بين قريش والتاريخ ومراجعات بعض السلفيين؟ (محمد الفزازي)
د. محمد وراضي
هوية بريس – الثلاثاء 08 أبريل 2014
إن صح أن النموذج القريشي في المجتمعات البشرية لا يتكرر، فإن هذا لا يعني أن تشبهه من بعض الوجوه، بمجتمعات أخرى منعدم! داخل شبه جزيرة العرب وخارجها، سواء من حيث التدين، أو من حيث التقاليد والأعراف، والسلوكات المتصلة بمجال السياسة والاقتصاد والمال والاجتماع والحرب والسلام، والنزاعات والتحالفات، والدفاع عن التخوم، ورفع البنود أو الرايات.
فكان لزاما على محمد الفزازي التائب -وأمير المؤمنين يصلي خلفه صلاة الجمعة- أن لا يغفل في خطبته الإشارة إلى أبي الأنبياء وصلته بمكة المكرمة وما حولها بتمامه! قبل ظهور قريش بها وسيادتهم عليها. والخليل كما نعرف، هو من قال عز وجل في حقه: “وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل“؟ وبعد انتهائهما من بنائه، تقدما إلى الله عز وجل بهذا الدعاء: “ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك. ومن ذريتنا أمة مسلمة لك. وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربما وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم. إنك أنت العزيز الحكيم“. بحيث إن هذا الدعاء، يلخص لنا ما من أجله يتجادل خصوم الإسلام وأنصاره إلى يومنا هذا. نقصد التنافر المحتدم بين مؤيديه ومعارضيه! وكأن قريشا التي عبثت بالحنيفية، لا تزال تمارس عبثها في صور جديدة معاصرة! وبكيفيات تشبعت بالخلاعة والرياء، والمكر والخداع، والإيغال في التضليل، والاستهزاء الذي أدرك ذروته في إنكار وجحد ما أتى به نبينا عليه الصلاة والسلام.
فديننا الذي يدافع عنه المخلصون الصادقون من أبنائه اليوم، سابق في تاريخ ظهوره لبعثة محمد بن عبد الله رسول الله. إنه دين جميع الرسل والأنبياء. وهو في صورته الأخيرة، تصحيح وتوضيح لما لحق به من تحريف ومن تشويه، على يد مبتدعة مختلف العصور والآباد! إذ كلما تم تبليغ خطاب رباني في سياق توالي رسائل الله إلى البشر، كلما ظهر مضلون دعاة الفساد في الدين والدنيا، لغاية إخراج المؤمنين من نور الإيقان واليقين، والزج بهم في بحر ظلمات الشك والعناد، والكفر والإنكار والمكابرة!
مع التأكيد على أن الخليل كأب لكافة الأنبياء، يعتمد لتبليغ ما أمر بتبليغه على حجتين: حجة الوحي، وحجة العقل كليهما. إنه عليه السلام، واجه قومه عبدة الأصنام مواجهة عقلانية عندما قام بتحطيمها! فكان أن وقفنا على هذه الحقيقة القرآنية، حيث إنهم “قالوا: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين. قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم. قالوا: فاتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون. قالوا: ءانت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون. فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون“!!!
ولما نكسوا رؤوسهم، وأبانوا عن عجزهم في الرد المقبول عقلا ودينا على ما تعرضت له آلهتهم من إدانة قاسية، واستسلموا للأمر الواقع، ازدادت حجة خليل ربّ العالمين قوة بالدليل المنطقي العقلاني المفحم لما يدعون حين قال: “أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم. أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون“؟
فكان أن تحقق دعاء سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل. فقد جعلهما الله مسلمين، وجعل من ذريتهما أمة مسلمة. وأراهم المناسك التي تعني بإطلاق كل ما يصح أن يعبد به الإنسان ربه. وقبل التحاقه عليه السلام بالرفيق الأعلى قرير العين، مطمئن البال، مرتاح الخاطر، خاطبنا الله كبشر -لا كمجرد جماعة أو كمجرد جنس- محذرا من التدين بدين آخر غير الإسلام فقال: “ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه. ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين. إذ قال له ربه أسلم. قال أسلمت لرب العالمين. ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون“.
إنما ما الذي حدث بعد حين من الدهر، والخليل وبنوه مضت على رحيلهم عن الفانية قرون تلو قرون؟ أو ما هو مصير الإسلام عند العرب الذين انقطعوا عن الشرك لأزمان ليس لنا إلى عدها من سبيل؟ لقد تركهم إبراهيم -كما تركنا نحن نبينا- على “المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك“! فأصبحت مكة لوجود بيت الله الحرام في قلبها، مقصدا لكافة العرب الذين اعتنقوا الإسلام، كما أرسى دعائمه خليل الرحمان، يأتيها الزوار من كل فج عميق لأداء فريضة الحج، ولأداء العمرة، ولمجرد الزيارة حبا في البيت العتيق. ولقضاء منافع أخرى دينية ودنيوية.
غير أننا لا نعرف إلى متى والعرب يدينون بدين الخليل وبنيه؟ كما أننا لا نعرف كيفية تخليهم التدريجي عنه؟ فقد كانت هناك في شبه الجزيرة العربية بقية من بقايا الحنيفية السمحة، قبل بعثة نبينا ص. لكن تأثيرها محدود الأفق، وكل محاولة للتغلب على الوثنية السائدة بين العرب، لن تكون سهلة، وإنما سوف تكون شاقة مكلفة! إن قلوب العرب قد أشربت كؤوس الكفر حتى الثمالة! وعربدتهم حول الكعبة تسير بها الركبان، ويتحدث عنها القاصي والداني.
وأهل مكة حتى قبل قريش، لهم جاه لدى العرب. إنهم سكان الحرم، لا يعانون من المسغبة، ولا حتى من غياب الاستقرار والأمن. وذلك راجع إلى مشيئة مسبب الأسباب، الذي لم يغب عنه مآل الكعبة وما حولها. فكان أن أحاطها بعنايته حتى والأصنام قائمة فيها كوسطاء بين عابديها وبينه سبحانه. فهم الذين قالوا: “ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى“. مع الإشارة الفورية هنا إلى ضرورة الاحتفاظ في أذهاننا بمقولتهم الضلالية التاريخية هذه!!! فقد تنتصب أمامنا كلما جرت إقامة موسم سنوي لولي مزعوم هالك! أو كلما تم الذبح عند ضريحه أملا في جلب المنافع ودفع المضار! إنهم بدورهم يقربوننا زلفى إلى الله سبحانه! وهذا ما يدركه محمد الفزازي كواحد من السلفيين الذين هم على دراية تامة بواقع الدين في العالم المعاصر!
وهنا نستحضر مقولة الفقهاء القائلة: “لا قياس مع وجود فارق” نعني أن تمتع قريش بالأمن والأمان والمعاش الضروري، لا يعني أننا في الوقت الحاضر نتمتع بنفس ما كان القريشيون يتمتعون به! والفزازي على بينة مما نقول!!!
وبما أن أطراف شبه جزيرة العرب في تفاعل مستمر مع ساكنيها، فإن التأثر بالديانات التي يعتنقها مواطنو تلك الأطراف، قد امتدت جذورها بعيدا لتفعل فعلها في القبائل العربية، واحدة تلو أخرى! فعمرو بن لحي في إحدى زياراته إلى الشام -وهو من كبار الأثرياء والوجهاء- وجد الشاميين يعبدون الأصنام. فكان أن قال لهم: “ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا. ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له هبل. فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه”!
قال ابن إسحاق: “واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره. فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات! وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم عليه السلام، يتمسكون بها في تعظيم البيت والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف على عرفات والمزدلفة، وهدي البدن. والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه.
فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا: لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك. إلا شريكا هو لك. تملكه وما ملك. فيوحدونه بالتلبية. ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده. يقول تعالى: “وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون“؟ أي ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي”!
والمقصود أن عمرو بن لحي “لعنه الله، كان قد ابتدع لهم أشياء في الدين (فعل المبتدعة من الصوفيين والقبوريين عندنا نحن حتى الآن!). غير بها دين الخليل. فاتبعه العرب في ذلك. فضلوا بذلك ضلالا بعيدا بينا فظيعا شنيعا. وقد أنكر الله تعالى عليهم ذلك في كتابه العزيز في غير ما آية منه فقال: “ولا تقولوا لم تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب“! وقال: “وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا: هذه لله بزعمهم. وهذا لشركائنا. فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله. وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون“!!!
ولمحمد الفزازي أن يستقرئ على مهله -كسلفي متحمس مندفع باعتراف منه- ما كان قبل إبراهيم عليه السلام. وما كان بعده -والدين الذي جاء به يجري تطبيقه- ثم ما كان بعد التوغل في تحريفه وتشويهه بعودة العرب إلى الشرك من باب أفعال عمرو بن لحي ونظرائه! ثم ما كان من انفراد قريش تحديدا بخدمة البيت الحرام إلى حين بعثة محمد بن عبد الله نبيا ورسولا للعالمين. ثم يقف على ما حذر منه الله ورسوله بخصوص تجنب الإحداث في الدين جملة وتفصيلا! واستنكار ما تم إحداثه فيه. والدب عن سنته ص. والعمل المتواصل على إحياء ما مات منها واندثر! على مرأى ومسمع من علمائنا المسؤولين أمام الله عن إظهار ما يعرفون؟ وعن تجنب كتمانه خوفا عليهم من المصير الأسوأ الذي حدده سبحانه وتعالى في كتابه المبين عبر أكثر من وعيد شديد؟
ومتى استقرأ الفزازي ما طلبنا منه استقراءه، فليحرص وليحرص معه غيره من السلفيين على الجمع بين فقهين متكاملين: فقه الدين وفقه الواقع، ما دام مكر العقل من وسائل عصرنا لزرع الهجين من الأفكار! ولإتلاف الحصيد الذي خوطب العلماء قرآنيا وحديثيا بحمايته، والدب عن حياضه، والعمل المستميت لأجل تفعيله، حماية للأمة من ظلامين: ظلام بدعي، يقوم افتراضيا على أساس الدين! وظلام يقوم على أساس الاستهزاء به وبأهله! ومتى انتهى من استقراء ما طلبنا منه استقراءه، لوجد نفسه مرغما على إعادة النظر فيما تصور أنه السبيل الأمثل إلى إنجاز مهمة العلماء الأتقياء الورعين على أحسن وجه.
إننا لا ننكر المراجعات، ولا نتشفى من أصحابها، أو نكي بهم نكاية. فالاعتراف بالأخطاء فضيلة تعلي من شأن المعترف. ولا تنقص من قدره. لكن قيمة الاعتراف بها، لا تعني التخلي عن المطلوب من العلماء الإصرار المتواصل عليه لإنجازه. إن المطلوب منهم في كل زمن وفي كل مكان، ليس هو مجرد تواصل مع الحكام فحسب. وإن كان هذا التواصل من لوازم الاشتغال بالموروث عن نبي الهدى والرحمة. أي إنه بدون ما تواصل، تبقى الدعوة إلى الله لازمة، لا متعدية بلغة النحاة! إنما على أساس أن يخضع التواصل مع كافة الأطراف لمبدأ “الولاء والبراء“! مع الندية المطلوبة إن هو تم في أي وقت وفي أي مكان، لأن المسلمين إخوة. ولأن أحدنا لا يفضل الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح. ولن يكون من التقوى في جميع الأحوال، غض البصر عن واقع موبوء ببدع، هي في مجملها مواقع أمامية، متقدمة لإصابة ما جاء به إبراهيم عليه السلام ومحمد ص بعده في الصميم. والأمر هنا لا يتعلق بشخص، وإنما يتعلق بهياكل مدعمة لمختلف وسائل الهدم. هذه التي يتقدمها الإعلام السمعي البصري!
ونكرر مرة أخرى أننا لا نرى عيبا في المراجعات. فقد كان عمر يقول: “رحم الله من أهدى إلي عيوب نفسي“! إنما هل كافة الأطراف مستعدة للقبول بهذا المبدأ الديني والأخلاقي؟ وهو مبدأ لو تحلى به الحكام لما انتهينا إلى ما وصف بالربيع العربي، الذي نعتبره نحن بمثابة هزات على إثر الرفض المستمر من طرف حكامنا لمبدأ عمر، الذي وجدنا له تطبيقا لدى بعض الرؤساء الغربيين!!!
إن المراجعات، حتى لا يستمر الفزازي ومعه كافة السلفيين، في الانبهار بوميض البرق قبل الرعود والأمطار، قام بها العلمانيون اليساريون لمرات عدة. وإن تساءلنا بخصوصهم وبخصوصها عما جناه الشعب من ورائها، وأصحابها أحسنوا ويحسنون التزلف في الماضي والحاضر، لم نجد سوى جعجعة بلا طحين؟؟؟
فهل من وعود حصل عليها الفزازي كما يشاع؟ وإن كانت هناك وعود فهل تنحصر في فتح الأبواب أمام استوزار بعض من رموز السلفية الذين تابوا، بدءا بإخلاء السجون ممن حوكموا بمدد متفاوتة لأنهم سلفيون خطيرون؟ أو لأنهم روجوا لشعارات تحملها بعض بياناتهم النارية المفترضة! فهل نجد الفزازي غدا كوزير للأوقاف يصدر قرارات مخالفة لما دأب وزير الأوقاف البودشيشي الحالي خصيم السلفيين على إصدارها؟ هل يصدر قرارات لدك أعشاش الفكر الظلامي الديني الذي التزمنا لسنوات بفضح متقمصيه وحامليه والمروجين له! أم إن السلفيين المستوزرين افتراضيا لن يكونوا أحسن حالا من زملائهم الإسلاميين الذين انغمسوا في إطار حكم، يدعم بسخاء تام جماعة القبوريين والطرقيين؟
ليس هذا فحسب، فرئيس الوزراء الحالي لا يبدو أنه يوجه المسؤول عن إدارة الشأن الديني في بلدنا! وإنما يبدو أن هذا المسؤول مستقل بالقرارات التي يتخذها ويتكامل في اتخاذها افتراضيا مع أعضاء المجلس العلمي الأعلى، ومع أعضاء المجالس العلمية الجهوية؟ حتى وزير الإعلام في الحكومة الحالية، ترك باب القنوات التلفزية مفتوحا أمام من يعبثون بالدين في أكثر من برنامج! تركه أمام من يقدمون صورا عن الأضرحة التي تعلوها حلل مزركشة زاهية (درابيز)! كما يقدمون القيمين عليها وهم يتحدثون عن كرامات المقبور الذي لا يزال تصرفه فيمن حوله ولو بعد مماته تصرفا لا يشك فيه الزوار من مثقفين ومن غيرهم من الدهماء الذين جرى ويجري خداعهم بامتياز! دون إغفال المكر الذي يعتمده القيمون أولئك كرذيلة بإمكاننا استحضار صورها بعد إبراهيم عليه السلام! وإنها لتتكرر والقرآن والحمد لله مع ذلك مصون محفوظ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! فقد سجلنا ونسجل بأم أعيننا وبأسماعنا كيف يتم التطاول على ما ورد فيه بخصوص الوعيد المتصل بمن سيقومون بتحريفه وتشويهه، تماما كما يقومون بتشويه وبتحريف سنة رسول الله ص في واضحة النهار!!!
وما نحذر منه، وحذرنا منه لمرات، هو الابتداع الذي تدرج منذ عهد الصحابة، في سلم من التعقيد المستمر، إلى حدّ عنده أدرك ذروته، يكفي رفض الظلاميين للتوحيد الحق، وحرصهم على تأليه محمد ص! بل وحتى على تأليه غيره ممن يوصفون بأنهم أولياء الله وأحباؤه.
ولنسق من صميم القلب -كخاتمة- لمن خاطبناه بلغة الإسلام الحق هذين البيتين:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا — ويأتيك بالأخبار من لم تـــزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع لـــه — بتاتا ولم تضرب له وقت موعد
الموقع الإلكتروني: www.islamtinking.blog.com
العنوان الإلكتروني: [email protected]