قضية «بريمات» مزوار ومن معه.. ما هَكَذا يُحَارَبُ الفساد!
ذ. عبد الله النملي
هوية بريس – الإثنين 21 أبريل 2014
في تناقض صارخ مع القانون رقم 10.37 الذي صادق عليه المغرب، والمتعلق بحماية الضحايا والشهود والمُبَلغين في جرائم الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ، انتهت بعد عام ونصف، قضية بريمات مزوار ومن معه، بعد أن فضل القضاء حفظ شكايات الجمعيات الحقوقية وتبرئة ذمة المتهمين في هدر المال العام، وإدانة المُبَلغ عن الفضيحة المالية بشهرين حبسا موقوف التنفيذ، على خلفية إفشاء السر المهني، وتسريب وثيقة إدارية لجريدة وطنية تثبت عملية تبادل العلاوات بين الوزير والخازن العام للمملكة.
وقد عَبّر المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان عن “استغرابه لمنطوق الحكم، في قضية ما بات يُعرف بـ”تبادل العلاوات بين وزير المالية السابق مزوار والخازن العام بنسودة”، القاضي بإدانة المهندس عبد المجيد ألويز، بتهمة إفشاء السر المهني، بشهرين موقوفي التنفيذ وغرامة مالية قدرها 2000 درهم، في تضييق بَيّن على فاضحي الفساد وتشجيع واضح للمفسدين، في الوقت الذي ينتظر فيه المجتمع فتح تحقيق حول تلك العلاوات، ووضع حد للإفلات من العقاب في الجرائم الاقتصادية والمالية”.
وخلافا لما ذهب إليه القضاء من توقيع العقوبة على المُبلغين، بحجة إفشاء السر المهني، بشكل لا يتوافق تماما مع شعارات المرحلة، أعتقد أنه ما هكذا يُحارب الفساد، ذلك اطلاع الراي العام على وثائق إدارية ليس جريمة، ما دامت لا تُخالف مقتضيات الفصل 27 من الدستور، ولا تمس بالدفاع الوطني وأمن الدولة الداخلي والخارجي، علاوة عن أن الإبلاغ عن جرائم الفساد لا يُعَد من قبيل الوشاية، ويخرج عن نطاق الأسرار المهنية التي يتعين كتمانها وعدم إفشائها، بل إن السر المهني ذاته يتعين إفشاءه إذا كان القصد منه الحيلولة دون وقوع جريمة، كما يجب أن يستفيد المبلغون من الحماية ما داموا يعملون بحسن نية، وبناء على اعتقاد مُعَلّل بأن المعلومات التي أفشوها كانت صحيحة إلى حد كبير، ووضع ضمانات في القانون لحماية الشهود والمبلغين عن قضايا الفساد وإهدار المال العام، لما يمكن أن يتعرضوا له من اجراءات عقابية قد تتسبب في قطع أرزاقهم، أو تكون سببا في منع غيرهم من الإبلاغ عن وقائع فساد قد يرونها. وبالتالي أصبح لزاما سن قانون يحمي المبلغين عن جرائم الفساد، يهدف إلى تشجيع عملية الكشف عن التصرفات المنافية للقانون، والتي يقوم بها مسؤولون أو موظفون أو هيئات حكومية.
وغير خاف أن الإبلاغ عن جرائم الفساد هو واجب قانوني وأخلاقي وشرعي، وذلك عملا بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان“، فضلا عن أن التبليغ عن الجرائم وجرائم الفساد من الحقوق الأساسية للإنسان التي كفلتها المواثيق الدولية والتشريعات الوطنية، بل إن هذا الحق يرقى إلى مصاف الواجب في كثير من الأحيان، وذلك عند ممارسته من قبل الموظفين العموميين، إذ قد يَحول التبليغ عن الجريمة دون وقوعها، وتفادي النتائج الخطيرة التي قد تَنْجُم عنها، ويؤدي إلى تعزيز مشاركة الأفراد والمجتمع في مكافحة الإجرام بشتى صوره.
وتحرص المواثيق الدولية المتعلقة بمكافحة الجريمة والفساد على إلزام الدول الموقعة عليها، على تضمين تشريعاتها الداخلية نصوصا قانونية تُلزم الموظفين الإبلاغ عن جرائم الفساد التي يكتشفونها أو تصل إلى علمهم بحكم قيامهم بواجباتهم الوظيفية، وكذلك وضع الضمانات القانونية لحمايتهم من عواقب الإبلاغ عن جرائم الفساد، ومن ذلك اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2003 التي انعقدت الدورة الرابعة لمؤتمرها بمراكش في أكتوبر 2011، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية لسنة 2000، كما تتجه العديد من الدول إلى تبني سياسة تشجيع الإبلاغ عن الفساد، كإحدى وسائل مكافحة الفساد، وحماية المبلغين والشهود مما قد يلحق بهم نتيجة قيامهم بأعمال التبليغ.
واعتبر تقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية، أن المغرب مازال مُتَخلفا في محاربة الفساد، سواء في محيطه العربي أو الإفريقي، حيث احتل المرتبة 91 من بين 175 دولة جرى تصنيفها ضمن مؤشر إدراك الرشوة، بعدما كان يحتل المرتبة 88 من بين 182 دولة شملها التصنيف، وهي مرتبة أسوأ من مالاوي وزامبيا وبوركينا فاسو.
وسجل تقرير مجلس أوروبا لتشخيص مكافحة الفساد، أن الرشوة ما زالت منتشرة في المغرب، رغم التدابير التي اتخذت لمكافحة الظاهرة. كما خَلُصَت الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة “ترانسبرانسي” المغرب، في تقريرها السنوي، أن المغاربة لا يُبَلغون عن الرشوة، لأنهم لا يثقون في مدى فعالية اللجوء إلى الهيئات الإدارية والقضائية.
وغني عن البيان أن السنوات الأخيرة بالمغرب، عرفت ظُهورا مُلفتا لجرائم نهب المال العام، حتى أصبحت عبارة “دَارْ عْلَاشْ يْوَلي” مثلا سائرا، مما جعل حركة 20 فبراير بالمغرب ترفع شعارا مركزيا يُؤَطر كل احتجاجاتها “الشعب يريد إسقاط الفساد”، ولا غرابة في ذلك إذا علمنا، على سبيل المثال لا الحصر، أن 80% من مديونية المغرب، آنذاك، أهْدَرها الفساد الذي طال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وحده، وأن حجم المبالغ المُخْتَلسة، لا يقل عن 115 مليار درهم.
وانطلاقا من الدراسات التي قام بها عدد من الأطر المختصة في مجموع المبالغ المُخْتَلَسة، توصلوا إلى أنها تمثل حوالي 14 مرة الاحتياطي المغربي من العملة الصعبة لسنة 2001، وأزيد من 34% من الناتج الداخلي الخام، وكافية لبناء أزيد من 20 ألف مدرسة، وأكثر من 220 ألف مستشفى متوسط، وما يفوق عن 170 ألف سكن اقتصادي، وإحداث ما يربو عن 400 ألف منصب شغل.
وقد قَدّر البنك الدولي الخسارة التي يتكبدها المغرب بسبب الفساد المُسْتَشري في الصفقات العمومية بـ3,6 ملايير درهم خلال سنة 2007، أي ما يعادل 0,5 من الناتج الداخلي الخام. وسبق لعبد العالي بنعمور رئيس مجلس المنافسة أن صرح بأن الاقتصاد المغربي يخسر سنويا ما قيمته 20 مليار درهم، وهو ما يجعل المغرب يفقد حوالي نقطة ونصف من نسبة النمو، بسبب اقتصاد الريع غير المشروع، وغياب المنافسة الشريفة، مضيفا أن التصدي لظاهرة الفساد كفيل بأن يربح المغرب نقطتين من معدل النمو سنويا.
وبالعودة إلى دستور المغرب، نجده يضع بين يدي الحكومة مجموعة من آليات الزجر والمحاسبة لم تقو بعد الحكومة على تفعيلها ضد الفاسدين، بحيث يُنيط (الدستور) مسؤولية الرقابة للمجلس الأعلى للحسابات للتحقق من سلامة العمليات المتعلقة بمداخيل ومصروفات الأجهزة الخاضعة لرقابته، وتقييم كيفية تدبيرها ويعاقب عند الاقتضاء، كما أسند المشرع مسؤولية حسابات الجماعات المحلية وهيئاتها للمجالس الجهوية للحسابات، وأتاح للبرلمان تشكيل لجان نيابية مؤقتة لتقصي الحقائق، تقوم بجمع المعلومات في وقائع معينة، فضلا عن تأسيس الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة في 2008 كمؤسسة للتوعية واقتراح التوجهات لمحاربة الرشوة، غير أن كل هذه المؤسسات ضعيفة المردودية، والسبب راجع لغياب الإرادة السياسية في تقديم الجُناة للمحاكمة. وقد أثبتت تجارب سابقة، تم فيها إحداث لجان تقصي، كما حدث سنة 1995 حول المخدرات، عندما عمدت الدولة إلى قيادة حملة سميت زورا ب “حملة للتطهير”، غير أنها لم تكن بدافع البحث عن الحقيقة، بقدر ما كانت حملة لتقديم بعض الأكباش الصغيرة فداء للحيتان الكبرى.
ثم إن القانون المعروف من أين لك هذا؟ ظل حبرا على ورق، أما المُتَاَبعون في قضايا الفساد المالي فيُسَرحون، في حين يتعرض الأشخاص الذين يفضحون انتهاكات المال العام للمضايقات، وحتى المتابعات، كما حدث مع أديب وجالطي والزعيم ومفتش القرض الفلاحي، ومحاكمة موظفين بتهمة “إفشاء السر المهني” بعدما نشرا وثائق تتعلق بتبادل كل من وزير المالية السابق وخازن المملكة علاوات مالية مشكوك في مشروعيتها، الشيء الذي يؤكد أن القرار السياسي في البلاد، رغم الشعارات المرفوعة، يقضي باستمرار انتهاك المال العام. وكلنا يتذكر أن البصري وزير الداخلية سابقا صرح أنه يمتلك 500 ملف فساد جاهزة لتقديمها للقضاء، غير أنه لم يَفْعَل ذلك، ويبدو أن “العفاريت والتماسيح” شكلت العقبة الكأداء في وجه حكومة بنكيران، فأعْلَنَها صراحة “عفا الله عما سلف”.
ولعل الفقر الذي يُصَنف بموجبه المغرب في مؤخرة دول المعمور، ليس راجعا إلى السياسات الاقتصادية والاجتماعية وسوء توزيع الثروة والفوارق الفاحشة في الأجور فحسب، بل يعود بالأساس إلى مظاهر النهب التي يتعرض لها المال العام منذ عقود خلت، دون حسيب ولا رقيب.