الحملة على «التشرميل».. ومبدأ تناسب الجريمة والعقاب؟!
ذ. نبيل غزال
هوية بريس – الإثنين 28 أبريل 2014
قبل سنتين من اليوم فاجأ المحامي عثمان المريني في ندوة نظمتها استئنافية القنيطرة في مقر الجهة، في إطار الحوار الوطني من أجل إصلاح منظومة العدالة، الحضورَ بدعوته إلى تبني الشريعة الإسلامية كخيار استراتيجي وأساسي لأي إصلاح يروم وضع جهاز القضاء على سكته الصحيحة.
واعتبر آنذاك المحامي عضو هيأة المحامين في القنيطرة، في تدخله أمام عدد من القضاة والمحامين وكتاب الضبط والمفوضين القضائيين والموثقين، أن (اعتماد العدالة المغربية على القوانين الوضعية الآتية من الغرب وتطبيق العقوبات المستقاة منها لم يزد الإجرامَ إلا استفحالا داخل المجتمع)، وأضاف أن (القوانين المعمول بها حاليا لم تُصلح من وضع العدالة في شيء، طالما أنها أقصت القرآنَ والسنة كمرجع).
وقال المحامي إن القضاء يعتمد نصوصا قانونية غريبة عن المواطن وبعيدة عن هويته، وأشار إلى أن الحل السليم للخروج من المشاكل الجمة التي يتخبط فيها هذا الجهاز هو تطبيق العقوبات الإسلامية لطابعها الردعي، موضحا أن (اعتماد عقوبة حد قطع يد السارق ورجم الزاني سيجنب تراكم الملفات في الرفوف، لكون الحدود الشرعية تحقق الردع للآخرين، وفيها العظة لمن تُسوّل له نفسه ارتكاب مثل هذه الجرائم المتفشية بشكل كبير في المجتمع)، معربا عن أسفه لاهتمام المسؤولين القضائيين بالإحصائيات عوض أن ينصبّ الاهتمام على محتوى الأحكام القضائية الصادرة وعلى مدى إنصافها للمتقاضين. (المساء؛ ع:1878).
وهي شهادة جريئة حقا؛ ومطلب لا يفصح عنه إلا شخص شجاع بالفعل؛ لا يعبأ بأبواق الغزو الفكري والإعلام الاستئصالي الذي ينعت عادة كل من يرفع هذه المطالب بالتشدد والرجعية والهمجية والتخلف؛ والمثير للانتباه في هذا المطلب صدوره من رجل من أهل الميدان ومن ممارس يعلم -من خلال عمله اليومي- مدى قصور القانون الوضعي المستمد من النظام الجنائي الغربي في الحد من الجريمة التي صارت ظاهرة في المغرب، وتطورت إلى صور جديدة وظواهر غريبة من بينها ظاهرة «التشرميل».
وقد تأكد للجميع اليوم أن القوانين الجاري بها العمل عاجزة كل العجز عن الحد من الجريمة أو حتى التقليل منها؛ إضافة إلى تراكم القضايا والملفات، وفقدان المواطنين الثقة في جهاز القضاء، واكتظاظ السجون والإصلاحيات بالمجرمين نتيجة ضعف قـوة الردع، بالإضافة إلى إرهاق خزينة الدولة وتحمل المؤسسات السجنية والأمنية أعباء كثيرة مضاعفة؛ بمحاولتها معالجة إفرازات الظاهرة؛ وتعبئة القوى والطاقات للحد من انتشارها؛ دون جدوى..
ومقابل ذلك؛ فالجريمة آخذة في الانتشار والتنظيم يوما بعد آخر؛ سواء تعلق الأمر بجرائم السطو أو الاعتداء على الأشخاص أو الإخلال بالأمن العام أو الاختلاس أو التزوير أو الاحتيال.. ولم يعد المواطن المسكين يأمن على نفسه خاصة في المدن الكبرى.
وما يقتل في الدار البيضاء وحدها جراء عمليات الإجرام الفردية والمنظمة أضعاف ما قتل حدا إبان الحكم الأموي كله؛ فالحكمة والعقل والإرادة الصادقة والنظرة العميقة والمقاربة الجادة كل ذلك يحث المتدخلين والساهرين على حماية الأمن على وضع استراتيجية متكاملة للحد من ظاهرة الجريمة؛ استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار ودون حساسية كل الجوانب المؤثرة في هذا الموضوع؛ وتضع نظاما عقابيا يحفظ مصالح الناس وكذا النظام العام من الخلل والتفكك والانهيار.
لكن تبقى -وإلى حد الساعة- هذه المطالب مجرد أماني لأن الصوت العالي والخطاب المسموع هو الخطاب الاستئصالي الذي يعتمد العلمانية/اللائكية مرجعا له؛ والذي يعتبر النظام الشرعي لمحاربة الجريمة نظاما متخلفا يهدر كرامة الإنسان؛ ويصف -بصفاقة منقطعة النظير- الحدود الشرعية التي ثبت بالحجة والبرهان نجاعتها وإصلاحها أكثر من ثلاثة عشر قرنا؛ بالعقوبات الوحشية التي تضاعف نسبة العجزة والمعاقين في المجتمع.
وما أوتي هؤلاء إلا من عدائهم وحقدهم على الشريعة الإسلامية؛ ومن جهلهم بنظام الإسلام في محاربة الجريمة؛ هذا النظام الرباني الذي يتشدد في وسائل الإثبات؛ ويدرأ الحدود بالشبهات؛ ويضع الحد على المضطر وصاحب الحاجة.. إلى درجة أن الحد لا يكاد يطبق إلا في حالات معدودة تكون كافية لردع المنحرفين؛ وفعالة في الحد من الجريمة، بخلاف نظام العقوبات المدنية.
فـ(القوانين الوضعية واضعها البشر، والبشر مهما بلغوا من العلم فعلمهم قاصر، فهم إن علموا ما في أمسهم ويومهم فلن يعلموا ما في غدهم، وإن علموا بعض طبائع البشر فلن يعلموا كلها، وإن أحاطوا علما ببعض السيئات فلن يحيطوا بها كلها..) كما قال الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه الحدود في الإسلام ومقارنتها بالقوانين الوضعية.
ويتغافل المحاربون للشريعة الإسلامية -من غير مبرر- عن مثالب النظام الغربي الذي يصرون على تطبيعه وإسبال الألقاب عليه ووصفه بخلاصة التجربة الإنسانية؛ فالقانون البريطاني -مثلا- ينص على أن «الاغتصاب أو الاعتداء على أعراض الآخرين، يعتبر جريمة عقوبتها الحبس مدى الحياة بفتاة دون 13 عاماً والحبس لمدة سنتين بفتاة دون 16 سنة، ولا يعتبر جريمة إقامة علاقة جنسية غير مشروعة مع فتاة فوق 16 عاماً»؛ فهل هناك عبث أكثر من هذا..؟
مع العلم أن عقوبة السجن المقترحة بديلا عن الحد الشرعي ليست أقل إيلاما للمجرم، وليست أحفظ منها لكرامة الإنسان؛ لأنها عقوبة تقع على حرية الإنسان وإرادته واختياره، وتميت فيه هذه المعنويات التي تعد أعز وأكرم ما منحه الله لابن آدم، إذ بها يتميز عن باقي المخلوقات، وكل مخلوق يقاس بما أعطي من المميزات عن غيره..
وقد دلت الإحصاءات على أن العقوبات السالبة للحرية والإرادة قد فشلت في محاربة الإجرام فشلا ذريعا؛ وبخاصة تلك الجرائم التي شرع لها الإسلام عقوبات بدنية كالسرقة وقطع الطريق والقذف وشرب الخمر والزنا، ويدل على ذلك مناداة بعض علماء القانون بالرجوع إلى تطبيق بعض العقوبات البدنية على بعض أنواع الجرائم. (الوجيز في أحكام الحدود والقصاص والتعزير؛ أ.د ماجد أبو رخية).
وهي أكثر رحمة ومراعاة لمصالح الناس والمجتمع؛ “فأيهما أقسى: قطع يد السارق، وتركه بعد ذلك يتمتع بحريته، ويعيش بين أهله وولده، أم حبسه على هذا الوجه الذي يسلبه حريته وكرامته وإنسانيته؟! فضلا عن أن وضعه في السجن تنفيذا للعقوبة السالبة للحرية طوال المدة المحكوم بها محروما من حريته بعيدا عن أهله وذويه؛ يكون كالحيوان الذي يوضع في قفص أو كالميت في قبره“(التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة ص:665).
ويكفي للتدليل على ذلك قول الحق جل في علاه: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179).
قال السيوطي: “أي بقاء عظيم يا ذوي العقول لأن القاتل إذا علم أنه يُقتَل ارتدع فأحيا نفسه”.
وقال الحافظ ابن كثير في التفسير: “..إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكانَ ذلك حياة النفوس”.
وقال الشيخ وهبة الزحيلي: حكمة القصاص: أنه يساعد على توفير الحياة الهانئة المستقرة للجماعة، ويزجر القاتل وأمثاله ويقمع العدوان، ويخفف من ارتكاب جريمة القتل، إذ من علم أنّه إذا قتل غيره قتل به، امتنع عن القتل، فحافظ على الحياتين :حياة القاتل والمقتول. اهـ.
إضافة إلى أن القصاص كفارة للجاني وتطهير له من إثم المعصية وشؤمها.
وهذه ليست دعوة إلى تطبيق الحدود؛ بقدر ما هي دعوة إلى الرجوع إلى أصلَيْ التشريع والحكم وهما القرآن والسنة؛ فتطبيق الحدود وحده لن يحل المشكلة إذا بقيت المجالات الأخرى معطلة فيها أحكام الشريعة، لأن الإسلام كُلٌّ لا يتجزأ يجب الدخول فيه كافة؛ ولا يقبل تطبيقه في الجنايات والحدود وتغييبه وتعطيله في الاقتصاد والسياسة والاجتماع..
ثم إن الشريعة الإسلامية التي هذبت الإنسان الجاهلي وجعلت منه نموذجا للإنسانية ومفخرة لها؛ غير عاجزة البتة عن تهذيب الإنسان المدني وإخراجه من معاناته ومشاكله التي لا حد لها.
وما يجب ألا يغيب عن ذهننا هو أن الإسلام ليس خطبا تلقى ولا مواعظ تحرك القلوب؛ ولا حثا على الأخلاق والفضيلة فحسب؛ بل هو نظام شامل لكافة مناحي الحياة؛ ومنهج قويم يهدي إلى الفلاح في الدنيا والآخرة؛ ولا يملك المنتسب إليه الخيرة في الاحتكام إلى قوانين تخالف ما نصت عليه نصوص الكتاب والسنة؛ بل هو ملزم ومأمور بالاحتكام إلى شريعة الله والوقوف عند حدوده وحلاله وحرامه؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} الأحزاب.وقال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (سورة النساء).