل يفرض علينا معرفة حد الكلمة. نقصد مفهومها أو معناها. والتجربة تفرض علينا معرفة الدواعي إلى عدم تفعيلها منذ أزمان بعيدة! كما تفرض علينا معرفة الدواعي إلى استدعائها والمنافحة من أجل وضعها محل “السلام” الذي تعودنا اعتماده منذ نعومة أظفارنا لتبادل العواطف والمشاعر مع رفاقنا وأصدقائنا، ومع كل من نقابلهم أو يقابلوننا.
7- إن كانت كلمة “أزول” أمازيغية الأصل أو المصدر، ففي أية جهة من بلادنا كانت تستعمل بدل “السلام”؟ والأسئلة متى طرحناها يصبح لزاما على من وجهت إليهم تقديم إجابات مقنعة مقبولة عليها؟
8- هل الكلمة جرى تداولها على الألسن عبر التاريخ -والرومان، والوندال، والبيزنطيون، والفنيقيون جاثمون على أرضنا-؟ أم إن لها مصادر مكتوبة هي “المعجم الأمازيغي” إن كان لهذا المعجم فعلا وجود؟ ومتى افترضنا وجوده، فبأي لغة كتب؟ وبأية حروف؟ بلغة أمازيغية هنا، أم بلغة أمازيغية هناك؟ بحروف عربية؟ أم بحروف تيفيناغ؟ وهل تم التواطؤ على استعمال “أزول” للتحية بين عامة الأمازيغ منذ قرون؟ أم إن التواطؤ على استعمالها لم يحدث بعد حتى الآن، وإنما هو في طريقه إلى الحدوث؟ وبماذا نفسر الاختلاف بين الأمازيغ أنفسهم في القبول بالكلمة؟ وهل تدخل العصبية في القبول بها، أم إنها أبعد ما تكون عن فرقاء، كلهم ينتمون إلى مازغ بن سام بن نوح عليه السلام كما قيل؟ في إشارة إلى أن جميع أنبياء الله ورسله مسلمون كما ورد في الذكر الحكيم؟
نعم، لن نقول أبدا لا لترجمة القرآن الكريم إلى عدة لغات، فترجمته خدمة للدين، ومشاركة في الدعوة إليه بطرق مباشرة، وبأخرى غير مباشرة. فقد أخبرنا صديقنا القديم: الأستاذ جهادي الحسين، عبر برنامج تلفزي جمعه بأحمد عصيد، بأنه ترجم القرآن إلى الأمازيغية، دون أن نعرف ما إذا كان قد اعتمد الحرف العربي، أم الحرف الأمازيغي (التيفناغي)؟ وأغلب ظننا أنه اعتمد الحرف العربي في ترجمته له، وترجمة المكتوب بالعربية عمل سبقه إليه كثيرون، ولدينا من إنجازاتهم تلك بعض النماذج.
9-بما أن القرآن ورد فيه سلام بضمتين، وبكسرتين، وبفتحتين، كما ورد فيه السلام معرفا بالألف واللام. فإن على المترجم الأمازيغي له -وهو متشبث بكلمة “أزول”- أن يقول مثلا في ترجمته لقوله تعالى: “ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم“. (ونادوا أصحاب الجنة أن “أزول” عليكم)! وأن يقول في ترجمته لقوله تعالى: “والسلام على من اتبع الهدى” (و”أزول” على من اتبع الهدى)!
10- وإذا قيل لنا إن “أزول” كلمة تستعمل فقط عند إلقاء التحية، سألنا عن نوع التحية التي يتم إلقاؤها؟ أهي تحية الإسلام؟ أم تحية غيره من الديانات؟ أم إنها تحية لا تمت إلى أي دين بصلة؟ بحيث إنها لا تعدو أن تكون مجرد ترحاب بشخص أو بأشخاص؟ فالترحاب أو الترحيب، استقبال ودي لا يفترض أن له علاقة بالدين. يقال: قابله بترحاب وبحرارة. ويقال: مرحبا بك، كتعبير عن مجاملة في استقبال ضيف أو زائر. وقد نقول: أهلا ومرحبا. وقد نقول: “أتيت أهلا ولقيت سعة”.
حتى مقدم أو مقدمة البرنامج في التلفزة الأمازيغية قد كفتنا مزيدا من النقاش والمجادلة العقيمة. إنها تقول لضيوفها المستجيبين لدعوتها إلى الحضور. “أزول”! يعني مرحبا بكم، ولا تقول: “أزول” عليكم! فأزول احتفاء بالزائر، والسلام دعاء له! يعني أن الأول بعبارة أخرى، لا صلة له بالدين، وإنما له صلة بالأخلاق القائمة على العقل أو العادة. وأن الثاني دعاء من صميم الدين الذي له ضوابطه في الفقه الإسلامي. ومن ضمنها إفشاء السلام والرد عليه من باب التواصل والتوادد.
11- تساؤل آخر لا بد من إثارته. إنه العلاقة النحوية بين المصدر والفعل. ففي العربية التي هي لغة القرآن، يعتبر المصدر أصلا لجميع المشتقات، والنحو الأمازيغي نجهل قواعده. وجهلنا الذي نعترف به يحملنا على طلب العون من علمائنا الأمازيغ، حتى نتأكد من كون المصادر في الأمازيغيات هي كذلك أصل المشتقات؟ فصح أننا وقفنا أمام “أزول” كمصدر، دون أن نعرف الفعل المشتق منه على وجه التحديد! بل دون أن نعرف باقي المشتقات منه. فالاسم “ضرب” مصدر لفعل ضرب، وضارب، ومضروب، وضربة، ومضربة، وضريب، وضروب، وضريبة. إلى آخره. وسلام، وسلامة، مصدران، من مشتقاتهما فعل سلم (بكسر اللام)، وسالم، وسلامات، وسليم، وسلم (بالتشديد على اللام المفتوحة)، وسليمة. إلى آخره.
12- أما من حيث الدلالة، فإن السلام لا يعني دينيا مجرد تحية، وهي التي لا تتعدى حدود الاستقبال الودي، أو الترحيب بمن نعز ونقدر. فمدلوله يحمل شحنة عاطفية جماعية وشخصية، ذات أبعاد دينية وثقافية وتاريخية.
فالأبعاد الدينية له، إعلان صريح بالانتماء إلى الإسلام، وذلك من خلال تكرار كلمة “السلام” عدة مرات في يوم واحد. فضلا عن كون الكلمة تتكرر لمرات أخرى عند من يؤدون الصلوات الخمس المفروضة. وقد تتكرر لمرات إضافية عند من يواظبون على أداء بعض الصلوات التطوعية. إذ في كل تشهد يسلم المصلي على الرسول بقوله: “السلام عليك أيها النبيء ورحمة الله وبركاته”. وإلا فهل نتوقع من الأمازيغ أن يسلموا عليه بقولهم: “أزول عليك أيها النبيء”؟؟؟ أما قولنا في نفس نص التشهد: “السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين” فسوف يتحول إلى قول الأمازيغ “أزول علينا وعلى عباد الله الصالحين”؟
أما الأبعاد الثقافية والتاريخية للسلام، فيجسدها التواصل الحميمي لقرون بين جماعات بشرية مختلفة اللون والجنس واللغة والوطن الذي تقطنه. فكما يجمعها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، تجمعها التحية التي تتميز بها عن غيرها من باقي الجماعات البشرية المنتمية إلى ملل ونحل وأهواء أخرى غير الإسلام. ونذكر التحية لكونها واردة في الذكر الحكيم، حيث يقول الحق سبحانه: “وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها“.
وقد أورد ص في التشهد قوله: “التحيات لله” بصيغة الجمع “لأنه كان في الأرض ملوك يحيون بتحيات مختلفات. فيقال لبعضهم: أبيت اللعن! ولبعضهم اسلم وانعم! ولبعضهم: عش ألف سنة (ولبعضهم: الله يبارك في عمر سيدي). فقيل لنا: قولوا التحيات لله. أي الألفاظ التي تدل على الملك، ويكنى بها عنه لله تعالى”. مما يغلق الباب أمام التحيات الموجهة إلى الحكام على العموم، وإلى الملوك والأمراء، أو إلى قادة الدول على الخصوص! ومما يغلقه أمام إحداث تحيات ليس لها أية صلة بما دأب المسلمون على تكراره كل يوم “السلام عليكم”.
والسلام كتحية للمسلمين أو عند المسلمين والمسلمات، أولاه العلماء والفقهاء في مؤلفاتهم كثيرا من الاهتمام. “فقد أجمعوا على أن الابتداء به سنة مرغب فيها وأن رده فريضة”. و”أزول” من هذا المنطلق لا يعد سنة، كما أنه لا يعد فريضة. فرواد القناة الأمازيغية أو ضيوفها، يتم الترحاب بهم هكذا “أزول” فلان، دون أن يتبعها، ورحمة الله تعالى وبركاته! فيرد فلان المزول (على وزن مفعول) بقوله: شكرا. بحيث تكون الصورة التي نشاهدها -والترحاب بمسمى الضيف قائم- هي نفسها شرح دقيق لكلمة “أزول”! إنها تعني: مرحبا، أو أهلا وسهلا. ولا يمكن أن يمتد معناها لتحل محل تحية الإسلام بأي وجه. فالسلام عندنا يوجه إلى الأحياء وإلى الأموات في نفس الآن. يكفينا قوله ص وهو يخاطب المتوفين داخل المقبرة: “السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون“! والسلام هنا لا يعني “أزول” الأمازيغية! أي لا يعني مرحبا بك او بكم!
دون أن نخوض في نكتة، نفترض أنها ناجمة عن إمعان النظر في فعل “زال” المشتق من “الزوال”. فلو نحن حولناه إلى صيغة المضارع، لقلنا: “يزول، وتزول، وتزولون”. وإن أسندنا الضمير إلى المفرد المتكلم قلنا “أزول”!!! ثم نتساءل: هل هذا يعني أن المتكلم يقول لنا: أذهب! أو أفنى! أو أتلاشى! أو أختفي! أي إنني لم أعد موجودا على الإطلاق؟
ونريد هنا أن يطمئن الشيخ محمد زحل إلى أن إحلال كلمة “أزول” محل كلمة “السلام” كتحية خاصة بالمسلمين بعيد المنال. وأن المدافعين الأمازيغ عن ثقافتهم، لا يعني التطلع إلى تغيير مفاهيم الدين. إذ من حقهم الدفاع عن موروثهم الثقافي في إطار دولة الحق والقانون والعدل والمساواة. فالإسلام ذاته حريص كل الحرص على حفظ هويات الشعوب. إنه يتحدث عن الاتحاد، كما يتحدث عن الاختلاف. لكنه في الوقت ذاته يدين العصبية، إلى حد قوله ص: “ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية“.
ومن ضمن أحكام الإسلام ما يتعلق بفض النزاعات، وإنصاف المظلوم، ومعاقبة الظالم. فـ”أزول” ككلمة وقع عليها اختيار مجموعة من الأمازيغ لاستقبال من يحبون، وللترحيب بالضيوف داخل المنازل ومكاتب العمل والقنوات، لا نعتبرها نحن طعنا في الدين. فضلا عن كون الكلمة لا زالت في المهد! فكم يلزمها من الوقت كي تحبو؟ ثم كم يلزمها من الوقت كي تقف على قدميها؟ وحتى إن هي وقفت عليهما، وخطت خطواتها الأولى، فكم يلزمها من الوقت لتدرك سن الرشد؟ ثم إن الأمازيغ بخصوصها ينقسمون إلى أقلية وإلى أغلبية، ولكل خياره كي ينحاز إلى الصف الذي يجد عند أهله راحته؟ وأعتقد اعتقادا جازما بأن الأكثرية لا تقبل ولن تقبل استبدال السلام كتحية الإسلام والمسلمين بـ”أزول” كتحية محدودة الأفق، انطلاقا من المعنى الذي تحمله حين توجه إلى المرحب به، بينما السلام يحمل أكثر من دلالة ويؤدي أكثر من دور، يكفي أن نقول لمن ذهبنا لزيارته، أو لمقابلته، وحتى لمن قابلناه “السلام عليكم” لندرك مباشرة بأن السلام عليكم لا يعني أهلا ومرحبا بكم كما تعنيه كلمة “أزول”. والحديث في الموضوع طويل جدا وطويل؟؟؟
الموقع الإلكتروني: www.islamtinking.blog.com
العنوان الإلكتروني: [email protected]