أردوغان ودروس الإصلاح السياسي..
ذ. حماد القباج
هوية بريس – الخميس 03 أبريل 2014
بعيدا عن عدمية الذين لا يؤمنون بنسبية الإصلاح، ولا يدركون أن العجز عن فعل الواجب لا يسقط واجب فعل الممكن..
وبعيدا عن أزمة التصنيف السلبي التي رانت على كثير من العقول فأعمت عيونها عن إبصار أي إيجابية لدى المخالف مهما كان نجاحه وإنجازه..
هذه الأزمة التي هي من أسباب تخلفنا كما أنها من أبرز مظاهر جمودنا الفكري؛ فإن “تنميط الناس وتكوين انطباعات جامدة عنهم؛ يريح العقل من التفكير ويمكنه من تجهيز الأحكام وتعليبها والبناء عليها من غير جهد يذكر؛ ولهذا فإن المجتمعات المتخلفة تموج بالتصنيفات للشعوب والقبائل والأفراد..
وفي الأوساط الإسلامية فشا داء التصنيف: هذا سلفي وهذا إخواني وهذا تبليغي..، وهذا الاتجاه موال لكذا..؛ كلام كثير يُلقى على عواهنه؛ وحين ندقق فيه نجد أن معظمه بُني على ظنون وأوهام تفتقد الموضوعية، ولا تستند إلى أي أساس علمي..
إن السياسي مهما كان صالحا ومستقيما ومهما كان أداؤه ممتازا؛ ومتقدما فإنه لا يستطيع الحصول على الإجماع، وذلك لأنه سيظل هناك من يتأذى من إقامة العدل وتشييد صروح الحق؛ ورحم الله الماوردي حين قال:
إن نصف الناس أعداء لمن — ولي الأحكام هذا إن عدل
كما أن التصرفات الإصلاحية لأي دولة مهما كانت جيدة تظل مثيرة للجدل لدى بعض الناس وتظل قابلة للتأويل السيء والقراءة غير النزيهة”.
إذا ما راعينا ما تقدم؛ يمكن أن نقول بأن السيد رجب طيب أردوغان زعيم سياسي إسلامي قدمت تجربة حزبه دروسا عملية ناجحة يمكن أن يستفاد منها في عملية الإصلاح السياسي؛ ولعل أبرز هذه الدروس:
الدرس الأول:
أن مبدأ الإيمان بالله تعالى له دور مهم في ترشيد العمل السياسي وتحليته بالنزاهة والأمانة، وإقامته على دعامتي: العدل وأداء الحقوق لأصحابها؛ وهما الدعامتان اللتان أمر الله سبحانه أن يقام عليهما الحكم:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58].
إن السياسي والحاكم الذي يسعى لإقامة العدل وأداء الحقوق من منطلق الإيمان بالله السميع البصير، واليقين في ثوابه وأجره الذي لا يضاهيه ما يتكالب عليه غير المؤمنين من متاع الدنيا؛ سيكون مردوده -لا محالة- أقوى وأبرك من مردود غيره، وسيكون نفعه للناس أكبر وأوسع..
وهو ما قدّم عليه السيد أردوغان وإخوانه البرهان والنموذج العملي الذي نتمنى أن يقنع أولئك الذين يرون أن الإيمان الديني لا دخل له في السياسة..
ومما تجدر الإشارة إليه؛ أن أداء الحق يشمل المواطنين جميعهم على وجه التساوي بغض النظر عن دينهم وعقائدهم..
وقد استفاضت الأدلة في فقه السياسة الشرعية على تعليق واجب أداء الحق بصفة المواطنة، ووجوب احترام حقوق الأقليات وأصحاب الديانات:
في موطأ الإمام مالك (كتاب الأقضية- باب الترغيب في القضاء بالحق- حديث رقم 1206) بسنده عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اخْتَصَمَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ، فَقَضَى لَهُ”.
وروى أبو يوسف في كتاب الخراج (151) أن عمر بن الخطاب رأى شيخاً كبيراً يهوديا يسأل الناس فأخذ بيده وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: “انظر هذا وضرباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم“.
الدرس الثاني:
إن الاهتمام بمعاشات الناس والعمل على تيسير سبل استرزاقهم؛ يعتبر من صميم السياسة الشرعية..
وإذا كانت إقامة الدين وتوفير الأمن الروحي على رأس مقاصد هذه السياسة؛ فإن الأمن الاقتصادي ضروري للتمكين من أداء واجب العبادة لله الخالق جل وعلا:
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}.
عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة قال: «لئن سلمني الله، لأدعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا» [شرح السنة للبغوي (10/82)].
وقد سئل أردوغان: ماذا فعلتم ليبدأ تآمر الغرب عليكم؟!
فكان من جوابه:
“عندما تسلّمنا الحكم كان متوسط دخل الفرد السنوي في تركيا 3.5 ألف دولار، وأصبح في عهدنا 10.5 ألف دولار.
وانتقلت تركيا من الترتيب 111 إلى الترتيب 16 عالميا في القوة الاقتصادية.
واستلمنا تركيا وكانت صادراتها 23.5 مليار دولار، واليوم صادراتنا تجاوزت 153 مليار دولار في 2012 ..”.
الدرس الثالث:
يعجبني كثيرا ما يردده السيد أردوغان؛ من كونهم يعتبرون أنفسهم خداما للشعب..
والسياسة الشرعية تجعل من الحاكم خادما لحقوق الناس:
وهو ما يلاحظه المتأمل في سيرة الخلفاء الراشدين الذين أمرنا أن نتمسك بسنتهم (طريقتهم) في الحكم والسياسة..
كيف لا؟ ونحن نقرأ في سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان من عاداته في الحكم؛ الطواف والتجول ليطمئن على أحوال الشعب:
وقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق (44/352) بسنده عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أسلم أن عمر بن الخطاب طاف ليلة فإذا هو بامرأة في جوف دار لها وحولها صبيان يبكون وإذا قِدر على النار قد ملأتها ماء؛ فدنا عمر بن الخطاب من الباب؛ فقال:
“يا أمة الله أيش بكاء هؤلاء الصبيان“؟؟
فقالت: بكاؤهم من الجوع.
قال: فما هذه القِدر التي على النار؟
فقالت: قد جعلت فيها ماء أعللهم به حتى يناموا وأوهمهم أن فيها شيئا.
فجلس عمر فبكى.
قال: ثم جاء إلى دار الصدقة وأخذ غرارة وجعل فيها شيئا من دقيق وسمن وشحم وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغرارة، ثم قال: يا أسلم؛ إحمل علي.
قال: فقلت: يا أمير المؤمنين أنا أحمله عنك.
فقال لي: لا أم لك يا أسلم؛ بل أنا أحمله؛ لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة.
قال: فحمله على عنقه حتى أتى به منزل المرأة، قال: وأخذ القدر فجعل فيها دقيقا وشيئا من شحم وتمر وجعل يحركه بيده وينفخ تحت القدر.
قال أسلم: وكانت لحيته عظيمة فرأيت الدخان يخرج من خلل لحيته حتى طبخ لهم ثم جعل يغرف بيده ويطعمهم حتى شبعوا ثم خرج وربض بحذائهم كأنه سبع.
وخِفت منه أن أكلمه، فلم يزل كذلك حتى لعبوا وضحكوا الصبيان.
ثم قام فقال: يا أسلم أتدري لم ربضت بحذائهم؟ (بقيت قربهم).
قلت: لا يا أمير المؤمنين.
قال: “رأيتهم يبكون فكرهت أن أذهب وأدعهم حتى أراهم يضحكون فلما ضحكوا طابت نفسي“.
الدرس الرابع: فقه الازدحام
لا ريب أن واقع المجتمع والدولة في تركيا يشتمل على ما يخالف بعض ما يؤمن به الإسلاميون من مبادئ وأحكام شرعية، وأن الممارسة السياسية المعاصرة -عموما- تكثر فيها مخالفات يضطر إليها من يعمل في إطار تلك الممارسة..
السؤال:
هل هذا الواقع يسوغ شرعا للسياسيين الإسلاميين أن يعتزلوا السياسة؟
هل من الشرع أو من العقل أن يقولوا مثلا: هذه السياسة المعاصرة تخالف السياسة الشرعية فلنقاطعها؟!
لا أظن عاقلاً يقول بهذا!
لأن معناه الرضا باستمرار الفاسدين الذين أهلكوا دين الناس ودنياهم..
وما كان لرجال من طراز: عدنان مندريس ونجم الدين أربكان ورجب طيب أردوغان..؛ أن يسلكوا هذا المسلك غير الشرعي..
ولو أخذنا بأشد الأحكام قسوة في حق إسلاميي تركيا؛ لبقوا مع ذلك خيرا بكثير من أولئك المستبدين الظالمين الذين سخروا السلطة والثروة لترسيخ الأيديولوجية العلمانية بدل أن يسخروها لخدمة الشعب التركي..
تماماً كما يفعل اليوم في مصر؛ السيسي الذي يهيمن مع رفاقه على السلطة والثروة ويسخر جزءا كبيرا منها لتقوية الأجهزة الأمنية، ثم يقول للشعب المقهور: عليكم بالصبر والتقشف!!
إن ممارسة السياسة في أجواء ملوثة؛ بقصد تخفيف الشر وتقليل حجم الفساد، وتولي الأقل فسادا؛ مسلك شرعي عقلي منطقي..
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
“خاصية العقل أن يرتكب أدنى المكروهين ضررا ليتخلص به من أشدهما ضررا، وبهذا الأصل تعرف عقول الناس وتميز بين العاقل وغيره ويظهر تفاوتهم في العقول” [إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 124)].
والمجال السياسي هو أكثر المجالات التي تطبق فيها هذه القاعدة؛ وفي هذا السياق يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
“إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعه كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكن لا يتعمد ذلك كما لا يفعله غيره قصدا وقدرة؛ جازت له الولاية وربما وجبت؛ وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها..؛ كان فعلها واجبا.
فإذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من لا يستحق وأخذ بعض ما لا يحل وإعطاء بعض من لا ينبغي؛ ولا يمكنه ترك ذلك؛ صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به فيكون واجبا أو مستحبا، إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب.
بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم؛ ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره؛ كان ذلك حسنا مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدا.
وإنما الغالب في هذه الأشياء فساد النية والعمل؛ أما النية فبقصده السلطان والمال، وأما العمل فبفعل المحرمات وبترك الواجبات لا لأجل التعارض ولا لقصد الأنفع والأصلح” اهـ [مجموع الفتاوى (20/54)].
تأمل قوله: “كان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدا“.
وهو عين ما يضطر إليه الإسلاميون السياسيون، ولا يعذرهم فيه الإسلاميون (التصنيفيون) الذين أصيبوا بعمى الألوان؛ فلا يبصرون إلا الأبيض والأسود مع أن بينهما في الواقع ألوانا كثيرة..